بقلم جوزيف مسعد
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
خلال الأسبوع المنصرم، أدانت وزارة الخارجية الأمريكية ومجموعةٌ من المنظمات اليهودية والإسرائيلية تصريحات وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير التي برر فيها القيود المفروضة على حرية الفلسطينيين بالحركة.
فقد قالها بن غفير علناً:” إن حقي وحق زوجتي وحق أطفالي في التنقل بحرية على طرقات يهودا والسامرة أهم من حق العرب في الحركة، آسف يا محمد، ولكن هذا هو الواقع”.
شبَّه الأمريكيون أقواله “التحريضية” بالتصريحات العنصرية، كما أدانت مجموعات الضغط، ومن بينها “الأغلبية الديمقراطية من أجل إسرائيل” و”منتدى السياسة الإسرائيلية” تصريحات بن غفير واصفةً إياها بالـ “بغيضة” والمضرة بصورة إسرائيل في الخارج، وقد ضمت القوى المناهضة للاحتلال في إسرائيل صوتها إلى الأصوات التي أدانت تلك التصريحات.
لقد باتت هذه الإدانات من قبل الصهاينة الليبراليين والحكومات الغربية المؤيدة لإسرائيل أمرًا ضروريًا منذ أن أقرّ البرلمان الإسرائيلي قانون الدولة القومية عام 2018، والذي أعلن أن “الحق في ممارسة تقرير المصير الوطني في دولة إسرائيل القومية هو حق حصري للشعب اليهودي”.
ولكن، هل يمكن وصف القوانين الجديدة بأنها أكثر عنصرية من تلك التي أصدرتها الحكومات الإسرائيلية منذ عام 1948، أو حتى الصادرة عن الحركة الصهيونية منذ نشأتها في أواخر تسعينات القرن التاسع عشر؟
التفوق الصهيوني
إن المستوطنين اليهود اليمينيين يعرفون التاريخ الصهيوني والإسرائيلي جيدًا، فقد احتج عدد من زعمائهم الأسبوع الماضي على الأنشطة العسكرية التي نفذتها الحكومة الإسرائيلية اليمينية ضد الفلسطينيين الخاضعين للاحتلال بزعم أنها أنشطة معتدلة، وطالب قادة المستوطنين حكومتهم باتباع منهجية أكثر صرامة تجاه الفلسطينيين.
كان يوسي داغان، من قادة المستوطنين أكثر صراحةً إذ قال:” أدعو حكومة اليمين إلى التعلم من حكومات ماباي كيفية محاربة الإرهاب”، في إشارة “إلى الحزب الذي كان سلفاً لحزب العمل والذي تولى الحكم في السنوات الأولى لتأسيس إسرائيل وأشرف على عمليات دموية في التصدي للهجمات على الحدود”، حسبما أوضحت صحيفة تايمز أوف إسرائيل.
“نحن نسعى لاستعمار بلد ضد رغبة سكانه، وبعبارة أخرى، بالقوة” – فلاديمير جابوتنسكي
كان داغان بالتأكيد محقاً، فمؤسس الصهيونية نفسه، تيودور هرتزل، كان قد سجّل في مذكراته عام 1895 أن على المستوطنين اليهود مصادرة ممتلكات السكان الأصليين “بلطف” و”محاولة نقل السكان المفلسين عبر الحدود من خلال توفير فرص عمل لهم في دول اللجوء بينما نحرمهم من أي عمل في بلدنا”.
وأضاف هرتزل:” سيقف أصحاب العقارات إلى جانبنا، عملية المصادرة وإبعاد الفقراء يجب أن تجري بتكتم وحذر”.
لقد كان تفوق الحقوق الاستعمارية اليهودية على حقوق السكان الفلسطينيين الأصليين دائمًا السمة المميزة للحركة الصهيونية.
وبكونه المحلل الأكثر رصانة في توصيف مقاومة الشعب الفلسطيني للصهيونية، فقد شبّه زعيم الصهاينة اليمينيين المعتدلين الأوكراني فلاديمير جابوتنسكي الفلسطينيين بكافة الشعوب التي تقع أراضيها تحت الاستعمار الأجنبي، وأكد أن المشروع الصهيوني واضح:” نحن نسعى لاستعمار دولة رغماً عن رغبة سكانها، أي بالقوة”.
وفي مواجهة من يعتقدون أن الصهيونية غير أخلاقية بسبب استعمارها لأرض الفلسطينيين، أكد جابوتنسكي “إما أن تكون الصهيونية أخلاقية وعادلة أو غير أخلاقية وغير عادلة، ولكن كان علينا أن نحسم إجابة هذا السؤال قبل أن نصبح صهاينة، في الحقية، لقد حسمنا هذا السؤال بالإيجاب”، وختم: “الصهيونية أخلاقية وعادلة”.
وأوضح جابوتنسكي، وبشكل منسجم مع الفلسفة العنصرية التي يتبناها المنظِّر السياسي الإنجليزي جون لوك، والذي أضفى الشرعية على سرقة أراضي الأمريكيين الأصليين، فإن العدالة لليهود تعلو على حق الفلسطينيين في وطنهم.
يقول جون لوك “الأرض ليست ملكاً لمن يمتلكون أرضًا زائدة، ولكن لأولئك الذين لا يملكون أي أرض، إنه شكل بسيط من أشكال العدالة أن يتم نقل جزء من أراضيهم من البدان المحسوبة على كبار ملاك الأراضي في العالم، من أجل توفير ملجأ لهم”.
ويضيف:” شعب متنقل بلا مأوى، وفي حال قاومت مثل هذه الأمة الكبيرة المالكة للأراضي – نقل أراضيها-، وهو أمر طبيعي تمامًا، فيجب إجبارها على الامتثال”.
إنكار ومبررات استعمارية
لقد استرشد الزعيم البولندي للحركة الصهيونية في فلسطين، ديفيد بن غوريون بمبدأ جون لوك، فبالنسبة له، كان اليهود المستعمرون كأوروبيين معاصرين يطورون أرض فلسطين، التي يُزعم أنها كانت بورًا في أيدي سكانها الأصليين.
خلال عام 1924، صرح بن غوريون علانيةً:” نحن نطالب للعرب بذات الحكم الذاتي الوطني الذي نطالب به لأنفسنا، لكننا لا نعترف بحقهم في حكم البلاد “.
وعلى ذات المنوال، عارض رئيس المنظمة الصهيونية البيلاروسي، حاييم وايزمان، حق تقرير المصير للفلسطينيين عام 1930 بينما دعم منح هذا الحق لليهود في العالم، مؤكداً أن “الحقوق التي قضت بها عصبة الأمم للشعب اليهودي في فلسطين لا تعتمد على موافقة الفلسطينيين، ولا يمكن إخضاعها لإرادة غالبية سكانها الحاليين”.
لقد كان وايزمان واضحاً في القول أن البريطانيين “لم يطلبوا موافقة العرب الفلسطينيين” عندما منحوا الصهاينة وطناً قومياً في فلسطين، وأضاف أن عدم أهمية الموافقة الفلسطينية هي بسبب الطبيعة “الفريدة” “للارتباط” اليهودي بفلسطين.
أما بالنسبة للفلسطينيين أنفسهم، فلا يمكن “اعتبارهم مالكين للبلاد بالمعنى الذي يمتلك به سكان العراق أو مصر بلدانهم”، إن منحهم حق تقرير المصير أو الحكم الذاتي أو “مجلس تشريعي… سيكون بمثابة تخصيص البلاد لسكانها الحاليين”.
ورغم اعتراف المستعمرين اليهود بحقيقة الصهيونية الدقيقة كمشروع استعماري استيطاني أوروبي وبمشروعية المقاومة الفلسطينية، حتى لو كانوا يعتقدون أن لديهم الحق الأخلاقي والأسمى لقمعها، فقد أدركوا خطورة انكشاف هذا الأمر في سياق الخطاب المناهض للاستعمار خلال الستينيات، وأنه يمكن أن يؤدي إلى نفور مؤيدي إسرائيل الليبراليين البيض في الغرب.
أصبح من الضروري نتيجة لذلك اتباع سياسة جديدة تقوم على إنكار ما تنطوي عليه الصهيونية تجاه للفلسطينيين، ففي ذلك الوقت، أنكرت جولدا مائير الأوكرانية المولد، كرئيسة وزراء لإسرائيل في عام 1969، وجود الشعب الفلسطيني ذاته بمناسبة الذكرى الثانية لاحتلال ما تبقى من فلسطين في حزيران/ يونيو 1967.
ولطالما حظيت غولدا مائير بالاحتفاء الدولي باعتبارها سيدة دولة غربية مستنيرة، كما أن خطابها البغيض المشبع بالأكاذيب لم يقلل من مكانتها في عيون المؤيدين الغربيين من الليبراليين الصهاينة، حيث قالت: “إن الأمر لم يكن كما لو كان هناك شعب فلسطيني وجئنا نحن وطردناه وأخذنا منه وطنه، بل لم يكن لهم وجود”.
نفس العنصرية
لم يقتصر التعبير عن تفوق الحقوق اليهودية على حقوق الفلسطينيين على مؤسسي الصهيونية، بل جاء أيضاً من قبل الساسة الإسرائيليين الليبراليين الذين أصروا على تفوق الحقوق اليهودية على الحقوق الفلسطينية دون أي شعور بالحرج، حيث أكد وزير الخارجية الإسرائيلي الليبرالي، المولود في جنوب أفريقيا، أبا إيبان، عام 1972 أن “تقرير المصير الإسرائيلي يجب أن يكون له الأسبقية الأخلاقية والتاريخية على تقرير المصير الفلسطيني”.
ومن الجدير بالذكر هنا أن الحقوق التي منحتها الصهيونية لليهود المستعمرين لم تكن متفوقةً على حقوق الشعب الفلسطيني فحسب، بل كانت تتفوق أيضًا على حقوق يهود الشتات، ومن الأمثلة المروعة على ذلك رد ديفيد بن غوريون على العرض البريطاني بنقل آلاف الأطفال اليهود من ألمانيا مباشرة إلى بريطانيا حين قال:” لو كنت أعلم أنه كان من الممكن إنقاذ جميع الأطفال في ألمانيا بإحضارهم إلى إنجلترا، أو إنقاذ نصفهم فقط بنقلهم إلى أرض إسرائيل، لاخترت الخيار الثاني، لأنه لا يجب علينا أن نزن حياة هؤلاء الأطفال فقط، بل تاريخ شعب إسرائيل أيضاً”.
النماذج على مثل هذه التأكيدات لا تعد ولا تحصى عبر التاريخ الصهيوني والإسرائيلي، ناهيك عن العشرات من القوانين التمييزية الإسرائيلية التي تمنح اليهود حقوقًا تفضيلية ومتفوقة على الفلسطينيين، والتي لا يبدو أن أيًا منها يسيء إلى مشاعر العديد من الليبراليين الغربيين المؤيدين لإسرائيل والعديد من المنظمات اليهودية الصهيونية الليبرالية.
إذن لماذا يشعر العديد منهم بالإهانة الخطيرة بسبب قانون الدولة القومية الإسرائيلي وأقوال بن غفير وتصريحات المستوطنين اليهود الآخرين؟
الجواب بسيط: ما يقوله القادة اليمينيون في إسرائيل ومستوطنوها اليهود وما يفعلونه بأمانة تامة هو فضح تاريخ الصهيونية وإسرائيل بأكمله مع حاضرها العنصري.
فمن واجب الليبرالي المؤيد لإسرائيل إخفاء تاريخ الصهيونية الاستعماري والعنصري وهو واجب ينتهك عندما تفعل الحكومة الإسرائيلية اليمينية وبن غفير والمستوطنون ما يفعلونه.
إن ما يهدد شعارات الليبراليين الصهاينة صراحة هو حكومة اليمين الإسرائيلية وبن غفير
ينبغي أن نتذكر أن جميع رؤساء الولايات المتحدة أعلنوا دعمهم للصهيونية، بمن فيهم جو بايدن الذي أعلن نفسه “صهيونياً”، ولم يكن أحد غير باراك أوباما من انتقد الفلسطينيين في خطابه سيء الصيت في القاهرة عام 2010 بسبب مقاومتهم إسرائيل، وحثهم يومها على الاعتراف “بحقها المزعوم في الوجود” كدولة يهودية و”الاعتراف بشرعية إسرائيل”.
كما اتهم أوباما الفلسطينيين الذين يتحَدّون البنية والقوانين العنصرية الإسرائيلية بأنهم يهددون بـ “تدمير” إسرائيل وطالب “الفلسطينيين”، وليس الإسرائيليين، “بالتخلي عن العنف، فالمقاومة من خلال العنف والقتل أمر خاطئ ولا ينجح”.
إن ما يهدد مثل هذه الشعارات الليبرالية والإمبريالية المؤيدة لإسرائيل هو الصراحة المطلقة التي تظهرها حكومة إسرائيل اليمينية وحكومة بن غفير والمستوطنين اليهود الآخرين، فعلى ما يبدو فإن هذه الصراحة هي التي تسببت بالإساءة، وليس العنصرية المعادية للفلسطينيين أو التفوق اليهودي.
في حقيقة الأمر، إن الإصرار على تفوق حقوق اليهود المستعمرين على حقوق الفلسطينيين الأصليين هو ما قبلته الجوقة الليبرالية المؤيدة للصهيونية ودافعت عنه دوماً بلا تحفظ، بما في ذلك الأميركيين الذين دعموا ورعوا الاستعمار الاستيطاني اليهودي منذ عام 1948.
للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)