بقلم جوزفين فاليسكي
ترجمة وتحرير مريم الحمد
خلال شهر أكتوبر وفي ظل الإبادة الجماعية التي تجري الآن في غزة، اجتمع قادة ألمانيا في كنيس يهودي في برلين لتذكر ضحايا الهولوكست الذي يشكل جزءاً من تاريخ ألمانيا في اضطهاد اليهود في أوروبا قبل 85، تحديداً في نوفمبر عام 1938.
ومع ذلك، فلا يبدو أنهم تعلموا من تاريخهم، ففي خطابه تلك الليلة، أكد المستشار الألماني أولاف شولتز أن “مكان ألمانيا هو إلى جانب إسرائيل”، وأضاف “إن أي شكل من أشكال معاداة السامية يسمم مجتمعنا، تمامًا مثل المظاهرات والمسيرات الإسلامية”، بل واسترسل بتهديد المهاجرين بالترحيل إذا أظهروا سلوكًا معاديًا للسامية على حد وصفه.
عادة ما تخلط الحكومة الألمانية بين اليهودية والمشروع الصهيوني، حتى أنها تبنت تعريفاً يتضمن عملياً كل أي مظهر لكراهية إسرائيل أو مناصرة الهجوم عليها، وقد تجلى هذا التعريف بوضوح من خلال الحملة القمعية ضد المتضامنين مع الفلسطينيين والتقييد الخطير لحرية التعبير.
اقترح حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، أكبر حزب معارض في ألمانيا، تشريعاً من أجل تشديد العقوبة على الجرائم المعادية للسامية قد يؤدي إلى فقدان أو حرمان اللاجئين من الحماية الدولية إذا ارتكبوا مثل هذه الجرائم!!
علاوة على ذلك، فقد كشف خطاب شولتز بوضوح عن أن الحملة القمعية تحمل أيضاً بعداً معادياً للإسلام وللمهاجرين، في الوقت الذي تتبنى فيه الحكومة الحالية، بقيادة الديمقراطيين الاشتراكيين، موقفاً متشدداً تجاه الهجرة، وذلك من أجل محاولة استجلاب أصوات اليمين، ففي 25 أكتوبر، وافقت الحكومة على اقتراح تشريعي لتوسيع صلاحيات الشرطة بالتفتيش واحتجاز وترحيل الأشخاص الذين لا يحملون أوراقًا ثبوتية.
وبعد أسبوعين من ذلك التاريخ، اتفقت الحكومة الفيدرالية مع حكومات الولايات على تخفيضات إضافية على بند الدعم المالي لطالبي اللجوء واحتمال الاستعانة بمصادر خارجية لإجراءات اللجوء إلى دول ثالثة!
تقييد الحريات والحقوق
ومع ذلك، فكل هذه الإجراءات ليست كافية بالنسبة للعديد من السياسيين من الوسط إلى اليمين، فهم يصورون احتجاجات التضامن مع الفلسطينيين على أنها معادية للسامية ويستغلون ذلك من أجل المطالبة بمزيد من القيود على الحقوق والحريات.
في تسجيل حديث له، دعا نائب المستشار، روبرت هابيك، الجمعيات الإسلامية في ألمانيا صراحة إلى النأي بنفسها عن حماس مهدداً بالترحيل وإلغاء تصاريح الإقامة لأولئك الذين يعبرون عن دعمهم للجماعة.
وفي مثال آخر، اقترح حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، أكبر حزب معارض في ألمانيا، تشريعاً من أجل تشديد العقوبة على الجرائم المعادية للسامية قد يؤدي إلى فقدان أو حرمان اللاجئين من الحماية الدولية إذا ارتكبوا مثل هذه الجرائم!!
في سياق الممارسة العملية، يبدو أنها بدأت تأخذ منحى بالفعل، فقد ورد أن منسق شبكة صامدون للتضامن مع السجناء الفلسطينيين، والتي تم حظرها مؤخراً في ألمانيا، زيد عبد الناصر، قد تلقى أمراً بالترحيل بسبب نشاطه بالفعل.
لو توقفنا عند مقترح حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، فسوف يتضح أنه بموجب التشريع المقترح، يتعين على الأشخاص الذين يتقدمون بطلب للحصول على الجنسية الألمانية التعهد بدعم حق إسرائيل في الوجود، وأنه يمكن حرمانهم من الجنسية إذا لم يلتزموا بذلك أو إذا تم تصنيفهم بأنهم يمتلكون “عقلية معادية للسامية”!!
لو كانت الحكومة الألمانية مهتمة حقاً بحماية اليهود، فكان الأجدى بها أن تحاول معالجة معاداة السامية القادمة من الأغلبية البيضاء اليمينية، بدلاً من التحريض على الكراهية ضد الأقليات
ملخص ذلك كله، هو أنه لو كنت ألمانياً تحمل جنسية مزدوجة وترتكب ما يعتبر وفقاً للتشريع المقترح جريمة معادية للسامية، فسوف تفقد جواز سفرك الألماني في حالة إدانتك بل ويحكم عليك بالسجن لأكثر من عام!
علاوة على ذلك، فقد طالب الحزب صراحةً بإلغاء قانون معلق يتيح للأجانب تسريع طلبات الحصول على الجنسية، بعد ما شهده من مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين، كما اقترحت وزيرة العدل السابقة، سابين لوتيوسر شنارينبرجر، أن يتم اقتصار حرية التجمع على المواطنين الألمان فقط.
في الوقت الذي يتنافس فيه الساسة الألمان بإلقاء اللوم على المهاجرين والمسلمين والعرب أو أي شخص غير أبيض، فإنهم يتجاهلون أو يتناسون حقيقة أن معاداة السامية بين الألمان البيض والمسيحيين والملحدين هي مشكلة موجودة أوسع موجودة أصلاً، حيث أن 80% من الجرائم المعادية للسامية عام 2022 ، تم ارتكابها من قبل أشخاص ينتمون إلى الطيف اليميني المستمر بالتمدد منذ سنوات.
يذكر أنه عندما صار معروفاً بشكل علني قبل أشهر أن نائب حاكم ولاية بافاريا، هيوبرت أيوانجر، كان قد شارك في دعاية معادية للسامية في الثمانينيات من القرن الماضي، زادت حصة حزبه من الأصوات في الانتخابات القادمة وقامت الحكومة بمكافأته بوزارة رابعة!
مسؤولية تاريخية
لو كانت الحكومة الألمانية مهتمة حقاً بحماية اليهود، فكان الأجدى بها أن تحاول معالجة معاداة السامية القادمة من الأغلبية البيضاء اليمينية، بدلاً من التحريض على الكراهية ضد الأقليات، وهذا فحوى رسالة تم نقلها مؤخراً من قبل حركة العمال اليهود العالمية خلال وقفة احتجاجية رفعوا فيها شعار “أنتم لا تحموننا” أمام البرلمان.
لطالما مر العنف اليميني في ألمانيا دون أي محاسبة، سواء اتخذ شكل معاداة السامية أو جرائم الكراهية الأخرى، فقد فشلت الحكومة مثلاً في اتخاذ أي إجراء عندما أصبح معروفًا عام 2011 أن النازيين الجدد كانوا متورطين في موجة قتل استمرت 7 سنوات تحت غطاء جهاز المخابرات آنذاك.
ومنذ عام 2014، ابتدع عشرات الآلاف من اليمينيين مسيرات أسبوعية في الاثنين من كل أسبوع ضد ما أطلقوا عليه “أسلمة الغرب”، مما شرعن بشكل أو بآخر لحوادث قتل مثلما حصل عندما أطلق متعصب يميني النار على 9 أشخاص من أصول مهاجرة فقتلهم في مدينة هاناو عام 2020.
وماذا عن نتائج دراسة أجريت عام 2023 ، كشفت عن أن العنصرية ضد السود في ألمانيا ارتفعت بنسبة 50 % تقريبًا منذ عام 2016!
رغم ذلك، لم يطلب أحد من الألمان البيض والمسيحيين والملحدين أن ينأوا بأنفسهم عن أي من هذه الحوادث، بل بات من الواضح، من خلال تزايد خطابات السياسة الداخلية والخارجية، أن بعض الأرواح أكثر قيمة من غيرها بالنسبة للحكومة الألمانية!
وتسير شيطنة أولئك الذين يُنظر إليهم على أنهم مسلمون أو مهاجرون، وقمع الاحتجاجات التضامنية، جنباً إلى جنب مع الدعم السياسي والمالي الذي تقدمه ألمانيا لإسرائيل.
وفي الوقت الذي دعت فيه دول إسرائيل إلى وقف إطلاق النار، أكد شولتز من جديد على رفضه لذلك، بل وقامت حكومته بزيادة صادرات الأسلحة إلى إسرائيل 10 أضعاف خلال عام 2022، مع منح 85% من التصاريح بعد هجوم حماس في 7 أكتوبر.
بعد مرور 85 عاماً على الهولوكوست، ألم يحن لألمانيا أن تتعلم أن الإبادة الجماعية لا يمكن التكفير عنها من خلال السماح بإبادة جماعية أخرى؟! وكيف يمكن أن يعتقد قادة ألمان أن تأجيج المشاعر المعادية للإسلام ومعاداة المهاجرين من شأنه أن يفي بمسؤولية ألمانيا التاريخية في مكافحة معاداة السامية؟!
الحقيقة أنهم لم يتعلموا شيئاً من التاريخ، يجب أن تتوقف الحكومة الألمانية عن مجرد الكلام عن التزامها بحقوق الإنسان، عليها تغيير موقفها بشكل جذري في كل من السياسة الداخلية والخارجية.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)