بقلم ديفيد هيرست
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
لا شيء يكشف حقيقة المشروع الصهيوني أكثر من المشاهد السنوية لهجمات المستوطنين على الفلسطينيين أثناء موسم قطف الزيتون في الضفة الغربية، ففي هذا العام، جاءت الهجمات أكثر شراسة من أي وقت مضى، وكأن عامين من الإبادة الجماعية في غزة قد أزالا آخر ما تبقّى من قيودٍ أو وازعٍ أخلاقي لدى دولة الاحتلال.
فالهجمة ليست مجرد اعتداءات عابرة، بل هي امتداد لسياسة تطهيرٍ ممنهجة تهدف إلى طرد الفلسطينيين من أرضهم، ومحو رموز وجودهم التاريخي، ومثلما تُجسّد راية فلسطين رمز الهوية والسيادة، يُمثّل شجر الزيتون روح الانتماء التي تتوارثها الأجيال، ولهذا تسعى دولة الاحتلال لاقتلاعها كما تقتلع أصحابها.
وتروي عفاف أبو عليا وهي أم فلسطينية تبلغ من العمر 53 عامًا، تفاصيل الاعتداء الذي تعرّضت له قائلة: “عندما قطعوا أشجار الزيتون، شعرتُ وكأنهم يفقأون أعيننا، هذه الأشجار عزيزة علينا مثل أبنائنا”.
تختصر هذه الكلمات مأساة جيلٍ كامل، جيلٍ يواجه آلة استيطانية لا تعرف الرحمة، مدفوعةً بعقيدة عنصرية ترى في الفلسطيني مجرد عائقٍ على طريق “أرض الميعاد”.
إرهاب منظم تحت حماية جيش الاحتلال
ما يجري في الضفة الغربية ليس مجرد سلوك متطرفين، بل عنفٌ مؤسسيّ تشارك فيه أجهزة دولة الاحتلال بأكملها من المستوطنين المسلحين بالعصي والمسدسات، إلى جنود جيش الاحتلال الذين يطلقون الغاز والرصاص على المزارعين، مرورًا بشرطة الحدود التي تعتقل الضحايا بدلًا من الجناة، وانتهاءً بالقضاء الذي يمنح القتلة الحصانة، والكنيست الذي يشرّع لجرائمهم.
إنها سلسلة تكاملية من القمع تبدأ من الحقل وتنتهي في البرلمان، هدفها النهائي هو ابتلاع ما تبقّى من الضفة الغربية، وفي مشهدٍ يختصر هذه المنظومة، منعت قوات الاحتلال سيارات الإسعاف من نقل جرحى هجمات المستوطنين، في وقتٍ كان فيه جنودها يؤمّنون طريق تلك العصابات التي تهاجم الفلسطينيين في قراهم النائية.
وتمثّل شجرة الزيتون للفلسطينيين أكثر من مورد رزق؛ إنها رمزٌ للثبات والتجذر في الأرض، فهي تُثمر رغم الحصار، وتُورّث من الأب للابن كوصية أبدية بأن هذه الأرض لنا، لذلك، فإن استهدافها يحمل رسالة واضحة: اقتلاع الإنسان من تاريخه قبل اقتلاعه من أرضه.
إن عمليات التطهير هذه ليست سوى عدوانٍ عرقيٍّ صِرف، هدفه الوحيد طرد الفلسطينيين من أرضهم، ولا يمكن لأي من يسمّي نفسه صديقًا لدولة الاحتلال أن يدّعي الجهل بذلك”.
وبينما يواصل المستوطنون حرق السيارات وضرب الأهالي وسرقة المحاصيل، لا تجد دولة الاحتلال حرجًا في وصف ذلك بأنه “دفاع عن النفس”، وكأن الضحية هي المعتدي والمجرم هو الحارس!
من حرب غزة إلى حرب الزيتون
بعد عامين من حرب الإبادة في غزة، انتقلت شهية الاحتلال من القصف إلى الابتلاع التدريجي للضفة، مستغلةً صمت العالم وانشغاله بمأساة القطاع، وما يجري في موسم الزيتون ليس سوى فصل جديد من حربٍ مستمرة تُشنّ ضد الوجود الفلسطيني كله، من البحر إلى النهر.
“وليست الهجمات على المزارعين، وقطع الأشجار، وحرق الحقول مجرد أنشطة فردية، بل سياسة دولة، ومقدمة لضمّ الأرض رسميًا تحت مسمى السيادة..
وهكذا يتحول موسم الزيتون، الذي لطالما مثّل فرحًا واحتفالًا بالأرض، إلى موسمٍ من الدم والدموع، حيث تتساقط الثمار على ترابٍ مصطبغ بدماء أصحابها.
وفي الوقت الذي تنشغل فيه الأنظار بإبادة غزة، يجري في الضفة الغربية ضمّ صامت لا تقل خطورته عن الحرب المفتوحة، فمشروع التهويد لم يعد مجرد طموح أيديولوجي، بل أصبح سياسة دولة مُعلنة تُنفَّذ في العلن، وتحظى بإجماع واسع داخل المنظومة السياسية في دولة الاحتلال.
فقد مرر برلمان الاحتلال (الكنيست) مؤخرًا قراءة أولى لقانونين خطيرين، يمهّدان لفرض “السيادة الإسرائيلية” على المستوطنات المقامة على أراضي الضفة الغربية المحتلة، حيث يسعى القانون الأول لتطبيق السيادة الكاملة على كل المستوطنات، أما الثاني، الذي تقدّم به أفيغدور ليبرمان، فيقترح ضمّ المستوطنات الكبرى تدريجيًا، بدءًا من معاليه أدوميم، في محاولة لابتلاع الأرض الفلسطينية بـ”شرائح السلامي”، أي قطعة تلو الأخرى.
إجماع صهيوني على ابتلاع الضفة
ما يثير الصدمة ليس تمرير هذه القوانين فحسب، بل غياب أي معارضة حقيقية لها داخل الكنيست، فحتى ما يُعرف بـ”المعارضة” من أحزاب الوسط واليسار، مثل “يش عتيد” بقيادة يائير لابيد و”المعسكر الوطني” بقيادة بيني غانتس، صوّتت لصالح مشروع الضم، فلا توجد في الواقع معارضة لمشروع الضم، فهو يحظى بتأييد من كلا المعسكرين.
أما الوزير يولي إدلشتاين، الذي كسر إجماع حزب الليكود وصوّت مع المشروع، فبرّر موقفه بالقول: “السيادة الإسرائيلية في كل أرجاء وطننا هي أمر الساعة، وعلى كل الفصائل الصهيونية أن تصوّت لصالحها”.
وهكذا يتضح أن الضم أصبح القاسم المشترك بين أطياف السياسة الصهيونية، من المتدينين القوميين إلى الليبراليين المزعومين.
من الكنيست إلى الحكومة: تكامل الأدوار
وبدورهما، أعلن وزيرا العدل والدفاع في حكومة الاحتلال، ياريف ليفين وإسرائيل كاتس، تأييدهما للضم الكامل، مؤكدين أن ذلك “مسألة وقت لا أكثر”، أما وزير المالية المتطرف بتسلئيل سموتريتش، الحاكم الفعلي للضفة الغربية، فقد قدّم الرؤية الأوضح لما يجري، فبالنسبة له، “الخطة ماضية قدمًا” سواء أيدها العالم أم لا.
لقد بات سموتريتش اليوم صوت التيار المركزي في دولة الاحتلال، لا مجرد متطرف هامشي كما يظن البعض، فهو يعبّر عن الروح الجديدة للمشروع الصهيوني: السيطرة على “أكبر مساحة من الأرض بأقل عدد ممكن من العرب”.
ورغم أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب وجّه تحذيرًا إلى الاحتلال من مغبة ضمّ الضفة الغربية، زاعمًا أن الخطوة “ستنهي الدعم الأميركي”، فإن سموتريتش لم يُعر الأمر اهتمامًا، مؤكدًا أن واشنطن نفسها ستعترف بالضم في نهاية المطاف، تمامًا كما فعلت عندما اعترفت بسيادة الاحتلال على الجولان والقدس.
ضمّ بالتقسيط.. وخطة ممنهجة
الضم لا يحدث بين ليلة وضحاها، بل هو مشروعٌ طويل الأمد يجري تنفيذه بخطوات محسوبة، تبدأ من السيطرة الأمنية، ثم الإدارية، فالاقتصادية، وتنتهي بالاعتراف القانوني.
وجاء في بيان الليكود ردًا على المعترضين: “نحن نرسّخ السيادة يوميًا بالفعل، عبر الميزانيات والبناء والصناعة، لا عبر الشعارات”.
لكن وراء هذه اللغة البيروقراطية، تكمن خطة إحلال كاملة: خنق الوجود الفلسطيني تدريجيًا حتى يختفي من الخارطة، فالاحتلال نجح بالفعل في طرد الفلسطينيين من خُمس ما تبقّى لهم من أراضي الضفة خلال السنوات الأخيرة، مستغلًا العنف الميداني كغطاء سياسي لسياسة الضمّ.
موسم الزيتون.. شاهد على النهب
تُظهر بيانات “هيئة مقاومة الجدار والاستيطان” أن 158 اعتداءً نفّذه المستوطنون منذ بداية موسم الزيتون الحالي، تحت حماية مباشرة من جيش الاحتلال، وأدت تلك الهجمات إلى تراجع الإنتاج الفلسطيني إلى سبعة آلاف طن فقط هذا الموسم، وهو أدنى مستوى منذ عقود.
كما دمّرت آلة الاحتلال عشرة آلاف شجرة زيتون منذ مطلع العام، أي ما يعادل مصدر رزق عشرات آلاف الأسر، لكن الهدف الحقيقي ليس الشجر، بل الأرض التي تُقتلع منها.
“الهدف من كل ذلك هو تحقيق معادلة سموتريتش: أكبر قدر من الأرض وأقل عدد من الفلسطينيين”، وبذلك، يصبح موسم الزيتون مرآةً مكشوفة لسياسة الضمّ الزاحف التي تمارسها دولة الاحتلال يومًا بعد يوم، تحت سمع وبصر العالم المتواطئ بصمته، والقيادة الفلسطينية الغارقة في حساباتها الداخلية.
عباس وإرث التيه: حين يعيد ترتيب الكراسي على سطح السفينة الغارقة
بينما تواصل دولة الاحتلال ابتلاع ما تبقّى من الضفة الغربية، تبدو القيادة الفلسطينية في رام الله غارقة في صراعاتها الداخلية، وكأنها تعيش في عالمٍ موازٍ لا علاقة له بالإبادة في غزة ولا بالضم الزاحف في الضفة.
فالمشهد الفلسطيني اليوم يشبه سفينة تغرق ببطء، فيما ينشغل الرئيس محمود عباس بإعادة ترتيب الكراسي على سطحها، في محاولة عبثية لإيهام الجميع بأن القيادة ما زالت تمسك بالدفة.
مرسوم جديد لإغلاق باب الخلافة
بعد تداول أنباء عن احتمال إطلاق سراح القيادي الأسير مروان البرغوثي بعد أكثر من عشرين عامًا في سجون الاحتلال، خاصة بعد مناشدات زوجته فدوى للولايات المتحدة، سارع عباس إلى إصدار مرسومٍ رئاسي يقطع الطريق على أي منافس محتمل.
المرسوم نصّ على تعيين حسين الشيخ ليتولّى الرئاسة مؤقتًا في حال “تعذّر” قيام الرئيس بمهامه، والشيخ هو نائب رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، والمعتمد من كلٍّ من تل أبيب وواشنطن كخليفة مضمون الولاء.
لكن هذا القرار جاء رغم أن أقل من 19 بالمئة من الفلسطينيين فقط عبّروا في استطلاعات الرأي عن قبولهم بحسين الشيخ نائبًا للرئيس، أي أن عباس تجاهل الرأي العام تمامًا، كما تجاهل منذ أكثر من عقدين مطلب الشعب بإجراء انتخابات عامة.
كما أن الانتخابات الرئاسية لم تُعقد منذ 21 عامًا، والمجلس التشريعي الذي انتخبه الفلسطينيون عام 2006 – وفازت فيه حركة حماس بـ74 مقعدًا من أصل 132 – حلّه عباس بعد خسارته، لتُشلّ بذلك الحياة السياسية بالكامل.
وينص القانون الأساسي على أن رئيس المجلس التشريعي هو من يتولى الرئاسة مؤقتًا في حال شغور المنصب، لكن عباس عطّل المجلس ليُبقي السلطة في دائرته وحده.
سلطة بلا شرعية.. وشعب بلا تمثيل
هذا السلوك ليس جديدًا على عباس، فمنذ سنوات وهو يتصرّف كما لو أن المشروع الوطني الفلسطيني ملكٌ شخصيٌّ له، يوزّع المناصب ويصوغ القوانين ليضمن بقاءه، وكأن مجزرة غزة لم تقع، وكأن السلطة الفلسطينية ليست مهددة بالانهيار التام تحت ضغط الاحتلال والرفض الشعبي.
تجاهلت السلطة الإبادة في غزة، واكتفت ببيانات باهتة ودعوى قضائية ضد قادة الاحتلال في المحكمة الجنائية الدولية، أما سياساتها الفعلية فبقيت حبيسة عقلية التنسيق الأمني ورفض أي شراكة مع فصائل المقاومة.
ورغم أن العالم كله يرى ما يفعله الاحتلال، فإن عباس ما زال يعتبر حركات المقاومة تهديدًا لسلطته لا جزءًا من نضال الشعب الفلسطيني، إذ لم تؤدِّ حرب الإبادة في غزة إلى أي مراجعة في سياسات عباس، بل زادت من إصراره على إقصاء حماس عن أي حكومة وحدة وطنية.
فصائل تبحث عن البقاء
أما بعض قيادات حركة فتح الذين يظهرون في المحافل الدولية فقد باتوا أكثر حذرًا، إذ يربطون بين ضرورة إشراك حماس في أي تسوية سياسية وبين شرط نزع سلاحها في غزة، لكن عباس يرفض حتى النقاش في الفكرة، متمسكًا بخطابٍ تجاوزه الواقع منذ سنوات، حتى أنه أصبح يشابه حال رئيس وزراء دولة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، فكما أن نتنياهو يفاخر بأنه قتل فكرة الدولة الفلسطينية في مهدها، يفاخر عباس بأنه بقي في الحكم واحدًا وعشرين عامًا بعد أن خسر شرعيته الفعلية.
هذا التقارب بين الرجلين ليس صدفة، فكلٌّ منهما يمثّل وجهًا مختلفًا لعملية واحدة: وأد المشروع الوطني الفلسطيني، نتنياهو بالسلاح، وعباس بالبيروقراطية والتنسيق الأمني.
السعودية.. وحسابات التطبيع
وأشار تقريرٍ سريٍّ لوزارة الخارجية السعودية كشفه موقع ميدل إيست آي، إلى أن الرياض تعتبر حركة حماس “عقبة أمام جهود السلام وتوحيد الصف الفلسطيني”، وهو ما ينسجم مع الرؤية الأميركية والإسرائيلية لإقصاء المقاومة.
حتى أن سموتريتش قال للسعوديين: “استمروا في ركوب جمالكم في الصحراء، بينما نواصل نحن تطوير اقتصادنا ودولتنا”، وهو ما يلخص المشهد: ازدراءٌ صهيونيٌّ علنيّ للعرب، وصمتٌ رسميٌّ عربيٌّ مريع، وقيادة فلسطينية منقطعة عن واقعها.
نهاية مرحلة.. وبداية فراغ
أما مروان البرغوثي، الذي لا يزال في الأسر، فيبقى العنصر المجهول في المعادلة، فهل يستطيع إذا أُفرج عنه أن يستعيد زمام المبادرة ويقود فتح نحو مصالحة وطنية حقيقية؟ أم أن آلة الاحتلال ستغتاله كما اغتالت من قبله ياسر عرفات حين حاول الجمع بين المقاومة والتفاوض؟
“إذا لم يتولَّ البرغوثي أو شخصية مثله قيادة فتح قريبًا، فإن عباس سيغرق بحركته وكل مؤسسات الشعب الفلسطيني معه: السلطة، والمجلس التشريعي، والمنظمة”.
وهكذا، قد تنجو المقاومة الفلسطينية من عواصف الحرب، بينما تغرق السلطة التي وُلدت من رحم اتفاق أوسلو في صراعاتها الداخلية.
كل ما تبقّى لعباس هو إعادة ترتيب الكراسي على سطح التايتانيك، في مشهدٍ يختصر عجز القيادة وتحوّلها إلى عبءٍ على قضيةٍ أقدس من كل المناصب.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)







