بداية عصر إمبراطوري جديد: تحولات خطيرة تلوح في الأفق!

بقلم جون ريس

ترجمة وتحرير مريم الحمد

مع انتهاء الربع الأول من القرن 21، وصل النظام العالمي عند نقطة فاصلة حقاً فيما يتعلق بالمنافسة بين الدول.

لقد وُلد النظام الحديث في القرن 17 عندما أنشأ الهولنديون والإنجليز أجهزة الدولة الرأسمالية في الداخل والإمبراطوريات الرأسمالية في الخارج، ثم أعيد تشكيله أكثر من مرة منذ ذلك الحين، كان أولها مع صعود الدول الرأسمالية الصناعية ونظام الاستعمار الأوروبي في القرنين 18 و19، ثم إعادة تشكيله مرة أخرى بعد أن انهار في الحربين العالميتين في النصف الأول من القرن 20، أو “حرب الثلاثين عاماً” بين عامي 1914-1945، كما أطلق عليها المؤرخ إي إتش كار.

كانت الحرب الباردة التي انبثقت عن ذلك الصراع العالمي بمثابة بداية عصر هيمنة الولايات المتحدة الذي عشناه لعقود، واليوم بتنا نعيش في عصر انحدار الولايات المتحدة وصعود نظام عالمي متعدد الأقطاب.

مفهوم الحمائية وتحالفه مع الانعزالية

لقد ظهرت بعض تأثيرات هذا التغيير بوضوح على مدى الأشهر الاثني عشر الماضية، حيث تشكل نزعة الحماية التي يتبناها دونالد ترامب أحد جوانب هذا التحول الجذري، فالقوى الصناعية الناشئة هي التي تتبنى سياسات حماية، كما فعلت الولايات المتحدة في النصف الأول من القرن العشرين وبريطانيا قبل عام 1840، على عكس التي تتمتع بالهيمنة!

الحقيقة أن القوى الصناعية التي تتمتع بوضع مهيمن في السوق تميل إلى تفضيل التجارة الحرة، كما فعلت المملكة المتحدة بعد الثورة الصناعية والولايات المتحدة عندما أصبحت القوة الرائدة في العالم بعد عام 1945، حيث استخدمت التفوق الاقتصادي لفتح الأسواق المحمية في الدول الأخرى.

اليوم أصبحت الصين بطلة التجارة الحرة، فيما تتخذ الولايات المتحدة منعطفاً نحو حماية نفسها للمرة الأولى منذ ثلاثينيات القرن العشرين، فمن الممكن أن تؤدي الحروب التجارية إلى صراع عسكري، ولكن ليس بالضرورة.

النفط الأكثر إنتاجية وربحاً في العالم موجود في الشرق الأوسط، ومن الأسهل استخراجه مقارنة بأي مكان آخر، كما أن طريق الشحن البحري بين البحر الأحمر وقناة السويس يشكل أهمية حاسمة للتجارة العالمية، وقد ثبت ذلك من خلال تأثير هجمات الحوثيين، وبالتالي فإن عدم الاستقرار السياسي في المنطقة يخلف دائماً تأثيراً عالمياً ليس إقليمياً فقط

في حالة ترامب، فإن نزعة الحماية لديه تبدو متحالفة في شكلها مع الانعزالية، وهذا يؤدي إلى تصور أوسع رعاه ترامب لأسباب انتخابية وقت جدلية الانسحاب من العراق، وهو أنه يكره تورط الولايات المتحدة في “حروب خارجية” على حد قوله.

هذا بلا شك يعد قراءة خاطئة للوضع الذي تجد الإمبريالية الأمريكية نفسها فيه، فترامب ربما يرغب في إبعاد نفسه عن حروب الجيل الأخير، بما فيها حرب أوكرانيا، ولكنه ليس من دعاة السلام في نهاية المطاف!

يريد ترامب التركيز على الصين، وهو من دعاة العداء الواضح لإيران، كما تشكل تصريحاته المهينة المعروفة حول حلف شمال الأطلسي تهديداً يهدف إلى حمل القوى الأوروبية على زيادة إنفاقها على الأسلحة وهو تكتيك حقق نجاحاً ملحوظاً في فترة ولايته الأولى.

لقد شن ترامب بالفعل هجوماً مماثلاً ضد الدول الأوروبية في حلف شمال الأطلسي (الناتو) قبيل تنصيبه رئيساً، مطالباً إياها بدفع نسبة غير مسبوقة من الناتج المحلي الإجمالي قدرها 5% على الأسلحة، في حين تدفع الولايات المتحدة نفسها 3.5%، وهذه بالتأكيد علامة على تراجع الهيمنة الأمريكية، فالعاصمة الإمبراطورية لم تعد قادرة على تمويل تفوقها العسكري لوحدها على ما يبدو!

استعداد مستدام للحرب

ربما يرغب ترامب، بل ربما يكون قادراً على، تسهيل السلام بين المنهكين من حرب أوكرانيا، سلام يجمد الأعمال العدائية من دون التقليل من احتمالات اندلاعها مرة أخرى في المستقبل، إلا أن تلك الحرب قد دفعت قوى حلف شمال الأطلسي على طريق تأهب واستعداد مستدام للحرب، كما عززت تحالفات الرئيس الروسي فلاديمير بوتن مع آخرين مثل الصين.

لا تعد أوكرانيا المكان الوحيد الذي يمكن فيه اكتشاف ضعف الهيمنة الأمريكية، فالوضع في الشرق الأوسط يشير إلى نفس القصة، حيث يبدو وكأن الولايات المتحدة ترغب في تقليص التزامها بضبط الأمن في الشرق الأوسط من أجل التركيز على المشكلة الإمبراطورية الجديدة في الشرق الأقصى.

في هذه الحالة، يعد فك الارتباط أمراً مستحيلاً، فالنفط الأكثر إنتاجية وربحاً في العالم موجود في الشرق الأوسط، ومن الأسهل استخراجه مقارنة بأي مكان آخر، كما أن طريق الشحن البحري بين البحر الأحمر وقناة السويس يشكل أهمية حاسمة للتجارة العالمية، وقد ثبت ذلك من خلال تأثير هجمات الحوثيين، وبالتالي فإن عدم الاستقرار السياسي في المنطقة يخلف دائماً تأثيراً عالمياً ليس إقليمياً فقط.

يمكن القول أنه مع بداية عام 2025، هناك قوة مهيمنة ضعيفة يقودها لأول مرة منذ ما يقرب من 100 عام، رئيس على وشك التوجه نحو إدارة إمبراطورية بمزيج من السياسة الحمائية والانعزالية والتفويض للوكلاء

قد يبدو المشهد وكأن الإمبريالية الأمريكية مرت بعام جيد، حيث قامت حليفتها إسرائيل بتدمير غزة وتقليص فعالية حزب الله كما شهدت الإطاحة بديكتاتورية بشار الأسد في سوريا، إلا أن الثمن السياسي لهذا كان باهظاً، فقد أصبحت إسرائيل دولة متهمة بارتكاب جرائم إبادة جماعية، ورئيس وزرائها رجل مطلوب في 124 دولة لارتكابه جرائم حرب، فمن غير الواضح ما إذا كانت هذه الدولة المارقة تخضع بالكامل لسيطرة سيدها الإمبراطوري!

تحدي الصين

علاوة على كل ما سبق، فقد انتهكت إسرائيل “خطوطاً حمراء” أمريكية من خلال احتلال المزيد من الأراضي السورية في مرتفعات الجولان، مما يزيد من تعقيد خريطة سوريا بالفعل، فالمشهد السياسي لسوريا ما بعد الأسد، سوف تقرره تركيا بقدر ما تقرره الولايات المتحدة بشكل مباشر.

بصرف النظر عن المزايا التي حققتها إسرائيل من خلال قوة السلاح، إلا أنه وبشكل مثير للسخرية فقد تم إبطالها بسبب الضرر الدبلوماسي والسياسي الذي جلبته لنفسها، فضلاً عن احتمال تجدد الصراع في سوريا ما بعد الأسد، حيث تواجه الحكومة الجديدة الأكراد والقوات المسلحة وربما إسرائيل لاحقاً.

رغم كل الصعوبات التي تواجهها الإمبريالية الأمريكية في انتشال نفسها من التزاماتها الأوروبية والشرق أوسطية، فإنها سوف تستمر في تركيز قوة كبيرة لمواجهة منافسها الجديد في الهيمنة العالمية، وهذا ضرورة بنيوية للنظام الإمبراطوري العالمي، بغض النظر عن الضجيج حول “التعايش السلمي” الذي تصدره الدولة الصينية وأبواقها الغربيون.

لقد تنبأ الكثيرون بتزايد قوة الصين الاقتصادية والعسكرية، وأنها سوف تشكل في يوم ما تحدياً للإمبريالية الأمريكية، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى حوادث دولية خطيرة والتهديد بحرب أوسع نطاقاً.

ضعف الهيمنة

رغم صحة تلك التوقعات إلى حد كبير، إلا أن الاقتصاد حتى الذي تحول إلى التصنيع بنفس سرعة اقتصاد الصين، فلن يستمر في الارتفاع بشكل كبير إلى الأبد، فقد كانت هناك دلائل منذ فترة طويلة على أن معدل النمو في الصين قد انخفض بشكل دائم عن ذروته.

لقد أدرك الحزب الشيوعي الصيني الديكتاتوري هذه الحقيقة بطبيعة الحال، فأخذ يحاول تطوير سوق الصين الداخلي للتعويض، كما فعلت العديد من الدول الصناعية من قبل.

في الواقع الأمريكي على أية حال، فقد تؤدي مثل هذه التغييرات الحادة في التنمية الاقتصادية، مع كل التفكك الاجتماعي الذي لا مفر منه في ظل مثل هذه الظروف، إلى تحديات اقتصادية وسياسية أكبر من تلك التي واجهها القادة الصينيون من قبل.

هذا يزيد من احتمالية التوتر الدولي طبعاً، فالإمبراطورية وإدارة الاضطرابات الداخلية هما عاملان محركان مرتبطان ببعضهما البعض، وذلك ما يمكن أن تشهد عليه الطبقات الحاكمة في بريطانيا والولايات المتحدة. 

يمكن القول أنه مع بداية عام 2025، هناك قوة مهيمنة ضعيفة يقودها لأول مرة منذ ما يقرب من 100 عام، رئيس على وشك التوجه نحو إدارة إمبراطورية بمزيج من السياسة الحمائية والانعزالية والتفويض للوكلاء. 

ففي الصين، يواجه ترامب منافساً عالمياً ربما تكون سنوات نموه الأكثر روعة قد انتهت بالفعل، في حين تنتظره أخطر المشاكل الداخلية التي خلقها هذا النمو، حيث تحاول الحكومات التي تواجه مثل هذه المشاكل دائماً إضفاء الطابع الخارجي على المشاكل وإلقاء اللوم على الأعداء، والبحث عن حلول من خلال النجاح الإمبراطوري.

لاشك أن هذا المزيج من العوامل كفيل بجعل الربع الثاني من القرن 21 عصراً يتعين على المواطنين العاديين فيه أن يحشدوا جهودهم للحفاظ على السلام!

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة