بقلم ستيفاني جراسيا
ترجمة وتحرير مريم الحمد
لقد كانت حقيقة مؤسفة انطبقت على الأندلس، كما وصفها الديكتاتور الراحل فرانسيسكو فرانكو بأن “العرب جاؤوا ثم غادروا”، بعد تأثير الإسلام في إسبانيا وشبه الجزيرة الأيبيرية الذي امتد لأكثر من 8 قرون، حتى سقوط غرناطة آخر إمارة إسلامية عام 1492.
تزامنت المرحلة الأخيرة من سيطرة المسيحيين على إسبانيا مع محاكم التفتيش، وهي مؤسسة تابعة للكنيسة الكاثوليكية الرومانية، أقرها التاج الإسباني بهدف استئصال المعتقدات التي اعتبرتها الكنيسة مهددة للمعتقد المسيحي آنذاك.
قبل سقوط غرناطة، كان فرديناند الثاني قد وقع معاهدة غرناطة مع محمد الثاني عشر ملك غرناطة، والتي نصت على حرية الدين وعدم تحويل المسلمين عن دينهم قسراً مقابل خضوعهم للتاج الإسباني، ولكن تلك الاتفاقية لم تُنفذ أبداً، وعلى الأرض، جرت حملة لتحويل المسلمين واليهود قسراً إلى المسيحية الكاثوليكية، تم نفي اليهود، أما المسلمون فتعرضوا لعمليات “تطهير”، بلغت ذروتها بالطرد النهائي عام 1609 في عهد الملك فيليب الثالث.
فما الذي حدث للمسلمين الذي عاصروا حقبة محاكم التفتيش بصمت؟ وكيف كانت حياتهم بعد تحويلهم إلى الكاثوليكية قسراً؟
نقاء الدم
أول دليل على ما حدث معهم يكمن في التسمية التي أُطلقت عليهم، الموريسكيون، فكلمة “موريسكو” باللغة الإسبانية تعني المستنقع الصغير وتشير إلى المسلمين السابقين وأحفادهم ممن أجبرتهم محاكم التفتيش على تغيير ديانتهم، كما أن تخصيص الاسم لهم يدل على أنهم لم يتمكنوا من التخلي تماماً عن عقيدتهم الإسلامية، فتحولهم الظاهري لم يتغلغل إلى حقيقة أصلهم المغربي أو المسلم.
وفكرة الأصل المغربي أو المسلم تعود جذورها إلى “نقاء الدم” كفكرة تطورت في إسبانيا المسيحية في أواخر القرن 14، وفي ظل نظرية الدم، تجاهل الحكام الكاثوليك في إسبانيا حقيقة أن العديد من المسلمين الإسبان هم من نسل التزاوج بين العرب والأمازيغ و الايبيريين، كانوا مسيحيين ثم اعتنقوا الإسلام.
استخدمت فكرة “نقاء الدم” لاستهداف المتحولين اليهود الجدد إلى الكاثوليكية، لكن الشك ساد بأن هؤلاء الجدد لم يكونوا مخلصين بما فيه الكفاية، وبلغ الاضطهاد ضد مجتمعات اليهود المتحولين ذروته مع صدور سلسلة من القوانين التمييزية من قبل مجلس توليدو عام 1449، والتي منعت أعضاء هذه المجتمعات من شغل مناصب عامة أو بعض الوظائف أو الزواج من العائلات المسيحية، كما تم تطبيق قوانين مشابهة على الموريسكيين كذلك بعد سقوط غرناطة.
يذكر التاريخ أن العديد من هؤلاء اليهود والمسلمين حافظوا على ديانتهم الأصلية في الخفاء، والبعض تحول إلى المسيحية، ولكن ذلك لم يبعد عنهم الشكوك وعدم الإنصاف بكل الأحوال، فقد اعتبر المتحولون منافسين اقتصاديين، لأن انتمائهم الجديد يعني وجوب انتفاء التمييز ضدهم على أساس الدين، ولكن العنصرية لم تختف رغم ذلك.
في محاولة لتفسير أسباب التمييز العنصري، أشارت المؤرخة ماريا إلفيرا روكا باريا إلى فرضية “استرضاء أوروبا”، فخلال تلك الحقبة، كان لدى بقية أوروبا ريبة وازدراء تجاه الإسبان بسبب ما أسموه “وجود دماء قذرة” بمعنى أن الإسبان تم “تشويه نسلهم من قبل اليهود والموريسكيين”، ومن هنا كانت لدى التاج الإسباني رغبة في دفع إسبانيا لصدارة السياسة والقوة، الامر الذي دفع فرديناند وإيزابيلا إلى الترويج لفكرة “نقاء الدم”، كمرجع شرعي للتمييز ضد الإسبان من موروث إسلامي حتى لو كانوا من أصل ايبيري.
استمرت محاكم التفتيش قرابة 350 عاماً، واتسمت بالعنف الشديد والانحدار الأخلاقي والاجتماعي والثقافي
وفي فرضية ثانية، أشار المؤرخ بي بورونات، إلى نظرية “الرعب العثماني”، باعتبار “وجود طابور خامس من الموريسكيين قد يستدعي غزوات العثمانيين”، مما يشكل تهديداً قوياً لأوروبا بعد سقوط القسطنطينية عام 1453.
الإسلام في الخفاء
هناك العديد من الأدلة على أن الموريسكيين حافظوا على إسلامهم في الخفاء رغم الترهيب القسري، حتى بات يُعرفون بـ “المسلمين المشفرين” إن صح التعبير، وقد اصدر عدد من العلماء المسلمين فتاوى بجواز إخفاء عقيدتهم خوفاً على حياتهم، منها فتوى وهران التي أصدرها المفتي أحمد بن أبي جمعة، لم تذكر الفتوى الموريسكيين بالاسم حتى لا تلفت الانتباه إليهم، لكنها أشارت إلى الغربة بشكل عام.
تمحورت أحكام الفتوى حول مساعدة المسلمين على كيفية ممارسة شعائرهم بدون لفت للانتباه، كالصلاة من خلال حركة طفيفة والزكاة من خلال إعطاء المتسولين، كما سمحت الفتوى لهم بتناول الخنزير والنبيذ إذا كانت حياتهم في خطر، فقد كان ذلك الأسلوب متبعاً من قبل محاكم التفتيش، باختبار المسلمين بأكل الخنزير أو الشتم بحق النبي محمد.
من المصادر التي تشهد على ممارسة الموريسكيين للإسلام في الخفاء، ما كتبه شاب باسم مستعار اسمه “شاب أريفالو”، تضمنت روايات عن مسلمين سريين ووصفاً لممارساتهم، مثل توزيع صفحات من القرآن في أماكن مختلفة من المنزل حتى لا يتم كشفهم، بالإضافة إلى قصة امرأة موريسكية كانت تبلغ من العمر 93 عاماً، كانت أمية تعرف القرآن شفوياً فقط.
النزوح القسري
بعد قرن من الحكم الإسباني، في أوائل القرن 17، أمر الملك فيليب الثالث بطرد الموريسكيين من إسبانيا، فقد كتب شاهد عيان مؤيد لطرهم يدعى بيدرو كاردونا، عن نزوحهم القسري من فالنسيا بوصف “الدموع والحزن وسط الضجة والصيحات”، لنساء وأطفال وشيوخ هجروا منازلهم مجبرين.
في كتابه “تطهير إسبانيا المسلمة”، أشار ماثيو كار إلى أنه قد “تم تهميش الموريسكيين واضطهادهم لأكثر من قرن قبل أن تقرر إسبانيا أنهم لن يصبحوا صالحين، لذلك تم إلقاؤهم عند شواطئ شمال أفريقيا”.
“الأندلس عالم ينتمي إلى الماضي، لكن هذا الماضي له سمعة وتأثير على من مروا ورحلوا، فقد تركوا وراءهم ثقافة وموسيقى وأفكار لا تزال موجودة حتى اليوم” – سعدان بن بابالي
استمرت محاكم التفتيش قرابة 350 عاماً، واتسمت بالعنف الشديد والانحدار الأخلاقي والاجتماعي والثقافي، كان المسلمون يُجبرون على أكل لحم الخنزير، كما تم تدنيس المصاحف وتدمير أماكن عبادتهم أو تحويلها إلى كنائس، وبعد مرسوم فيليب الثالث عام 1609، خضع الموريسكيين إلى رادار محاكم التفتيش.
استمرت ممارسة الإسلام فترة طويلة حتى بعد الطرد في غرناطة عام 1727، فحياة الموريسكيين لم تنقطع فيها لدرجة أنهم حصلوا على ثروة كبيرة من خلال ملكية الأراضي والزراعة، الأمر الذي أدى إلى تلاشي تأثير العربية والإسلام ببطء، وبحلول منتصف القرن 19، كان الإسلام قد اضمحل بشكل كبير من شبه الجزيرة الايبيرية.
الإرث الباقي
تتضمن جينات الإسبان اليوم أدلة على الوجود الإسلامي في أيبيريا، فوفقاً لعلماء الانساب، فإن معظم الإسبان يتشاركون ما بين 1-10% من حمضهم النووي مع جيرانهم في شمال أفريقيا، ويرجع ذلك إلى الوجود المغاربي في أوائل القرن 8، وإلى استمرار وجود أحفاد الموريسكيين حتى اليوم.
كما تظهر علامات الموريسكيين والإسلام في العمارة والثقافة والمطبخ حتى يومنا هذا، خاصة في الأندلس، من خلال الفن المدجن في الحرف والبلاط، والمدجن من كلمة مدجان في العربية، أي “من بقي”.
واليوم، لا يزال موضوع إعادة الجنسية الإسبانية لأحفاد الموريسكيين محل جدل في إسبانيا، خاصة وأن بعض أحفاد اليهود الإسبان يحق لهم الحصول على الجنسية الإسبانية، حيث تشير اللجنة الإسلامية في إسبانيا إلى أن أهمية ذلك “لا تتمثل في التعويض القانوني فقط، بل أيضاً من الناحية العاطفية والعدالة التاريخية”.
في الواقع، تراث الإسلام والموريسكيون أنفسهم لم يغادروا إسبانيا أبداً، فقد أكد الأكاديمي سعدان بن بابالي، الذي يقول أن أسلافه من الموريسكيين الذين تم نفيهم إلى الجزائر، أن “الأندلس عالم ينتمي إلى الماضي، لكن هذا الماضي له سمعة وتأثير على من مروا ورحلوا، فقد تركوا وراءهم ثقافة وموسيقى وأفكار لا تزال موجودة حتى اليوم”.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)