بقلم ديفيد هيرست
ترجمة وتحرير مريم الحمد
عندما قُتل الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، في انفجار 10 قنابل خارقة للتحصينات ألقيت على مخبأ على عمق 60 قدماً تحت الأرض، ابتهجت الشوارع الإسرائيلية.
في كلمات أغنية ردد الإسرائيليون: “يا نصرالله، سنطيح بك إن شاء الله، ونردك إلى الله مع كل حزب الله”، فيما التقط فيديو لإسرائيلي على متن قارب يقول: “بالسعادة والفرح والبهجة نعلن رسمياً أن الفأر حسن نصر الله اغتيل، وشعب إسرائيل حي”، وكتبت صحيفة “ذا سبيكتاتور”: “لقد مات نصر الله وانكسر حزب الله”.
بدلاً من إنشاء منطقة عازلة، أمضى الجيش الإسرائيلي شهرين عالقاً على الحدود، غير قادر على الاختراق أو الاحتفاظ بمواقع تزيد عن 4 كيلومترات داخل لبنان واضطر للقيام بانسحابات متكررة
لم يكد يمضي شهران على هذه البهجة حتى أصبح المزاج في إسرائيل مختلفاً تماماً، فقبل 11 يوماً فقط، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي، كاتس، أن الهدف هو نزع سلاح حزب الله وإنشاء منطقة عازلة في جنوب لبنان، مما يعكس قناعة الجيش وإدراك الإسرائيليين للحقيقة.
عندما سئل الإسرائيليون في استطلاع للرأي عمن يعتقدون أنه فائز في المعارك بعد نحو 14 شهراً من القتال، لم يكن هناك إلا 20% فقط من الإسرائيليين الذين شملهم الاستطلاع الذين يعتقدون أن إسرائيل انتصرت، فيما رأى 19% أن حزب الله هو من انتصر، ورأى 50% من الأشخاص أن القتال انتهى دون منتصر واضح.
لقد سميت العملية التي قتلت نصر الله بـ “النظام الجديد”، وهو اسم يدعم المزاعم التي جرى ترويجها لترسيخ قصة النصر، بأن حزب الله قد “تعرض للضرب والتقلص” بسبب 13 شهراً من الحرب.
تسريبات قاتلة
لقد تم بالفعل القضاء على الصفين الأول والثاني من قادة حزب الله، فقد كانت أجهزة البيجر وأجهزة الاتصال اللاسلكية المفخخة مدمرة، ولكنها في الحقيقة لم تسبب الضرر إلا لموظفين إداريين وسياسيين في الحزب، فأجهزة البيجر لم تكن مستخدمة من قبل المقاتلين.
لقد كانت أكبر ضربة للحزب هي التسريب الاستخباراتي الذي أدى إلى مقتل خليفة نصر الله المفترض، هاشم صفي الدين، في ضربة إسرائيلية قوية على قاعدة سرية لحزب الله تحت الأرض في 3 أكتوبر، حيث يُعتقد أن صفي الدين قُتل خلال دقائق من وصوله لحضور اجتماع مجلس شورى حزب الله، كانت الضربة قوية للغاية لدرجة أنها دمرت 4 مباني سكنية كبيرة.
لا تزال النظريات حول كيفية قيام الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية بتحقيق هذا الاختراق غير واضحة، فهل كان هناك جاسوس في مستوى جنرال في الحرس الثوري الإيراني؟ ومن كان يعرف بالضبط في أي طابق من دار ضيافة الحرس الثوري الإيراني كان إسماعيل هنية، الزعيم السياسي لحماس، وحارسه الشخصي نائمين ومتى يذهبان إلى السرير؟ لقد كان لدى هنية ضيوف حتى ذهب إلى الفراش في الثالثة صباحاً!
نحن نعلم أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية قامت بتدريب الآلاف من مقاتلي جماعة مجاهدي خلق الإيرانية المعارضة في ألبانيا، ولكن مع ذلك، كيف حصلت إسرائيل على هذه المعلومات الاستخبارية المحددة والحساسة؟ فهل تمتلك الولايات المتحدة القدرة التقنية على التنصت على ما كان يعتبر ذات يوم اتصالات آمنة للغاية بين بيروت وجنوب لبنان عن بعد؟!
لا أحد يعلم حتى الآن، إلا أن هناك حقيقة واحدة لا يمكن تفسيرها بسهولة من خلال التقارير العسكرية الإسرائيلية والأمريكية، فكيف تمكن حزب الله من الحفاظ على سيطرته على ساحة المعركة دون أن تكون له قيادة وظيفية تعمل من مقره في الضاحية ببيروت؟ فحزب الله “الضعيف والمنهك” على حد زعمهم، قد خاض معركة أقوى بكثير من عام 1982 أو عام 2006!
أقوى سلاح
بدلاً من إنشاء منطقة عازلة، أمضى الجيش الإسرائيلي شهرين عالقاً على الحدود، غير قادر على الاختراق أو الاحتفاظ بمواقع تزيد عن 4 كيلومترات داخل لبنان واضطر للقيام بانسحابات متكررة.
رغم شنها حرباً خاطفة على البلدات والمدن اللبنانية، إلا أن وحدات النخبة الإسرائيلية، مثل لواء جولاني، تعرضت لضربة قوية وخسرت ما لا يقل عن 110 قتلى في القتال منذ 7 أكتوبر عام 2023.
منذ اليوم الذي عبروا فيه الحدود، فقد وقعوا في فخاخ متعمدة، ففي إحدى الاشتباكات، دخلت وحدة استطلاع من الجولاني إلى “قلعة” لحزب الله مما أدى إلى مقتل جندي وإصابة قائد سرية بجروح خطيرة وإصابة رئيس أركان اللواء بإصابات طفيفة، فكان لا بد من سحب جنود الاحتياط من القتال تماماً.
الحقيقة أن كل ذلك لا ينبغي أن يكون مفاجئاً فيما يتعلق بحزب الله، حيث يتم تجهيز كل وحدة للقتال بمفردها لمدة عامين، ويتواصلون وينسقون مع بعضهم البعض عبر كابل الألياف الضوئية، كما أن الإعداد يكون عقلياً بقدر ما هو جسدي، حيث يتم اختيار قادة ساحة المعركة بعد 6 سنوات من التدريب على الفلسفة، وفقاً لمصدر خاص وصلت إليه.
أصبح الكثيرون في العالم العربي، ينظرون إلى إيران على أنها ليست دخيلة في الفضاء العربي بدرجة إسرائيل، كما أنه يمكن النظر إليها باعتبارها رأس الحربة الإقليمية للمقاومة ضد السيطرة الاستعمارية
يفكر مقاتلو الحزب بطريقة استراتيجية، فهم يخوضون حرب استنزاف مخطط لها أن تستمر لعقود وليس لأسابيع أو أشهر، لكن سلاحهم الأقوى هو السلاح الذي لا يمكن لعدوهم أن يمتلكه أبداً رغم تفوقه التكنولوجي، وهي قاعدتهم الاجتماعية من القرى والبلدات التي يدافعون عنها، الأمر الذي لم يمكن إسرائيل والجيش اللبناني على حد سواء من من إيقاف قافلة القرويين العائدين بابتهاج وتحدٍ إلى منازلهم المدمرة بعد دقائق من دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ.
في اللحظة التي توقفت فيها إسرائيل عن القتال، فقد فقدت السيطرة، وانطلقت السردية التي تزعم أن حزب الله أصبح الآن أكثر عزلة على الصعيد السياسي من ذي قبل بسبب الضرر الذي لحق بلبنان بأكمله، ولكن الحقيقة أن ما حصل كان العكس.
لقد أثارت إسرائيل المزيد من الكراهية نحوها في لبنان وفي كل دولة في المنطقة، بعد حملة القصف التي شنتها في الشهرين الماضيين وحملة الإبادة التي ما زالت تشنها في غزة، كما أظهرت أشهر الإبادة في غزة أن حركة المقاومة الفلسطينية “السنية” قادرة على توحيد قواها مع حركة لبنانية “شيعية” في القتال ضد عدو مشترك.
إن سياسة تهدئة المنطقة من خلال ممارسة فرق تسد لم تعد تصلح لإسرائيل كما كانت في السابق، فهناك تغير نفسي كبير قد حدث في العالم العربي السني محى منطق اتفاقيات أبراهام، فلم يعد من الممكن تحقيق السلام من خلال الاعتراف بإسرائيل، ناهيك عن ترسيخها كقوة إقليمية مهيمنة تكنولوجية وعسكرية واقتصادية.
وقد جعل هذا التغيير حتى القيادة السعودية الحالية، الأقل تعاطفاً مع القضية الفلسطينية، تتراجع، وبعد عدة عقود من الجمود، اندمجت القومية العربية والمقاومة المسلحة تحت راية الإسلام.
لقد أدى هذا الاندماج إلى إطلاق قوات لم تعد تعمل ضد محور المقاومة، الذي بنته إيران في المنطقة، وذلك بعد أن كان نفوذ إيران مقيداً في جميع أنحاء العالم العربي بالحقائق الطائفية خاصة للسلطات في سوريا والعراق واليمن.
قراءة خاطئة للشرق الأوسط
لقد ساعد سلوك رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وقواته المتعطشة للسلطة في غزة والضفة الغربية المحتلة ولبنان بشكل عام، إيران على كسر هذه القيود، فأصبح الكثيرون في العالم العربي، ينظرون إلى إيران على أنها ليست دخيلة في الفضاء العربي بدرجة إسرائيل، كما أنه يمكن النظر إليها باعتبارها رأس الحربة الإقليمية للمقاومة ضد السيطرة الاستعمارية.
ويعد هذا تغيراً كبيراً، في حال استمر، بعد عقد من الانقسامات التي خلقها الربيع العربي، فقد أثبت حزب الله مرة أخرى أنه عدو لدود لإسرائيل ولا يمكن القضاء عليه، وسوف يظهر أقوى في السنوات القادمة.
الأمر الوحيد الثابت في هذا المشهد هو قراءة إسرائيل وأمريكا الخاطئة للشرق الأوسط، فـ”استسلام” حزب الله لقبول وقف إطلاق النار بالتزامن مع قصف غزة، يُنظَر إليه باعتباره مقدمة لاستسلام مماثل من جانب حماس.
وعلى الجانب الآخر، رغم كل الضربات العنيفة التي تلقتها غزة في الأشهر الأربعة عشر الماضية،إلا أن حماس ليست في مزاج يسمح لها بالتلويح بالعلم الأبيض، ففي أحد التصريحات منذ الإعلان عن وقف إطلاق النار، أشارت حماس إلى ما اعتبرته اضطرار نتنياهو إلى قبول صفقة لا تحقق جل أهدافه العسكرية في لبنان.
نتنياهو مقامر مثقل بالديون ولا خلاص له إلا في المزيد من الرهانات، مع الأخذ بعين الاعتبار أن أوراقه تتناقص أيضاً، ومع ذلك فهو مستمر في معاندة حقيقة أن إسرائيل لم تحقق سوى القليل في حربها التي استمرت 13 شهراً وخسرت الكثير، خادعاً ذاته بالدرجة الأولى
قالت حماس في بيان لها: “القبول باتفاق العدو مع لبنان دون الإيفاء بشروطه، محطة مهمة في تدمير أوهام نتنياهو في تغيير خريطة الشرق الأوسط بالقوة وأوهامه في هزيمة قوى المقاومة أو نزع سلاحها”، كما أعربت الحركة عن التزامها “بالتعاون مع أي جهود لوقف إطلاق النار في غزة، ضمن محددات وقف العدوان على غزة، التي اتفقنا عليها وطنياً، وهي وقف إطلاق النار وانسحاب قوات الاحتلال وعودة النازحين وعودة النازحين وإتمام صفقة تبادل أسرى حقيقية وكاملة”.
الحرب أقرب من أي وقت مضى
بعد تعثره في غزة وتعرضه للمهانة في لبنان، بدأ نتنياهو في تحويل انتباه ترامب بالفعل إلى ضرورة مهاجمة إيران، حيث تم تمهيد الهجوم على إيران مرة أخرى من خلال خلق أسطورة أصبح المراسلون الغربيون أبواقاً مستعدة لها!
إنها الفكرة المتكررة التي ترى أن إيران “مفتوحة على مصراعيها” لهجوم إسرائيلي وأمريكي ثانٍ كبير على منشآت إنتاج التخصيب النووي، لأن الهجوم الأخير كان قد دمر الدفاعات الجوية للبلاد، حيث أصيبت محطة رادار ومات 4 جنود إيرانيين، لكن بطاريات إس 300 الإيرانية لم يتم تدميرها ولم يتم تعطيل نظام الدفاع الجوي الإيراني.
وعلى الجانب الآخر، فقد كانت الرواية الإيرانية لما حصل مختلفة، حيث تم احتجاز الدفعة الثانية من قاذفات إف-35 الإسرائيلية، التي كان من المفترض أن تدخل بعد تفكيك نظام الدفاع الجوي، على بعد 70 كيلومتراً من الحدود الإيرانية بعد أن “أضاءتها” الرادارات الإيرانية، رغم امتلاكها قدرات التخفي، كما لم يتعرض موقع بارشين، الذي قال مسؤولون أمريكيون أنه منشأة أبحاث نووية نشطة، لصواريخ باليستية.
على أية حال، فقد تم نقل جميع المعدات الموجودة في منشأة طالقان 2 في مجمع بارشين العسكري إلى الجبال منذ فترة طويلة، وتم استهداف موقع آخر بطائرات بدون طيار، لكنها جاءت من بحر قزوين هذه المرة وليس من الغرب حيث تمركزت القوة الضاربة الإسرائيلية.
ولا تمثل القصص التي تدعي أن إيران الآن “مفتوحة على مصراعيها” للهجوم إلا دعماً لجهود نتنياهو المضنية في الحصول على دعم الحزبين الجمهوري والديمقراطي في واشنطن لتوجيه ضربة حاسمة، فهل يحصل هذا؟
أعتقد أن الأمر نتاج للتلاعب التي تلعبه إدارة بايدن المنتهية ولايتها، ونتنياهو والدولة العميقة، وكل منهم لديه دوافع مختلفة لمحاولة تأطير خيارات ترامب وتحديدها مسبقاً قبل تنصيبه.
من الناحية الأخرى، يمكن لإيران أن تهاجم إسرائيل بضربة أقوى بكثير من تلك التي نفذتها في أكتوبر الماضي، عندما أطلقت 200 صاروخ وطائرة بدون طيار رداً على اغتيالات إسرائيل لهنية في طهران ونصر الله والجنرال في الحرس الثوري الإيراني عباس نيلفوروشان.
إيران قد تفعل ذلك لثلاثة أسباب، أولها أنها قالت بأنها ستفعل ذلك من أجل إعادة الردع ورداً على استمرار إراقة الدماء في غزة، ولذلك يجب أن تتم موازنة التلميحات المستمرة التي تشير إلى عكس ذلك من جانب الحكومة الإصلاحية، وخاصة فيما يتعلق بوقف إطلاق النار في لبنان، حيث يمكن أن يؤثر على خطط إيران للانتقام من الضربة الإسرائيلية الأخيرة.
يمكن التكهن بأن الحرب المباشرة مع إيران أصبحت أقرب مما كانت عليه منذ سنوات عديدة، فلا غزة ولا لبنان ولا إيران تشكل أخباراً طيبة بالنسبة لنتنياهو، الذي يواجه عاصفة متصاعدة من المعارضة في الداخل، من جيش منهك وعائلات الرهائن والتهديد الذي يلوح في الأفق بتهم الفساد التي ستحال إلى المحكمة.
هناك أيضاً عداء متزايد من جانب حركة المستوطنين المسلحة التي ترى أن الفرصة التي تتاح لها مرة واحدة في العمر للاستيلاء على أرض إسرائيل التوراتية بأكملها ربما تفلت من قبضتها.
في ظل هذا المشهد، فإن نتنياهو مقامر مثقل بالديون ولا خلاص له إلا في المزيد من الرهانات، مع الأخذ بعين الاعتبار أن أوراقه تتناقص أيضاً، ومع ذلك فهو مستمر في معاندة حقيقة أن إسرائيل لم تحقق سوى القليل في حربها التي استمرت 13 شهراً وخسرت الكثير، خادعاً ذاته بالدرجة الأولى.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)