بقلم لبنى مصاروة وبيتر أوبورن
ترجمة وتحرير مريم الحمد
لأجيال عدة، ظل موسم عيد الميلاد سبباً لانتعاش عائلة جياكامان الفلسطينية في بيت لحم، حيث تمتلك العائلة محل كريسماس هاوس، وهو أحد المتاجر الرئيسية في ساحة المهد في بيت لحم، يبيعون فيه تماثيل الميلاد والزخارف الاحتفالية والمسابح والصلبان وغيرها من الأدوات الدينية، كلها منحوتة بزخارف من خشب الزيتون المحلي قاموا بها في ورشة عمل خاصة بهم.
على مدى العامين الماضيين، ظلت أبواب محل كريسماس هاوس مغلقة، حسبما قال جاك عيسى جياكامان الذي يدير حالياً أعمال العائلة، لميدل إيست آي، فقال: “لا ترى أحداً حولك، فلسوء الحظ، خلال السنوات الأخيرة، حولت إسرائيل بيت لحم إلى سجن كبير”.
رغم أنه لم يبقَ إلا أيام فقط على عيد الميلاد، إلا أن ساحة المهد كانت شبه مهجورة، حيث لم يقم سوى عدد قليل من السكان المحليين بالتقاط صور لشجرة عيد الميلاد التي تعلوها نجمة والمزينة بالحلي الحمراء والذهبية، فالمتاجر مغلقة والمرشدون السياحيون لا عمل لديهم هذا العام.
“بيت لحم تعتمد على السياحة، ومنذ الحرب توقفت السياحة وأغلقت جميع الفنادق والصناعة بشكل كامل، مما أدى إلى قيام العديد من سكان بيت لحم ببيع أعمالهم ومغادرة بيت لحم” – جاك عيسى جياكامان- صاحب محل في بيت لحم
في حديثه لميدل إيست آي، أوضح أسعد جكمان، وهو صاحب متجر محلي آخر للهدايا التذكارية: “كل يوم سبت يأتي عدد قليل من الفلبينيين والهنود ممن يعملون في إسرائيل، لكن هذا ليس كافياً، فكل شيء مغلق، ولماذا نفتح؟ فلا أحد يدخل، لا أشخاص، لا شيء، ماذا سنفعل؟ أحياناً أفتح بسبب الملل ولكن الوضع يرثى له”.
لقد أصبحت الضائقة الاقتصادية التي اجتاحت بيت لحم منذ تفشي جائحة فيروس كورونا الآن مصحوبة بتهديد أكبر، ففي ظل الضغط الشديد الذي تتعرض له مدينة بيت لحم بسبب الجدار العازل بين إسرائيل والضفة الغربية المحتلة، والتي تحاصرها المستوطنات على التلال المحيطة بها، وتختنقها شبكة من عشرات نقاط التفتيش والبوابات الأمنية، تعيش بيت لحم بهويتها المسيحية الفلسطينية تحت حصار مشدد.
كان المسيحيون يشكلون 85% من سكان محافظة بيت لحم عند إنشاء إسرائيل، ولكن بحلول عام 2017 انهار هذا الرقم إلى حوالي 10%، حيث تسارع الهجوم الإسرائيلي على بيت لحم بمعدل حاد منذ فبراير عام 2023، عندما سلم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، السلطة على الضفة الغربية.
منذ ذلك الحين، استمر الوضع في التدهور حيث أعقب الدمار الاقتصادي الناجم عن فيروس كورونا الحرب في غزة والقمع الإسرائيلي الوحشي في الضفة الغربية الذي رافقها.
في مقابلة مع ميدل إيست آي، أوضح القس منذر إسحاق، الذي كان قساً محلياً بارزاً لسنوات عديدة قبل انتقاله إلى رام الله: “نودع عائلة أخرى كل أسبوعين أو نحو ذلك، فالعائلات المسيحية تغادر وقد تخلى الناس عن أمل الحياة بكرامة في وطنهم”.
استيلاء المستوطنين على منطقة رعوية
كانت هناك أنباء تتوالى مؤخراً عن خطر الاستيلاء على المزيد من الأراضي، حيث أعلن سموتريتش مؤخراً عن إضفاء الشرعية على 19 مستوطنة غير مصرح بها سابقاً في جميع أنحاء الضفة الغربية، فكتب سموتريتش على وسائل التواصل الاجتماعي: “إن شعب إسرائيل يعود إلى أرضه، ويبنيها ويعزز قبضته عليها”.
وقد شملت هذه المنطقة بلدة ياتسيف (التي تعني “مستقر” باللغة العبرية)، على بعد بضعة كيلومترات شرق بيت لحم في قرية بيت ساحور الفلسطينية، وهي واحدة من المجتمعات المسيحية القليلة المتبقية في الضفة الغربية.
يذكر أن الجرافات وصلت إلى بيت ساحور الشهر الماضي بالفعل لتمهيد الأرض، مما أثار الذعر والخوف بين السكان المحليين.
في حديثها لميدل إيست آي، تقول داليا قمصية، الناشطة في مجال حقوق الإنسان والمقيمة المحلية: “هناك شعور بالرعب وانتشار لمشاعر الحزن والأسى، فلا يزال الجرح مفتوحاً، نحن نفقد أرضنا بشكل مستمر ولا يمكننا تصور الفكرة”.
وتعد بيت ساحور ذات أهمية في قصة عيد الميلاد، وذلك باعتبارها المكان الذي جلبت فيه الملائكة خبر ولادة يسوع إلى الرعاة “الذين يحرسون قطيعهم ليلاً”.
كل فلسطيني يعرف ما الذي يعنيه وصول المستوطنين، فهو يعني تدمير طريقة الحياة القديمة وبناء طرق فصل عنصري جديدة تخترق المناظر الطبيعية وتعيد رسم الخريطة، بالإضافة إلى طرد المزارعين والرعاة من أراضيهم وتحطيم المعدات الزراعية وتوقع المذابح والترويع اليومي من قبل المستوطنين.
تقول قمصية: “يقع حقل الرعاة الآن بين مستوطنتين ونحن محاصرون، فوجودنا القديم كسكان أصليين في هذه الأرض مهدد، وقد رأينا أفراد عائلاتنا يهاجرون الواحد تلو الآخر، وأنا حذرة عندما أقول كلمة هاجر، لأن الحقيقة أنهم أجبروا على ذلك نتيجة بيئة صنعها الاحتلال الإسرائيلي عمداً، فهي ليست هجرة اختيارية إذا كنت تعيش في بيئة لا توجد فيها كرامة ولا أمان ولا حرية ولا حقوق”.
شجرة ميلاد بلا سياح
في وقت سابق من هذا الشهر، تجمعت حشود في ساحة المهد بينما احتفلت بيت لحم بالإضاءة التقليدية لشجرة عيد الميلاد للمرة الأولى منذ ما قبل بدء حرب غزة.
في حديثه مع ميدل إيست آي، قال رئيس بلدية بيت لحم، ماهر نقولا قنواتي: “في تلك الليلة، احتفلنا معاً وشعرنا بأجواء عيد الميلاد التي افتقدناها لمدة عامين، وهذا بالتأكيد يساعد الاقتصاد المحلي ويمنح الناس الأمل”، لكن كلمات قنواتاتي الدافئة لا تتوافق مع اعترافه بالوضع اليائس الذي تواجهه مدينته وسكانها.
لقد غادر 10% من سكان بيت لحم، أي 4000 شخص، في العامين الماضيين، وفقاً لتقدير رئيس البلدية نفسه والذي قال: “بيت لحم تعتمد على السياحة، ومنذ الحرب توقفت السياحة وأغلقت جميع الفنادق والصناعة بشكل كامل، مما أدى إلى قيام العديد من سكان بيت لحم ببيع أعمالهم ومغادرة بيت لحم”.
بالعودة إلى أصحاب المتاجر، فقد أكد جياكامان بأن شقيقه كان من بين الذين غادروا المدينة وانتقلوا إلى الخارج، فقال: “تحاول وسائل الإعلام إعطاء صورة مختلفة بأن كل شيء طبيعي، فقد وضعوا شجرة عيد الميلاد، لكن 80% وحتى 90% من الفنادق فارغة”.
“جاء حوالي 20 إلى 30 بلطجية مسلحين إلى هنا بالمناشير الكهربائية والهراوات، بعدوانية كاملة محاولين ترهيبنا وطردنا من أرضنا، فالوجود المسيحي في القدس يتعرض للهجوم، وإذا لم نقف متحدين فسوف نخسره” – كيغام باليان- المتحدث باسم حملة Save the ArQ لحماية الحي الأرمني
ولا يعود هذا الوضع البائس إلى غياب السياح فقط، بل وبسبب وجود حلقة كثيفة من نقاط التفتيش العسكرية الإسرائيلية والبوابات الأمنية، التي غالباً ما يتم فتحها وإغلاقها بناءً على رغبة الجنود المتمركزين هناك، فإن العديد من الفلسطينيين من القرى المجاورة يخاطرون إذا قاموا بزيارة المدينة، ويروي جياكامان: “بالأمس، كانت هناك فتاة تقول لأمها (أسرعي، سوف يغلقون البوابات، علينا العودة إلى القرية قبل أن يغلقوا البوابات)”.
أما جكمان، فقد أكد بأن المدخل الرئيسي لبيت لحم، المعروف باسم حاجز 300، ظل مغلقاً طوال معظم شهر ديسمبر رغم أن هذا الشهر هو أكثر الأوقات ازدحاماً بالنسبة للشركات في المدينة، فقال: “هذا شيء غير قانوني ويقتل الاقتصاد في بيت لحم بالكامل”.
المسيحيون يواجهون التهديد
ولا يتعرض المسيحيون في بيت لحم فقط للتهديد، فقد أدى الاحتلال الإسرائيلي، وفوق كل شيء بناء الجدار العازل، إلى قطع الحبل السري الذي كان يربط المسيحيين في بيت لحم بالقدس منذ ما يقرب من 2000 عام.
مثل الأماكن المقدسة الأخرى في القدس، تقع أقدس المواقع المسيحية داخل الأسوار القديمة للبلدة القديمة في القدس الشرقية المحتلة، وهنا، يتم استهداف المسيحيين والاعتداء عليهم، وكثيراً ما يتم البصق عليهم من قبل المستوطنين المتطرفين.
أفاد مركز بيانات الحرية الدينية عن زيادة في جرائم الكراهية ضد المسيحيين، مع عدم اهتمام الشرطة، حيث تصاعدت الهجمات بشكل صاروخي ضد السكان المسيحيين الأرمن في القدس البالغ عددهم 3000 شخص.
يقوم المستوطنون بانتظام بتخريب المنطقة بالكتابات على الجدران، على سبيل المثال، “الموت للعرب وأصدقائهم الأرمن”، كما تم تمزيق أو تشويه الملصقات التي تحيي ذكرى الإبادة الجماعية للأرمن، وقد جاء في أحد الملصقات التي تم نشرها مؤخراً: “لقد حان الوقت للاستقرار في غزة”.
في تصريحها لميدل إيست آي، أكدت المتحدث باسم حملة Save the ArQ، وهي حملة لحماية الحي الأرمني، كيغام باليان، كيف كان السكان المحليون يحرسون الحواجز منذ أكثر من عامين لمنع توغلات المستوطنين بعد احتجاجات ضد صفقة الإيجار التي وافقت عليها البطريركية الأرمنية.
وتذكر باليان كيف “جاء حوالي 20 إلى 30 بلطجية مسلحين إلى هنا بالمناشير الكهربائية والهراوات، بعدوانية كاملة محاولين ترهيبنا وطردنا من أرضنا”، حيث يعود الوجود الأرمني في القدس إلى ما لا يقل عن 1700 عام، فتقول باليان: “إن الوجود المسيحي في القدس يتعرض للهجوم، وإذا لم نقف متحدين فسوف نخسره”.
الحقيقة هي أن المسيحيين مهددون في كل مكان في القدس، ففي كنيسة الجلد الواقعة داخل الحي الإسلامي، هاجم المستوطنون تمثال السيد المسيح بالمطرقة، كما يظهر ملصق تهديد على جدار الكاتدرائية الأنجليكانية على طريق نابلس، فيما يتعرض عامل متجر في مكتبة مسيحية يتعرض للبصق عليه.
شريطة عدم الكشف عن هويته، قال أحد القساوسة المسيحيين البارزين في المدينة: “يشعر الجميع أن وجودنا هنا بات في خطر حقاً”.
رعاة من أجل إسرائيل
في الواقع، تتعرض المسيحية لهجوم ترعاه دولة الاحتلال الإسرائيلي في البلد الذي ولدت فيه، فهناك لغز في كل هذا، لأن نتنياهو يحب التباهي بأن إسرائيل هي “حارس المسيحية” في الشرق الأوسط.
في وقت سابق من هذا الشهر، وصل أكبر وفد على الإطلاق من الزعماء المسيحيين إلى إسرائيل في رحلة مدتها أسبوع، وتم دفع جميع النفقات من قبل الحكومة الإسرائيلية، في زيارة أشرفت عليها وزارة الخارجية الإسرائيلية وبموافقة شخصية من نتنياهو نفسه.
خلال رحلتهم، تحدث إليهم الرئيس يتسحاق هرتسوغ ووزير الخارجية جدعون سار والسفير الأمريكي مايك هوكابي، حيث حث هوكابي الوفد على العودة إلى وطنهم “بنار الله المشتعل في عظامكم”، حتى يكونوا “مؤيدين للكتاب المقدس” وبالتالي “مؤيدين لإسرائيل”.
من المعروف أن الإنجيليين المسيحيين حلفاء سياسيين لإسرائيل، متجاهلين ما يتعرض له التراث المسيحي في فلسطين من خطر، فقد زار القادة المسيحيون بالحافلات عمق الضفة الغربية لمشاهدة الحفريات الأثرية في شيلوه، التي يُفترض أنها موقع العهد القديم لخيمة الاجتماع وتابوت العهد، مركز العبادة للإسرائيليين قبل بناء الهيكل الأول في القدس.
إضافة إلى ذلك، فقد زاروا بيت لحم، حيث صرح قنواتي: “التقيت ببعضهم، وأعتقد أنه من واجبنا أن نروي القصة العادلة لفلسطين وأن نتحدث إلى الأشخاص الذين ربما أخبرهم الإسرائيليون بأفكار مختلفة”.
من جهة أخرى، يرفض نقولا بشدة ادعاء نتنياهو بأن إسرائيل هي الوصي على المسيحية في الشرق الأوسط، فقال: “هذا بالتأكيد كلام خاطئ، فما أخرج المسيحيين من بيت لحم هو الاحتلال وجميع الصعوبات التي نواجهها نحن كفلسطينيين، مسيحيين ومسلمين”.
لا يزال جياكامان غير متأكد من موعد إعادة فتح محله كريسماس هاوس، فيقول: “الجميع يبكون على المسيحيين، لكننا نقتل بسكين مسيحيي أوروبا وأمريكا ولا حماية لنا كمسيحيين من الدول المسيحية، فأنا لا أرى أي أمل أو مستقبل للمسيحيين في الأراضي المقدسة بعد الآن، ففي السنوات العشرين المقبلة، أعتقد أنك ستأتي وتزور بيت لحم، وربما ترى عائلة أو عائلتين متبقيتين”.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)







