بناء بديل ديمقراطي في مواجهة ثقافة الإبادة: كيف روّج اليمين الإسرائيلي لخطابه عالميًا؟

بقلم عبد أبو شحادة

ترجمة وتحرير نجاح خاطر

قبل قرن من الزمان، كتب الفيلسوف أنطونيو غرامشي أن “غزو القوة الثقافية يسبق القوة السياسية”، وقد وقعت ثلاث حوادث مُقلقة خلال أسبوع واحد فقط من الشهر الماضي، في الأولى ربط المستوطنون فتاة فلسطينية وشقيقها البالغ من العمر ثلاث سنوات إلى شجرة في الضفة الغربية المحتلة، وفي الثانية تعرض سائق حافلة فلسطيني لهجوم من قِبَل حشد في القدس، وفي الثالثة اعتدى صهاينة على امرأة أمريكية في شوارع نيويورك.

قد تبدو هذه الأحداث طفيفة مقارنةً بحجم الكارثة في غزة، لكن من المهم النظر إليها كجزء من عملية مستمرة تتفاقم وتتجاوز الحدود.

لا يكمن الرابط المشترك بين هذه الأحداث فقط في أن الجناة كانوا من الصهيونية اليمينية، بل أيضًا القبول السلبي من العالم، حيث يمتد العنف الاستعماري الاستيطاني من الأراضي المحتلة إلى فلسطين المحتلة عام 1948 والمجتمعات اليهودية في الخارج.

وبينما يصور العديد من الصهاينة هؤلاء المهاجمين على أنهم “عناصر فاسدة” أو “أقلية متطرفة”، فإن الحقيقة هي أن سلوكهم يعكس نجاح ثقافة الثورة داخل المجتمع الصهيوني، إنهم يُظهرون كيف تُمكّن الإبادة الجماعية التي ترتكبها دولة الاحتلال في غزة من خلال إضفاء طابع داخلي على شعارات شعبية مثل “اسحقوا غزة” و”ألقوهم في البحر”، شعارات كانت محصورة في الهوامش سابقاً، لكنها صارت تتجلى الآن في عنف واقعي.

تمتد هذه النظرة العالمية المسيانية (تسمى أحياناً المسيحانية نظراً إلى الإيمان بقدوم المسيح كمخلص لمجموعة من البشر) حتى إلى عالم الدبلوماسية، حيث أثارت دولة الاحتلال مؤخرًا غضب المؤسسة الكاثوليكية لحذفها تغريدة تعزية بوفاة البابا فرنسيس، وعدم إرسالها سوى ممثل ذي رتبة دنيا لحضور جنازته، فقد كان البابا يُعتبر معارضًا لحرب الإبادة الجماعية التي تشنها دولة الاحتلال على غزة، وبالتالي، فإن تأييده قد يضر بفرص إعادة انتخاب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.

الحسابات السياسية

لا يمكن القول أن سلوك نتنياهو وليد صدفة محضة، بل هو محسوب ومتوافق عليه مع المصالح السياسية، لا سيما بين قاعدة وزير الأمن القومي إيتامار بن غفير، الذي أصبح رمزًا للعديد من الشباب في دولة الاحتلال.

يجسد بن غفير التحولات الثقافية داخل الصهيونية وفي قلب مجتمع الاحتلال، فقد اشتهر في التسعينيات بسرقة زينة غطاء محرك سيارة الكاديلاك من سيارة رئيس الوزراء السابق إسحاق رابين، ورفعها على الهواء مباشرة، معلنًا: “إذا وصلنا إلى الرمز، فسنصل إلى رابين أيضًا”، وفي وقت لاحق من ذلك العام، اغتيل رابين على يد إيغال عامير، وهو رجل مرتبط بنفس الدوائر اليمينية المسيانية.

سيكون من الخطأ إرجاع التغييرات الأخيرة إلى حرب غزة وحدها، ربما تكون الحرب قد سرّعت العملية، إلا أن التحول الثقافي الأعمق بدأ بعد فشل اتفاقيات أوسلو والانتفاضة الثانية، عندما رفض مجتمع الاحتلال التخلي عن السيطرة على الأراضي الفلسطينية المحتلة.

ومع صعوده إلى السلطة، أطلق نتنياهو مشروعًا طموحًا لإعادة بناء البلاد لا كدولة تسعى إلى التكامل العالمي، بل كأمة يهودية منفلتة العقال، لا تعتذر عن أخطائها، وترى العالم تهديدًا وجوديًا دائمًا.

لقد حلّ نتنياهو التناقضات الداخلية للصهيونية، آخر حركة استعمارية استيطانية نشطة في القرن الحادي والعشرين، وفي وقتٍ يُعدّ فيه الاستعمار والاحتلال من المحرمات العالمية، مهد نتنياهو طريقًا جديدًا لمجتمع لا يزال يسعى للهيمنة، ولكنه يتوق أيضًا إلى الشرعية الغربية، لقد كان حله بسيطًا ويتمثل في التخلي عن الواجهة الليبرالية.

وقد أتاح الصعود العالمي لقوى اليمين الشعبوي، وخاصة رئاسة دونالد ترامب في الولايات المتحدة، إلى جانب ضعف المؤسسات الدولية، لدولة الاحتلال فرصة التخلي عن خطاب حقوق الإنسان وضبط النفس، وبدلاً من ذلك، سعت علنًا إلى تحقيق أهداف صهيونية راسخة ماثلة في ترحيل الفلسطينيين، واستخدام القوة العسكرية غير المقيدة، والتوسع في الدول العربية المجاورة، والأمر الأكثر أهمية، من منظور فلسطيني، هو استعداد العالم المتزايد لقبول هذه الثقافة.

وحتى مع تزايد وضوح عنف الاحتلال، يُستقبل سياسيون مثل بن غفير كضيوف شرف في الولايات المتحدة، بينما لا تحظى لقطات حشد صهيوني يطارد شابة في شوارع نيويورك إلا بتغطية إعلامية ضئيلة، تخيّلوا رد الفعل الدولي لو كان المهاجمون رجالاً مسلمين

دعم دون نقد

يُظهر هذا أن مراكز القوى في الأوساط السياسية والإعلامية والتجارية الغربية تواصل تقديم دعم غير خاضع للنقد لمجتمع الاحتلال على الرغم من بعض التحولات في الرأي العام العالمي، لا سيما في ظل الإبادة الجماعية في غزة، حيث يُنظر إلى دولة الاحتلال بشكل متزايد على أنها المعتدي.

وبالنسبة للفلسطينيين، يتطلب هذا الواقع محاسبة سياسية جادة، وقد سلّط المحلل نورمان فينكلشتاين الضوء مؤخرًا على هذا التحدي حين قال لموقع ميدل إيست آي أن الحركات الفلسطينية غالبًا ما تُقلّل من شأن مركزية السلطة نفسها.

لقد أوضح فينكلشتاين هذا عبر الإشارة إلى استقالة العديد من رؤساء الجامعات الأمريكية مؤخرًا، اثنتان منهم من ذوات البشرة السمراء، بسبب فشلهم في اتخاذ إجراءات أكثر صرامة ضد الاحتجاجات الجامعية المؤيدة للفلسطينيين، دون أن يهب أحد من الحزب الديمقراطي لمساعدتهم.

وحذر فينكلشتاين أيضًا من أن “ثقافة الإلغاء” ربما أضعفت الحركة الفلسطينية في نهاية المطاف، من خلال تمهيد الطريق لقمع الخطاب السياسي المشروع. 

وتؤكد أقوال فينكلشتاين على ضرورة التفكير في السياسة كوسيلة لكسب السلطة لا بأي ثمن، ولكن من خلال نقاش جاد وواعي، مع دراسة متأنية للإمكانيات المتاحة، وفي وقت تحدث فيه إبادة جماعية ويُقتل فيه الأطفال يوميًا، يُعد هذا أمرًا بالغ الأهمية.

الدرس المستفاد للفلسطينيين واضحٌ إذن، يجب أن نبدأ فورًا في بناء بديل لثقافة الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال، ويجب أن نتعامل مع القضايا الإنسانية والوطنية دون أن نفقد إنسانيتنا. 

يتعين علينا أن نجد السبل لبناء السلطة، والتنظيم عبر الحركات، وإنشاء تحالفات واسعة النطاق وبناء بديل ديمقراطي حقيقي للكابوس الذي تواجهه المنطقة الآن.

للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة