بقلم جوناثان كوك
ترجمة وتحرير مريم الحمد
في الوقت الذي تحتفل فيه إسرائيل بالذكرى 75 لتأسيسها، فإن مشروع بناء الدولة الذي بدأته منذ عام 1948 بطرد 750 ألف فلسطيني من وطنهم باتت تظهر عليه أولى بوادر الانهيار، ليس لأسباب خارجية، وإنما من التناقضات الداخلية الإسرائيلية.
لقد خلق القادة الإسرائيليون مشاكل يفتقرون جميعاً لحلها كما يبدو اليوم، ومن هنا ينبغي فهم قيام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بقصف غزة وقتل العشرات من سكانها مؤخراً، حيث يتم استخدام الفلسطينيين ككبش فداء في كل مرة لتعزيز وحدة “يهودية” هشة في جوهرها.
وما المواجهات التي تحصل على الأرض، منذ أشهر الآن، بسبب خطة نتنياهو للتعديلات القضائية إلا دليلاً مهماً على مشكلة إسرائيل طويلة المدى، فالسكان اليهود منقسمون ولا يبدي أي من الأطراف مرونة أو تراجعاً، في المحصلة المعركة بين الطرفين محصلتها صفر.
أُعيد اختراع عملية النهب، التي تمت بتواطؤ قوى غربية، للجمهور الغربي على أنها حكاية أخلاقية بسيطة، حكاية خلاص
خلف تلك الصراعات نظام سياسي شبه مشلول في غالب الأحيان، مع عدم تمكن أي من الطرفين من الحصول على أغلبية برلمانية تضمن نوعاً من الاستقرار، بل إن إسرائيل اليوم غارقة فيما يشبه بحرب أهلية، ولكن كيف وصلت إلى هذه النقطة؟ وهل من المحتمل أن يكون هناك حل؟ أم أن الخلل في أصل قيام الدولة؟!
هل هي قصة أخلاقية؟
الرواية الرسمية هي أنه تم إنشاء إسرائيل بدافع الضرورة، من أجل أن تكون ملاذاً آناً لليهود الهاربين من الاضطهاد الأوروبي ومعسكرات الموت النازية، وضمن هذه الرواية يتم تبرير التطهير العرقي الذي تعرض له الفلسطينيون على أنه نتيجة اليأس للدفاع عن النفس من قبل شعب ظل ضحية لفترة طويلة، فأُعيد اختراع عملية النهب، التي تمت بتواطؤ قوى غربية، للجمهور الغربي على أنها حكاية أخلاقية بسيطة، حكاية خلاص.
لم تتوقف الرواية عند فكرة الفرصة التي وجدها الشعب اليهودي لتقرير مصيره من خلال إقامة الدولة من أجل ضمان الأمان، بل زادت على أن اليهود سوف يبنون دولة من الصفر تكون نموذجاً فاضلاً للعيش أمام العالم، رواية استغلت التطلع المسيحي لدى الغرب للأرض المقدسة على أنها مكان الخلاص.
وفقاً لفلسفة الخلاص، يستعيد اليهود مكانهم ك “نور للأمم” من خلال “استرداد” الأرض التي سرقوها من الفلسطينيين وتمهيد الطريق للغرب ليستفيدوا منها كذلك، من خلال فكرة مجتمعات “الكيبوتس” المتعطشة للأرض والزراعة حصراً على أنقاض القرى الفلسطينية!
اليهود العرب تم تسميتهم “المزراحيم” وهو مصطلح أدى إلى تجريدهم من هويتهم الاصلية، سواء كانوا مغاربة أو عراقيين أو يمنيين
وتعد الكيبوتس شكلاً من أشكال المعيشة التي تسمح لليهود بالازدهار من خلال العمل على الأرض من أجل “تهويدها” ومحو أي بصمة عربية، من هذه الفلسفة سارع الآلاف من الغرب إلى إسرائيل للتطوع في الكيبوتس والمشاركة في المشروع الحضري!
هذه القصة الرسمية لم تكن أكثر من مجرد خداع، فلم يكن هناك مساواة في مجتمع الكيبوتس ولا أي تعويض، بل كانت طريقة ذكية لإخفاء السرقة الجماعية للأراضي الفلسطينية وترسيخ الانقسام الديني والعرقي والطبقي الجديد بين اليهود.
طبقية حسب الامتيازات
ينتمي غالبية مؤسسي إسرائيل إلى وسط وشرق أوروبا، دافيد بن غوريون أول رئيس وزراء مهاجر من بولندا، ويُعرف هؤلاء باسم اليهود الأشكناز، قاموا بتأسيس مجتمعات الكيبوتس وأبقوها محصنة، لتكون نموذجاً للمستوطنات في الضفة لاحقاً.
كان الكيبوتس عبارة عن مجتمعات مسورة، تقرر لجان محددة من يتمكن من العيش بداخلها، ولها حراس مسلحون على المدخل، للحماية من الفلسطينيين بالغالب، ولكن أيضاً على اليهود من أبناء الشرق الأوسط أيضاً الذين تم تجنيدهم على مضض من قبل نخبة الأشكناز، خلال خمسينيات القرن العشرين في حرب الديمغرافيا مع الوجود الفلسطيني.
أُطلق على هؤلاء اليهود العرب اسم “المزراحيم”، وهو مصطلح أدى إلى تجريدهم من هويتهم الاصلية، سواء كانوا مغاربة أو عراقيين أو يمنيين، وهم يشكلون اليوم نصف سكان إسرائيل.
لم تكن الكيبوتس أمكنة جميلة للعيش فقط، بسبب الأراضي والحدائق وإنما كانت محاضن لتربية النخبة الأشكنازية لتصبح في أعلى الرتب في الجيش وتدير الحكومات ويصبح منهم رواد أعمال وقضاة، ولذلك كانت تلك النخبة هي الخاسر الأكبر من نضال الفلسطينيين ضد سرقة وطنهم، عملت على تكثيف “القومية اليهودية” المتمثلة بالصهيونية المعادية للعرب والفلسطينيين.
سيطر الأشكناز على جميع المستويات في المجتمع الإسرائيلي، بينما كانت تتم معاملة المزراحيم بالازدراء والعنصرية في كثير من الأحيان، فظلوا بين الطبقة الفقيرة والوسطى، في تسلسل هرمي ولد استياء بين أبناء الجيل الثاني والثالث في إسرائيل، وعزز الانقسام السياسي، بين حزب العمل الذي يمثل الأشكناز مقابل حزب الليكود الذي يعد صوت المزراحيم المضطهدين.
استغلال المظلومية
فهم نتنياهو، أطول من حكم إسرائيل على فترات متقطعة منذ عام 1996، هذا الانقسام جيداً، على الرغم من أنه أشكنازي، فأصبح مع الوقت بارعاً في تسليح استياء المزراحيم لصالحه، حيث يستثمر الليكود، حزب نتنياهو، حلفاءه الدينيين المتطرفين في معركة التعديلات القضائية ليس فقط لإبقاء نتنياهو خارج السجن فحسب، لأنه من السهل تشويه سمعة السلطة القضائية، لأن مجموعة الأشكناز قادرة في نهاية المطاف على اتخاذ قرارات بشأن القضايا التي تحافظ على امتياز الأشكنازي.
أما المزراحيم فلديهم عدد من القضايا التي تشكل مظالم تاريخية، مثل الإسكان وقضايا اختفاء أطفال المزراحيم في سنواتهم الأولى فيما يُعتقد أنه يتم تبنيهم سراً لعائلات من الأشكناز، والإرسال القسري للمدارس الداخلية، والمصادرة المنتظمة للممتلكات من قبل محاكم الجباية وغيرها.
ارتبط انتصار إسرائيل عام 1967 واحتلالها للضفة والقدس ارتباطاً وثيقاً بالتوراة، من خلال تفسير المتدينين لذلك الحدث على أنه معجزة واعتراف إلهي بحق الشعب اليهودي في الاستيطان
أسهل طريقة لليمين المتطرف إذن هي تشويه القضاء من خلال مظالم المزراحيم لحشده المزيد من الجماهير، والمعركة الدائر اليوم على الأرض تعطي انطباعاً عن هذا الانقسام التاريخي.
“حماسة” المستوطنين
لقد أضافت موجة الاستيطان التي تبعت احتلال 1967 للأراضي الفلسطينية، طبقة أخرى من التعقيدات الاجتماعية والاقتصادية الموجودة أصلاً، الأمر الذي زاد من حدة التعصب الديني والقومية المعادية للفلسطينيين، رغم بدء الاستيطان من قبل حزب العمل الأشكنازي، لكن سرعان ما أصبح برنامج الليكود السياسي، خاصة وأن النخبة الأشكنازية لم تكن ترغب في تغيير معيشتها المريحة في إسرائيل.
بناء على ذلك، صار سكان المستوطنات من الطبقات الأكثر تهميشاً بالمحصلة، المزراحيم، والأصوليون الدينيون المعروفون بـ الحريديم وموجة لاحقة من المهاجرين الناطقين باللغة الروسية من الاتحاد السوفيتي، وكان الحافز الاقتصادي الأهم هو الأرض الرخيصة والمساكن المتوفرة، فقد كانت المنازل كبيرة وبأسعار معقولة.
نظراً لأن المستوطنات بُنيت على أرض مسروقة محتلة، كان يمكنها أن تتوسع دون تكلفة، يحتاج الإسرائيليون إلى فرض أمر عسكري فقط لطرد الفلسطينيين، أو تفويض ذلك للمستوطنين “المتحمسين”، ومع ذلك، كان الأصعب احتواء الدوافع الدينية المرتبطة مع التوجه الاستيطاني.
ارتبط انتصار إسرائيل عام 1967 واحتلالها للضفة والقدس ارتباطاً وثيقاً بالتوراة، من خلال تفسير المتدينين لذلك الحدث على أنه معجزة واعتراف إلهي بحق الشعب اليهودي في الاستيطان على اعتبار أنه “استعادة حق توراتي”، وغالباً ما أقيمت المستوطنات بالقرب من المواقع ذات الأهمية التوراتية لتعزيز الصبغة الدينية على المستوطنات.
لقد أنشأت القيادة الأشكنازية وحشاً لم تتمكن من ترويضه وصل إلى السلطة اليوم وهي الكتلة الدينية المتطرفة
من جهة أخرى، زاد نظام التعليم من التعصب بين اليهود أنفسهم، فمعظم الأطفال الأشكناز يرتادون المدارس العلمانية، أما الأطفال الشرقيين فانتهى بهم الأمر في المدارس الدينية الحكومية، فكانت النتيجة أن الدينيين و المزراحيم وذوي الأصول الروسية، تحولوا إلى قوميين ومعادين للفلسطينيين، وهو ما لم يتوقف تأثيره في وجه الفلسطينيين، بل امتد أثره إلى داخل المجتمع الإسرائيلي أيضاً.
كتلة جديدة في السلطة
يجسد الائتلاف الحاكم، المصبوغ بصبغة دينية برئاسة نتنياهو، كتلة السلطة الجديدة الناشئة التي قد تأخذ دور مجموعة الأشكناز الذين بدؤوا المشروع، ومن أهم عناصر قوتها بن غفير الذي ينحدر والديه من العراق، فهو يقود الجناح الأكثر تعصباً وخطورة في حركة المستوطنين، ومستعد للمواجهة مع القيادة العسكرية والاستخبارات حول السياسة الأمنية لإسرائيل، لا سيما فيما يتعلق بالمستوطنات والفلسطينيين داخل إسرائيل.
أما الثقل الأيديولوجي لحركة المستوطنين فيأتي من بتسلئيل سموتريتش، الذي هاجر أجداده من أوكرانيا وكان والده حاخاماً أرثودكسياً، وقد ارتبط كلا الرجلين تاريخياً باستخدام العنف لتحقيق أهداف سياسية.
بن غفير أُدين بالتحريض على العنصرية ودعم منظمة إرهابية عام 2007، أما سموتريتش، فقد تم القبض عليه عام 2005 خلال تحركات الانسحاب من غزة وبحوزته مئات اللترات من البنزين، حيث كان يخطط لتفجير طريق في تل أبيب كما اتهمته الشرطة آنذاك.
لعقود طويلة، افترض قيادة الأشكناز أن اليمين الديني، خاصة المزراحيم والحريديم، سيتقبلون أن يكونوا مواطنين درجة ثانية إن صح التعبير طالما تم شراؤهم بامتيازات على الفلسطينيين، لكن وود اليمين المتدين الآن في السلطة، يؤكد أنهم يريدون تشكيل الشخصية اليهودية لإسرائيل أيضاً.
لقد أدت الحماسة الدينية التي كانت المؤسسة الأشكنازية تأمل في تسليحها ضد الفلسطينيين، خاصة من خلال الاستيطان، عادت لتضربها، وكأنها أنشأت وحشاً لم تتمكن من ترويضه ولا حتى نتنياهو تمكن من ذلك.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)