الهيمنة الخفية: دولة الاحتلال وصنّاع القرار في واشنطن: من يوجّه من؟

بقلم أميل الكلاي

ترجمة وتحرير نجاح خاطر

لطالما عملت كل الإدارات الأمريكية، سواء كانت ديمقراطية أم جمهورية، بلا كلل على حماية دولة الاحتلال من أي مساءلة.

ولعل أفضل رد على السؤال المتكرر: “ماذا عن 7 أكتوبر؟” والذي لا يزال الإعلام يستخدمه لإسكات وإرباك كل من يتحدث من منظور فلسطيني أو إنساني، خصوصًا في السياق السياسي الأمريكي هو: “ماذا عن 6 أغسطس؟”.

شهد ذلك اليوم تفجير القنبلة النووية الأولى في التاريخ على مدينة هيروشيما اليابانية عام 1945، وبعد ثلاثة أيام، في 9 أغسطس/آب، فجرت الولايات المتحدة القنبلة الثانية على ناغازاكي، في ضربتين أسفرتا معاً عن مقتل ما يقرب من 200 ألف شخص.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ كان هناك ما يُعرف باسم “عملية اجتماع البيت”، أو قصف طوكيو بالنار في مارس/آذار 1945، ما أسفر عن مقتل عشرات الآلاف وترك أكثر من مليون شخص بلا مأوى.

إن سياسة الأرقام هذه، والتي باتت مألوفة اليوم في سياق ما يحدث من إبادة جماعية في غزة، تبعث  حقاً على الرعب.

وقد أوضح الجنرال الأمريكي كيرتيس لي ماي، الذي قاد حملة القصف على طوكيو، ما تعنيه استراتيجيته الجديدة باستخدام النابالم على أحياء مكتظة: “لو كنا قد خسرنا الحرب، لكنا جميعًا مُحاكمين كمتهمين بجرائم حرب.”

وفي مقابلة عام 1984، أشار لي ماي أيضًا إلى أن القنابل الأمريكية “قضت على 20% من سكان كوريا الشمالية” واستهدفت “كل ما يتحرك”، وهو ما يوضح حجم الجرائم الأمريكية غير المعلنة. 

كما قال المؤرخ بروس كومينغز لمجلة نيوزويك: “معظم الأمريكيين لا يعلمون أننا دمّرنا مدنًا أكثر في الشمال الكوري مما فعلنا في اليابان أو ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية … كل كوري شمالي يعرف هذا، وهو محفور في أذهانهم، لكننا نحن لا نسمع عنه أبدًا”.

العقاب الجماعي

رغم أن الرئيس الأمريكي السابق جون ف. كينيدي أوقف لي ماي عند محاولته استخدام الأسلحة النووية ضد كوبا، إلا أن الجنرال ظل يؤمن بعقيدة “إعادة الناس إلى العصر الحجري” خلال الحرب على الهند الصينية، حيث دمّرت النابالم من الجو فيتنام ولاوس وكمبوديا.

لي ماي توفي قبل حرب الخليج 1991، لكن مع الحروب الأمريكية في أفغانستان والعراق وليبيا وغيرها، بقيت هذه العقيدة حية، حيث يجعل الاعتماد المفرط على الإرهاب الجوي الجماعي السكان الأصليين يُعاملون كفئة دون البشر، وحيث يُفترض أن كل الأفراد مذنبون ويجب معاقبتهم جماعيًا لإخضاع أي مقاومة بالكامل.

من يتحكم بالسياسة الأمريكية تجاه فلسطين؟

هل تتحكم الولايات المتحدة حقًا في سياستها الخارجية تجاه فلسطين، أم أن جماعات الضغط المؤيدة لدولة الاحتلال هي التي تُمليها؟

هناك تصريحات حديثة لا تخيب الآمال في هذا الصدد، فبعد هجوم فلسطينيين اثنين في 8 سبتمبر/أيلول عند موقف حافلات في القدس أدى إلى مقتل ستة من مستوطني دولة الاحتلال، صرح السفير الأمريكي لدى دولة الاحتلال مايك هاكابي، قائلاً: “نقف مع دولة الاحتلال ضد هذه الهمجية.”

وتفاعل قادة العالم بإصدار تصريحات تضامنية، بينما استمرت ما يُسمى بـ “أوركسترا الدعاية” (Hasbara Symphony Orchestra) بحسب المحلل معين رباني، في الترويج لمصطلحات دعائية عن “أرض الخصوبة للإرهاب” و”أبراج الإرهاب”، بهدف تشويش الرأي العام وإخفاء مسلسل جرائم الحرب والإبادة اليومية التي يمارسها جيش الاحتلال بدعم أمريكي كامل.

هنا تبرز أسئلة حاسمة: هل تتحكم الولايات المتحدة في سياستها فعليًا، أم أن السياسات مفروضة عليها عبر جماعات الضغط المؤيدة لدولة الاحتلال؟ وهل يمكن أن تكون كلا الحالتين صحيحتين في الوقت ذاته؟

النفي المعقول والسيطرة الإسرائيلية

قبل أن تتحول الصحافة الأمريكية الرئيسية إلى مجرد “كُتّاب نسخ”، ومع السيطرة المؤسسية والأيديولوجية على الإعلام، كان “النفي المعقول” عنصرًا أساسيًا في العقيدة الأمريكية، داخليًا وخارجيًا على حد سواء، لكن مع تسريبات إدوارد سنودن وتشيلسي مانينج وجوليان أسانج، ووفرة المعلومات المتاحة، أصبحت “المعرفة” نفسها قضية جدلية ومعقدة.

ومع ذلك، فإن الفيل الموجود في الغرفة — وهو الوجود المهيمن لدولة الاحتلال في كل مستويات الولايات المتحدة، داخليًا وخارجيًا — يبدو وكأنه يوفر شكلًا أكثر تفصيلاً من “النفي المعقول” مما اعتدنا عليه خلال الحرب الباردة أو حتى في ما يسمى بـ “حرب الإرهاب”.

المناورات الأمريكية تحت الإدارات المختلفة

بينما لجأت إدارة بايدن/هاريس إلى أساليب متقنة من الغسل الإعلامي النيوليبرالي، مرفقة بمبادرات تبدو عبثية مثل مشروع رصيف غزة، واصل فريق ترامب/فانس مناوراته المضحكة على نحو يشبه المسرح الكابوكي، مثل خطة ويتكوف وأوامر ترامب على منصة “تروث سوشيال”، بينما بنى في الوقت ذاته ما يشبه مراكز الاحتجاز الجماعية في صورة “مراكز مساعدات إنسانية”.

كلا الإدارتين استخدمتا الفيتو ضد قرارات وقف إطلاق النار في الأمم المتحدة، وزودتا دولة الاحتلال بكل الأسلحة اللازمة، إلى جانب الضغط والتغطية لدعم الحلفاء، سواء كان ذلك ماديًا أو سياسيًا.

في ظل هذه المعطيات، يصبح من السخرية القول إن الولايات المتحدة، بوصفها قوة عظمى مسلحة ومزودة بكل وسائل الدعم لدولة الاحتلال، لا تستطيع وقف الإبادة في غزة بمجرد مكالمة هاتفية أو قرار تنفيذي واحد.

العلاقة الخاصة بين واشنطن ودولة الاحتلال

تبقى الولايات المتحدة تحت سيطرة مصالح دولة الاحتلال، سواء من خلال لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (AIPAC) التي تحافظ على ولاء السياسيين الأمريكيين، أو عبر وسائل أكثر خفاءً. 

كما أن سياسات ومؤسسات الولايات المتحدة ودولة الاحتلال متشابكة تمامًا، بدءًا من تدريب قوات الشرطة الأمريكية على أساليب دولة الاحتلال، وصولًا إلى اعتماد تقنيات المراقبة التي ستتوسع في عصر “الإقطاعية التكنولوجية” الجديد.

يعكس التغيير في الإدارة الأمريكية تحولًا في الأسلوب أكثر منه في السياسة الجوهرية، فهل يمكن أن تكون البنية الأيديولوجية والتكنولوجية والسياسية لدولة الاحتلال شكلاً معقدًا من “النفي المعقول” بالنسبة للسياسة الأمريكية في المنطقة؟

في ظل التغييرات الأخيرة في سوريا، ومحاولة الولايات المتحدة تولى “الوصاية” على لبنان، واستهداف إيران عسكريًا واقتصاديًا، والخنق السياسي لمصر عبر البنك الدولي وصندوق النقد، والاتفاقيات المعروفة باسم “اتفاقيات أبراهام”، وكيفية التعامل مع دول المنطقة، يصبح من الصعب التفكير بخلاف هذا السيناريو.

الجالية اليهودية الأمريكية بين الولاء والواجب

يثير هذا الواقع أسئلة أوسع حول موقع الجالية اليهودية الأمريكية، سواء أولئك المؤيدين لدولة الاحتلال والصهيونية أو المعارضين لها، ففي هذا السياق، يبدو رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو، الذي عاش سنوات في فيلادلفيا، النموذج الأمثل للزعيم الإسرائيلي: إذ يمكن أن يُدان من قبل التقدميين ويُشاد به من قبل الصهاينة.

لكن الهيكل الحالي يسهّل ويُحافظ على الوضع الراهن، موطّدًا دور دولة الاحتلال كوكيل أمريكي للحفاظ على الهيمنة العالمية، بينما يمنع النظر الأعمق في الدور التاريخي والمعاصر للولايات المتحدة في العالم، وفي الوقت نفسه، يبدو أن قبول هذا الدور ينطوي على مخاطر لم تبدأ الجالية اليهودية الأمريكية في معالجتها بعد.

للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة