بقلم جوزيف مسعد
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
الاستعمار الاستيطاني هو مهمة صعبة بلا شك، إذ يتطلب سلب أراضي السكان الأصليين جهدًا وحيلًا متواصلة رغم المتعة السادية التي يشعر بها المستعمرون عند قمع المقاومة المحلية بأقصى درجات العنف.
منذ البداية، التزمت الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل بهذه الإستراتيجية طويلة المدى، ولا يزالان يواصلان اتباعها بإصرار متعصب، وهو أمر لا تشكل فيه إسرائيل استثناء في سجلات المستعمرات البيضاء، لكنها تعد نموذجية إلى حد ما.
بالتزامن مع الذكرى الـ 75 لتأسيس المستعمرة الاستيطانية اليهودية، انشغل المستعمرون اليهود الأسبوع الماضي بتأسيس أحدث مستعمراتهم (التي تسمى مستوطنات) على الأراضي الفلسطينية المسلوبة بالقرب من قرية مخماس على مشارف القدس الشرقية المحتلة.
في ذلك الوقت، كانت السلطات الإسرائيلية تهدم مدرسة ابتدائية فلسطينية كجزء من السلب الإسرائيلي المستمر للأراضي الفلسطينية المخصصة للاستعمار اليهودي.
ولوقف موجة المقاومة الفلسطينية المستمرة لهذا الاستعمار، شن الجيش الإسرائيلي في الأسابيع الأخيرة عدة هجمات في الضفة الغربية وقطاع غزة، مما أسفر عن مقتل العشرات من الفلسطينيين، بمن فيهم النساء والأطفال.
وكما هو واضح للجميع، فإن الاستعمار اليهودي في فلسطين لا يزال مستمراً منذ بدء تدفق المستعمرين اليهود من روسيا وأوكرانيا عام 1882.
الادعاءات الاستيطانية الاستعمارية
لكن الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية لم يتحقق بدون معارضة محلية، فعندما بدأ المستعمرون اليهود في عام 1884 بزراعة الأرض المسلوبة في إحدى مستعمراتهم الأولى، والتي أطلقوا عليها اسم بيتاح تكفا، واجهتهم مقاومة الفلاحين الفلسطينيين.
ازدادت المقاومة أكثر في عام 1886 عندما وسع المستعمرون زراعتهم لتشمل المزيد من الأراضي المسروقة، ما جعل الفلاحين يهاجمون المستعمرة ويصيبون عددًا من المستعمرين اليهود الذين توفي أحدهم فيما بعد.
وتحت ضغط القناصل الأوروبيين الذين دعموا الاستعمار الأوروبي المسيحي واليهودي للأراضي الفلسطينية، اعتقلت السلطات العثمانية 31 فلاحًا فلسطينيًا.
إلا أن ذلك لم يحد من المقاومة الفلسطينية، فمنذ عام 1884 وحتى تسعينيات القرن التاسع عشر، استهدفت مقاومة الفلاحين الفلسطينيين المستعمرات اليهودية، بما في ذلك جيديرا، رحوفوت، نيس زيونا، والخضيرة.
نادرًا ما كانت توجد مستعمرة يهودية لم تدخل في صراع في بعض الأحيان مع الفلسطينيين الأصليين من الفلاحين.
شهد العقد الأول من القرن العشرين زيادة أخرى في الاستعمار اليهودي والمقاومة الفلسطينية، ففي أبريل 1909، قام الفلاحون الذين فقدوا المزيد من الأراضي لصالح المستعمرات اليهودية الأوروبية بالقرب من طبريا بمهاجمة المستعمرين، وقام المستعمر الأوروبي اليهودي حاييم دوبنر بقتل الفلاح الفلسطيني المسيحي راضي صفوري من قرية كفر كنا، ضربا بالرصاص.
ورد الفلاحون المسلمون والمسيحيون في كفر كنا بالانتقام وقتلوا اثنين من المستعمرين.
ربما كان صفوري من أوائل الضحايا الفلسطينيين لإرهاب المستعمرين القاتل، واليوم فإن عشرات الفلسطينيين الذين قتلتهم إسرائيل بلا رحمة في الأيام القليلة الماضية ما هم إلا الأحدث.
لتبرير حاجتهم لسرقة الأراضي الفلسطينية وقتل الفلسطينيين الذين يقاومون سلب أراضيهم، تبنى الصهاينة عدة حجج استعمارية استيطانية أوروبية تقليدية على مدار القرن ونصف القرن الماضيين، والتي لا تزال تحظى بنفس القدر من الترويج من قبل التيار السائد ضيق الأفق والعنصري لصحف الغرب الإمبريالي، الذي حظيت به عند نشرها لأول مرة.
في الواقع، يلوح المسؤولون الإمبرياليون في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بالدعاية الإسرائيلية بنفس القدر من القوة كما يفعل النقاد المنعزلون والمتشددون في أوروبا الغربية والولايات المتحدة، الذين لم يتضاءل دعمهم للمشاريع الاستعمارية أبدًا.
وعلى خطى الاستعمار الفرنسي (والإيطالي لاحقًا) لشمال إفريقيا، الذي ادعى أن الفرنسيين (والإيطاليين) كانوا “يعودون” إلى أراضيهم الإمبراطورية الرومانية وأن السكان الأصليين من العرب في شمال إفريقيا كانوا المستعمرين الفعليين لتلك الأراضي الرومانية الأوروبية، ادعى المستعمرون اليهود أيضًا الأصلانية في فلسطين.
وباقتراض الافتراء المسيحي المعادي للسامية لأسطورة الأصول اليهودية، صوّر الصهاينة اليهود الأوروبيين على أنهم “أحفاد” العبرانيين الفلسطينيين القدامى الذين كانوا مجرد “عائدين” إلى وطنهم القديم.
كما زعموا أن الفلسطينيين الأصليين هم في الواقع مستعمرو هذه الأرض “اليهودية” القديمة.
أما المفارقة المأساوية كانت إصرار القادة الصهاينة، بمن فيهم ديفيد بن غوريون، على أن الفلسطينيين الأصليين هم من نسل العبرانيين القدماء.
التبريرات الاستعمارية
في عام 1930، كرر رئيس المنظمة الصهيونية، حاييم وايزمان، فكرة تلفيق استعماري – استيطاني أوروبي مشترك آخر مفاده أن الأفارقة الأصليين أرادوا “إلقاء” المستعمرين الأوروبيين “في البحر”.
وشدد وايزمان على أن الطلب الفلسطيني بأن يمنح البريطانيون الفلسطينيين المساواة والديمقراطية لا يقل عن “الرغبة” الفلسطينية في “دفعنا إلى البحر المتوسط”.
بينما استمر المستعمرون اليهود في طرد الفلسطينيين وتهجيرهم من الأرض، زعموا أن الفلسطينيين هم من أرادوا “إلقاء اليهود في البحر”.
الإرهاب العنصري
أدى صعود النازيين في الثلاثينيات من القرن الماضي إلى إعادة ظهور قوى معاداة السامية التي ترعاها الدولة على نطاق واسع، وأدى الاضطهاد، ثم إرهاب الإبادة الجماعية، الذي أوقعه النازيون على يهود أوروبا، إلى تكثيف الحجج الصهيونية التي تبرر ضرورة استعمار فلسطين باعتبارها الوجهة الوحيدة لليهود الفارين من الاضطهاد.
التعاطف الغربي مع اليهود المضطهدين، وفي النهاية الناجين من المحرقة، لم يظهر في فتح أبواب الدول الغربية للناجين أثناء أو بعد الحرب العالمية الثانية.
في الواقع، فإن الدول الغربية ذاتها التي كانت قد صوتت سابقا ضد مشروع قرار للأمم المتحدة الداعي إلى قبول اللاجئين اليهود في عام 1947، صوتت على تقسيم فلسطين وإنشاء مستعمرة استيطانية يهودية يتم إرسال الناجين إليها، وتخليص أوروبا من الإبادة الجماعية منهم بشكل نهائي.
لكن أولئك الناجين من الهولوكوست غادروا شواطئ أوروبا كضحايا قسوة الإبادة الجماعية للمسيحيين الأوروبيين، ووصلوا إلى شواطئ فلسطين كمستعمرين مسلحين ولصوص، عرضوا الفلسطينيين الأصليين لأقسى أشكال القسوة الاستعمارية الصهيونية.
وخلال حرب عام 1948، شكل الناجون من المحرقة ثلث الجيش الصهيوني ونصف قوته القتالية (عددهم 22 ألف)، شاركوا في ذبح 13 ألف فلسطيني بأقسى الطرق وهم يتقدمون عبر البلاد، ويسرقون ويقتلون كل شيء يعترض طريقهم.
في ضوء ذلك، لا تدعو إسرائيل وأنصارها الغربيون الفلسطينيين فقط إلى عدم مقاومة مضطهديهم اليهود، ولكن إسرائيل تصر أيضًا على أنه يجب على الفلسطينيين إظهار التضامن مع مضطهديهم اليهود، وإلا فإن إسرائيل ستدين مقاومتهم للاستعمار اليهودي والتطهير العرقي تحت عنوان معاداة السامية.
إن ما يسمى بـ “الديمقراطية” المحتفى بها، أي المستعمرة الاستيطانية اليهودية التي أقيمت في أيار/ مايو 1948، تسببت في إرهاب عنصري ضد جميع الفلسطينيين منذ ذلك الحين.
استغرق الأمر سبعة عقود من دعاة حقوق الإنسان الغربيين والإسرائيليين قبل أن يدركوا أخيرًا أن إسرائيل كانت دولة فصل عنصري منذ إنشائها يحكمها القانون الديني اليهودي.
في العديد من جوانب الحياة اليومية، يتم تصوير إسرائيل في الغرب الإمبراطوري على أنها دولة “علمانية”، وبعد أن قتلت أكثر من 100 ألف فلسطيني وعربي منذ عام 1948، يتم تصويرها على أنها ضحية تتعرض للمعاداة من قبل من أولئك الذين قامت بسرقة بلادهم وأراضيهم ومنازلهم.
أدخلت إسرائيل الإرهاب إلى الشرق الأوسط، بما في ذلك السيارات المفخخة وتفجير الفنادق والأسواق المفتوحة منذ الثلاثينيات، بالإضافة إلى اختطاف الطائرات منذ الخمسينيات، وهي الدولة الوحيدة في المنطقة التي أسقطت عمداً طائرة مدنية، كما قامت بإسقاط طائرة ليبية عام 1973، إلا أن ذلك لا يغير تصوير إسرائيل كضحية للمقاومة الفلسطينية في عيون الغرب.
كما أن غزوها لجيرانها الأربعة من العرب مرات عديدة دون استثناء وتهديدها مرارًا بإلقاء قنابلها النووية عليهم، لا يردع دعاتها من تصويرها في الغرب على أنها “محبة للسلام” وضحية للعنف العربي والفلسطيني.
هنا، يتم تصوير إسرائيل بالضبط بنفس الطريقة التي يتم بها تصوير الولايات المتحدة، المعتدي الرئيسي في جميع أنحاء العالم منذ الحرب العالمية الثانية، كدولة محبة للسلام.
بينما يتضح أن الاستعمار الاستيطاني الصهيوني والإسرائيلي لم يكن استثنائيًا على الإطلاق وأنه يعد بالمقابل نموذجيا بالمقارنة مع كل أشكال الاستعمار الاستيطاني الأوروبي من حيث الممارسات والمبررات، لم يثن ذلك أنصار إسرائيل الغربيين عن إصرارهم على استثنائيتها.
يعتقد بعض دعاة حقوق الفلسطينيين أنه من اللافت للنظر أنه على الرغم من فضح المؤرخين اليهود الإسرائيليين منذ أواخر الثمانينيات لجميع الأساطير والدعاية التأسيسية لإسرائيل، والتي فضحها الفلسطينيون بالفعل (ولكن بما أن الفلسطينيين ليسوا من البيض، فقد رفض الغربيون ذلك)، إلا ان الإمبراطورية الأوروبية والولايات المتحدة كثفت دعمها واحتفالها بالاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي باعتباره يجسد القيم التي يشترك فيها الثلاثة.
وتماشياً مع هذا التقليد الاستعماري الأوروبي، الذي لا يمكن لأي قدر من الحقائق التاريخية أن يزعجه، هنأت الرئيسة الألمانية غير المنتخبة للمفوضية الأوروبية، أورسولا فون دي لاين (تماشياً مع الحب اللامحدود لبلدها ألمانيا لإسرائيل وكراهية الفلسطينيين) إسرائيل في عيد ميلادها الخامس والسبعين لجعل الصحراء الفلسطينية “تزهر”.
وبالمثل، احتفل الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي يجسد مفهوم “ليس عليك أن تكون يهوديًا لتصبح صهيونيًا”، بتدمير الشعب الفلسطيني في النكبة لأنه أدى إلى ولادة إسرائيل القائمة على مبدأ “الحرية والعدالة والسلام” وأنه والولايات المتحدة يعترفان “بمرونة ديمقراطية إسرائيل” اليوم.
وبعد 75 عاما على النكبة، لا تزال إسرائيل ومستعمروها يعملون بجد، يسرقون الأراضي الفلسطينية ويقتلون الشعب الفلسطيني.
لكن تاريخ تدمير فلسطين والنكبة وولادة إسرائيل ليسوا إلا مجرد نموذج آخر للتاريخ المروع لأوروبا ومستعمراتها الاستيطانية البيضاء.
لا توجد استثناءات رئيسية يجب ملاحظتها هنا، ولا توجد ظروف مخففة لتبرير جرائم إسرائيل الاستعمارية، ولا ينبغي السماح بأي منها.
للإطلا على النص الأصلي من (هنا)