بمنحها الحصانة لنتنياهو… فرنسا متواطئة بتشجيع الإبادة الجماعية في غزة

بقلم تيري بريسلون

ترجمة وتحرير مريم الحمد

زعمت وزارة الخارجية الفرنسية، في بيان نُشر في 27 نوفمبر الماضي، أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو “والوزراء الآخرين المعنيين” وذلك يشمل يوآف غالانت، يتم استهدافهم من خلال مذكرة اعتقال دولية صادرة عن المحكمة الجنائية الدولية، بغرض الاستفادة من الحصانات الممنوحة للدول غير الأطراف في نظام روما الأساسي الذي أنشأ المحكمة.

جاء في البيان أن فرنسا سوف تأخذ هذه الحصانات “بعين الاعتبار إذا طلبت المحكمة الجنائية الدولية منا اعتقالهم وتسليمهم”، أو بمعنى آخر، إذا أتيحت لفرنسا الفرصة، فهي لن تقوم باعتقال أو تسليم القادة الإسرائيليين المتهمين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية إلى العدالة الدولية.

رغم تأكيد منسق السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي المنتهية ولايته، جوزيب بوريل، بأن الامتثال لأحكام المحكمة الجنائية الدولية يعد إلزامياً بالنسبة للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، إلا أن معظم الدول الغربية تبدو محرجة من القرار، إن لم تكن معادية، مثل الولايات المتحدة، من فكرة الاضطرار إلى تسليم زعيم إسرائيلي إلى المحكمة الجنائية الدولية.

الاستسلام لابتزاز نتنياهو

لقد حاولت فرنسا حل هذا الإحراج من خلال الإعلان عن انضمامها من حيث المبدأ إلى قرار المحكمة الجنائية الدولية، مقابل التنصل من التزاماتها من خلال ثغرات والتفافات قانونية محفوفة بالمخاطر، منطلقة من منطق أن إسرائيل ليست طرفاً في نظام روما الأساسي، ولذلك يمكن لقادتها الاستفادة من الحصانة .

الحقيقة أن القانون من جانب آخر لا يعطي الحق للمسؤولين من جميع الرتب، بما في ذلك رئيس الدولة أو الحكومة، بموجب مذكرة اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية، التمتع بالحصانة، حتى لو كانوا ينتمون إلى دولة ليست طرفاً في نظام روما الأساسي، مثل إسرائيل.

المفارقة أن فرنسا لم يكن لديها مثل هذه المخاوف عندما أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مارس عام 2023، ولم يتحدث مسؤول فرنسي عن أي حصانة تُذكر!

“فرنسا وإسرائيل هما ديمقراطيتان ملتزمتين بسيادة القانون وباحترام نظام قضائي مستقل” – بيان وزارة الخارجية الفرنسية

عبرت وزيرة الخارجية كاثرين كولونا بحزم آنذاك فقالت: “إن أي شخص مسؤول عن جريمة حرب أو جريمة ضد الإنسانية سيحاسب، بغض النظر عن وضعه أو رتبته”، رغم انسحاب روسيا من نظام روما الأساسي عام 2016.

من ناحية أخرى، فلا أعتقد أن تزامن صدور بيان الوزارة و”اكتشاف” الحصانة مع الاتفاق على وقف إطلاق النار في لبنان، كان من قبيل الصدفة، فوفقاً للصحفي في صحيفة هآرتس، أمير تيبون، فإن “الحكومة الفرنسية وافقت على نشر هذا البيان فقط في ضوء الإنذار الإسرائيلي والتهديد بإخراج فرنسا من عملية مفاوضات وقف إطلاق النار”. 

في ظل هذا السياق، يبدو أن الدبلوماسية الفرنسية قد استسلمت، في محاولة للحفاظ على دورها في الشرق الأوسط، لما يبدو وكأنه ابتزاز من طرف نتنياهو فقامت بتحريف تفسير القانون!

تبدو الفوائد التي تعود على الدبلوماسية الفرنسية من ذلك وهمية بطبيعة الحال، وذلك لأن المعاملة التفضيلية الممنوحة لإسرائيل لن تؤدي إلا إلى المزيد من تآكل مصداقية الدول التي تزعم، مثل فرنسا، أنها تعمل على تعزيز نظام قائم على القانون وحقوق الإنسان.

في مقال افتتاحي مؤخراً بعنوان: “المحكمة الجنائية الدولية ليست المكان المناسب لمحاسبة إسرائيل… عليها المساعدة في حل جرائم الحرب في روسيا والسودان وميانمار”، أظهرت صحيفة واشنطن بوست هذه المعايير المزدوجة بوضوح، فالقانون لا ينطبق على الجميع بنفس الطريقة، فالمعيار هو التحالف من المصالح الغربية من عدمه!

الطابع “الديمقراطي”

في تعليقها الأولي على إصدار مذكرات الاعتقال، أصرت وزارة الخارجية الفرنسية على أنه “لا يوجد تكافؤ بين حماس كجماعة إرهابية، وإسرائيل التي تعد دولة ديمقراطية”.

بنص البيان، يظهر وكأن قتل عشرات الآلاف من المدنيين على مدى أكثر من عام من الحرب على غزة، والتهجير القسري لأكثر من مليوني شخص وحرمانهم من الحد الأدنى من شروط البقاء على قيد الحياة، والقتل المتعمد للأطفال والعاملين في مجال الصحة والصحفيين، كلها جرائم على المحكمة الجنائية الدولية التغافل عنها بسبب الطابع “الديمقراطي” للدول التي ترتكبها!

يضاف إلى ذلك، وكأن الديمقراطيات، ليست مطالبة بدرجات أكبر من المثالية، وأنه لزاماً عليها أكثر من دول أخرى، الامتناع عن انتهاك قواعدها الخاصة أو إفساد طابعها الديمقراطي، بل بدلاً من ذلك، تقوم معظم الدول الغربية بحماية إسرائيل دون قيد أو شرط، باعتبارها ضحية للجرائم الوحشية لمعاداة السامية الأوروبية تاريخياً.

في الجزء الثاني من بيانها، الذي كشف عن الرؤية السياسية الكامنة وراء الموقف الفرنسي، أكدت الوزارة على تضامن فرنسا مع إسرائيل، فجاء في البيان أن فرنسا وإسرائيل هما “ديمقراطيتين ملتزمتين بسيادة القانون وباحترام نظام قضائي مستقل”.

الحقيقة أن رد فرنسا على الإجراءات الحاسمة للعدالة الدولية اليوم مقابل نفوذ إقليمي وهمي، يؤكد أن الدبلوماسية الفرنسية لا تساهم اليوم إلا في تعجيل تدمير ذلك النظام الليبرالي

بالنسبة لفرنسا، فإن جرائم مثل التطهير العرقي عام 1948، وعدم الامتثال المنهجي لقرارات الأمم المتحدة، والاحتلال غير القانوني للأراضي الفلسطينية منذ عام 1967، واستعمار الضفة الغربية والقدس الشرقية، وبناء الجدار العازل غير القانوني، ونظام الفصل العنصري، والاتهامات بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، لا تدعو إلى التشكيك في التزام إسرائيل بسيادة القانون أو طابعها الديمقراطي!

الأسوأ من ذلك أن وزير الخارجية، جان نويل بارو، كان قد صرح أمام البرلمان مؤخراً بأن “إعادة توجيه اتهامات الإبادة الجماعية ضد حكومة الشعب الذي عانى منها لا يشكل خطأ أخلاقياً فحسب، بل هو خطأ قانوني أيضاً”.

وصف الاتحاد اليهودي الفرنسي من أجل السلام هذه التصريحات بأنها “إنكارية الطابع” لأنها تنفي الاتهامات الموثقة بدقة عن قيام الجيش الإسرائيلي بأعمال إبادة جماعية، بدعم صريح من القادة السياسيين، كما نددت المجموعة اليهودية المناهضة للصهيونية بكلمات بارو ووصفتها بأنها “معادية للسامية، فاعتبار الحكومة الإسرائيلية حكومة “الشعب” اليهودي، يعني أن الوزير يحول اليهود الفرنسيين إلى أجانب في بلدهم، وهي عبارة كلاسيكية مبتذلة وتعد معادية للسامية”.

دعم تدمير النظام الليبرالي

جاء في البيان الصحفي الصادر عن الوزارة أن “فرنسا تعتزم مواصلة العمل بالتعاون مع رئيس الوزراء نتنياهو والسلطات الإسرائيلية الأخرى لتحقيق السلام والأمن للجميع في الشرق الأوسط”.

بهذا التصريح، فإن الحكومة الفرنسية لا تضمن إفلات نتنياهو من العقاب فقط، ولكنها تقدم أيضاً دعمها للمشروع الاستراتيجي لنتنياهو والقائم على تفكيك “محور المقاومة” الإقليمي الذي تديره إيران، والذي يشمل حركة حماس وحزب الله اللبناني والحوثيين في اليمن وعدد من الجماعات العراقية المسلحة .

يزعم نتنياهو أن القضاء على هذا المحور سيكون مفتاح السلام والأمن، ولكن أهداف القادة الإسرائيليين لا تقتصر على إقامة نظام سياسي وعسكري يضمن تفوق إسرائيل الإقليمي، فهم يهدفون إلى استكمال الجهد الطويل الذي بذله اليمين الإسرائيلي لتصفية القضية الفلسطينية وبالتالي تحقيق “أرض إسرائيل الكبرى”.

لقد سيطر اليمين المتطرف القومي الديني على الحكومة الإسرائيلية، وهو مستعد اليوم لضم الضفة الغربية وكل قطاع غزة أو جزءاً منه، وكذلك بناء “الهيكل الثالث” في القدس بدلاً من المسجد الأقصى.

وتتجاهل فكرة “السلام” التي تدعمها فرنسا أيضاً العداوات الدائمة الموجودة ضد إسرائيل في الشرق الأوسط، والتي رسختها أعمال العنف المتطرفة التي ارتكبتها إسرائيل منذ أكثر من عام في أذهان الفلسطينيين واللبنانيين والعرب بشكل عام، فالسلام الحقيقي لا يمكن أن يكون إلا بشكل تسوية تضمن التطلعات الوطنية الفلسطينية.

إن الموجة القومية العرقية والاستبدادية التي تتمدد في جميع أنحاء العالم اليوم، والتي تمثلها إسرائيل بدعم من إدارة ترامب المستقبلية، قد أعطت لنفسها مهمة تدمير النظام الدولي الليبرالي الذي تم إنشاؤه لتجنب تكرار ويلات الحرب العالمية الثانية.

الحقيقة أن رد فرنسا على الإجراءات الحاسمة للعدالة الدولية اليوم مقابل نفوذ إقليمي وهمي، يؤكد أن الدبلوماسية الفرنسية لا تساهم اليوم إلا في تعجيل تدمير ذلك النظام الليبرالي.

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة