بينما يتجاهل الغرب ضحايا الإبادة الجماعية في غزة، يُصوّر بلطجية مشجعي كرة القدم الإسرائيليين كضحايا

بقلم جوناثان كوك

ترجمة وتحرير مريم الحمد

في كل يوم ومنذ أكثر من عام الآن، ظلت المنظومة الغربية تبتعد عن الواقع أكثر فأكثر، حتى أصبحت أولوياتها مقلوبة وفاحشة بشكل معيب ومثير للسخرية، وآخر الأمثلة على ذلك كان رد الفعل على الاشتباكات العنيفة في أمستردام قبل وبعد مباراة بين مكابي تل أبيب وفريق أياكس المحلي.

كان التأطير السخيف الذي تبناه الساسة الغربيون، بمساعدة وسائل الإعلام الرئيسية، هو أن الإسرائيليين الزائرين قد تعرضوا “للمطاردة” و”المذبحة على يد عصابات الشوارع الهولندية”، ويقصد بها مجموعة من الشباب من أصل عربي ومسلم طبعاً.

ووفقاً لهذه الرواية الرسمية، فإن العنف في شوارع أمستردام شكل دليلاً آخر على ما اعتبروه تصاعد موجة معاداة السامية التي تجتاح أوروبا والمستوردة من الشرق الأوسط، كما تم توصيف الهجمات باعتبارها أصداء لماضي النازيين في أوروبا.

الشرطة الهولندية تظهر إما غائبة معظم الوقت بينما يبحث الإسرائيليون عن المشاكل، حتى أنه لم يتم القبض على مشجع إسرائيلي واحد!

من جانبه، زعم الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته، جو بايدن، أن المشجعين الإسرائيليين واجهوا “هجمات حقيرة تذكر بلحظات مظلمة في التاريخ عندما تعرض اليهود للاضطهاد”.

بطبيعة الحال، ساعدت إسرائيل في تأجيج هذه الفكرة من خلال الوعد بـ “رحلات جوية طارئة لإنقاذ” مشجعي كرة القدم لديها، سعياً لاستحضار عمليات النقل الجوي التي قامت بها لليهود الأثيوبيين في الثمانينيات، بزعم إنقاذهم من المجاعة والاضطهاد، أو ربما الجسر الجوي  لموظفي السفارة الأمريكية من سايغون عام 1975.

المقارنة بالنازية

بدورهم، سارع السياسيون الهولنديون محملين بأجنداتهم العنصرية القبيحة، بالانضمام إلى إسرائيل في تأجيج الهستيريا، حيث صرح الزعيم العنصري اليميني المتطرف لأكبر حزب في البرلمان الهولندي، خيرت فيلدرز، بأن “حثالة متعددة الثقافات” قامت “بمطاردة اليهود”.

أما وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بيربوك، فقد وافقت على تصوير الأحداث في أمستردام على أنها “محرقة ثانية” واصفة المشاهد بأنها “مروعة ومخزية للغاية”، وأضافت: “إن اندلاع مثل هذا العنف ضد اليهود يتجاوز كل الحدود، ولا يوجد أي مبرر على الإطلاق لمثل هذا العنف، يجب أن يكون اليهود آمنين في أوروبا”.

هذه هي ألمانيا نفسها التي تظهر فيها مقاطع فيديو شبه يومية عن الاعتداءات الوحشية على المتظاهرين العرب والمسلمين وأي شخص يلوح بالعلم الفلسطيني على أيدي ضباط الشرطة الألمانية، بسبب تظاهراتهم الاحتجاجية على الإبادة الجماعية في غزة.

ليس لدى بيربوك أي مشكلة فيما يبدو مع هذا التجاوز، سواء كان ذلك من خلال القضاء على الحق في الاحتجاج أو تعزيز المناخ السياسي الذي يسمح بالعنف المعادي للإسلام، وليس من جانب مثيري الشغب العشوائيين في كرة القدم، بل من جانب موظفي الدولة الألمانية!

من جانب آخر، فقد استغل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الافتتاحية التي قدمتها بيربوك لمقارنة أعمال العنف في أمستردام بالمذابح النازية ضد اليهود عام 1938، والمعروفة باسم ليلة الكريستال.

أما وزير الخارجية البريطاني، ديفيد لامي، فكتب على موقع اكس مشيراً إلى أنه “مرعوب”، وكتب: “أدين بشدة أعمال العنف البغيضة هذه وأقف مع الشعب الإسرائيلي واليهودي في جميع أنحاء العالم”.

احتفاء بالإبادة الجماعية

يمكن القول أن هذا التصور الذي رسمه الساسة الغربيون للأحداث كان منفصلاً تماماً عن الواقع، ومثل فيلدرز، استغل المشجعون الإسرائيليون الفرصة في أمستردام للتنفيس عن تعصبهم تجاه ما اعتبرها فيلدرز “حثالة متعددة الثقافات”.

أظهرت مقاطع الفيديو المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي المشجعين الإسرائيليين الزائرين وهم يتقصدون إثارة الشغب عمداً منذ وصولهم إلى أمستردام، ففي الأيام التي سبقت المباراة، قاموا بتمزيق وإحراق الأعلام الفلسطينية في وسط المدينة، كما طاردوا سائقي سيارات الأجرة الهولنديين والمارة المشتبه في أنهم عرب أو مسلمين، وهتفوا بتهديدات بالقتل ضد العرب. 

خلال المباراة، قاموا بالتشويش على دقيقة صمت في الملعب على أرواح ضحايا فيضانات أسبانيا من خلال غناء: “لم تعد هناك مدارس في غزة لأننا قتلنا جميع الأطفال”، ففيما يبدو أن المشجعين الإسرائيليين يشعرون بالاشمئزاز من إسبانيا لأنها اعترفت بفلسطين كدولة.

لاحقاً، أظهر مقطع فيديو المشجعين الإسرائيليين يهتفون بنفس الأغاني وهم في طريق عودتهم إلى تل أبيب: “دع الجيش الإسرائيلي ينتصر ويلعن العرب، أولي أولي أولي أولي، لماذا توقفت الدراسة في غزة؟ لم يعد هناك أطفال هناك!”.

في إحدى الحالات، تم تصوير مقطع فيديو من قبل أحد مشجعي أياكس الهولنديين الشباب وهو يتبع مثيري الشغب في مكابي تل أبيب أثناء اجتياحهم لأمستردام بعد انتشار المباراة على وسائل التواصل الاجتماعي، ويظهر الفيلم عصابة كبيرة من الإسرائيليين تتجول في أمستردام مسلحة بالهراوات ويلقون الحجارة ويواجهون الشرطة المحلية بقوة.

من المثير للدهشة بحق وسط هذا، أن الشرطة الهولندية تظهر إما غائبة معظم الوقت بينما يبحث الإسرائيليون عن المشاكل، حتى أنه لم يتم القبض على مشجع إسرائيلي واحد!

وصمة من الإسلاموفوبيا

كانت تغطية وسائل الإعلام الغربية مستفزة لهذه الأحداث، فقد كانت  تحترم  هؤلاء البلطجية المحرضين على الإبادة الجماعية بشكل غريب، مثل طريقة تعامل الشرطة الهولندية مع عنفهم، ولو كان المشجعون بريطانيين في مثل هذه الحالة مثلاً، لقامت الشرطة باعتقالات جماعية على الفور. 

على نحو مماثل، لو وجد المشاغبون البريطانيون أنفسهم على الطرف المتلقي للعنف في مثل هذه الظروف، فإن وسائل الإعلام البريطانية كانت لتظهر القليل من التعاطف، حيث كان من الممكن أن تُفهم هذه الاشتباكات على أنها فئوية قبيحة، وأنه مشهد غير مألوف في مباريات كرة القدم.

لقد كان هناك تشابه مع 7 أكتوبر، ولكن ليس بالمعنى الذي يريده المؤيد الإسرائيلي أو السياسيون الغربيون، ولكن بالتغطية الإعلامية للهجوم الذي شنته حماس قبل 13 شهراً

الفارق هنا هو أن الاشتباكات التي اندلعت بسبب استفزازات المشجعين الإسرائيليين كان لها سياق أوسع بكثير من مجرد الكراهية بين الفرق المتنافسة، فقد غذتها التوترات المحيطة بالأحداث المروعة التي تجري على الساحة الدولية. 

لم أجد شيئاً صادماً أو شريراً في رد المشجعين الهولنديين، وخاصة أولئك من أصل عربي أو إسلامي، العنيف تجاه الشباب الإسرائيلي، الذي قام معظمه بالخدمة العسكرية في غزة، ويحاول تصدير إبادته الجماعية المناهضة للعرب والمعادية للعرب، من خلال تحريض  أمستردام على المسلمين، وتضخيم مشاعر التعصب والعداء للإسلام لدى كبار الساسة الهولنديين.

بالنظر إلى السياق الأوسع الذي كان سيجعل الأمر أقل دهشة، فإن مشجعي مكابي تل أبيب كانوا يحتفلون في مدينة أخرى بالإبادة الجماعية التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في غزة، بين المواطنين الهولنديين الذين لا ينظرون إلى الحياة العربية على أنها عديمة القيمة أو المسلمين على أنهم “حيوانات بشرية”. 

من المؤسف أن هذه هي بالضبط الطريقة التي ظلت تنظر بها المؤسسة الغربية إلى الفلسطينيين على مدى الأشهر الثلاثة عشر الماضية، حيث قامت إسرائيل بذبحهم في معسكر اعتقال يتقلص يوماً بعد يوم وهو غزة.

“ضحايا المذابح”

كما تعودنا، فقد قامت وسائل الإعلام الرسمية بتكرار العرض الرسمي للأحداث في أمستردام، وربما يكون أفضل وصف لتقاريرها هو التصيد المصطنع.

لقد اعتبرت صحيفة نيويورك تايمز المشجعين الإسرائيليين ضحايا معاداة السامية ويحتاجون إلى الإنقاذ، فكتبت في إحدى العناوين: “الهجمات المعادية للسامية جلبت رحلات جوية طارئة لمشجعي كرة القدم الإسرائيليين”.

وقد نشرت وسائل إعلام أخرى تصريحات مضطربة على ألسنة مسؤولين هولنديين، منها: “لقد خذلنا الجالية اليهودية خلال هجمات مشجعي كرة القدم كما فعلنا في عهد النازيين، كما يقول الملك الهولندي”، أو كما هو الحال مع هذا العنوان الرئيسي في رويترز، حيث كتبت: “أمستردام تحظر الاحتجاجات بعد مهاجمة “الفرق المعادية للسامية” لمشجعي كرة القدم الإسرائيليين”.

أما بي بي سي، فلم تكلف نفسها عناء التحقق من الصور من أمستردام والتي من المفترض أنها استخدمتها لتوضيح الهجمات على المشجعين الإسرائيليين، ولكن في الواقع، كما أشار المصور الهولندي الذي التقط الصورة التي استخدمتها هيئة الإذاعة البريطانية، ظهر العكس تماماً، فقد أظهرت الصورة شباناً إسرائيليين يضربون مواطناً هولندياً.

الادعاء بأن اليهود تعرضوا للهجوم في أمستردام لكونهم يهوداً وليس لكونهم بلطجية كرة قدم إسرائيليين، وأن الرد المناسب الوحيد هو ليس فقط استيعاب بلطجة مشجعي كرة القدم الإسرائيليين، بل استيعاب مصدر تلك البلطجة من أعمال الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة

تكررت إساءة استخدام هذه الصور من قبل كل من سي إن إن والجارديان ونيويورك تايمز وغيرها، في ظل تسابق الجميع لتعزيز رواية الأخبار المزيفة التي تريدها الطبقة السياسية الغربية. 

منبع البلطجة

خلال تغطية سكاي نيوز، اتضحت الدرجة التي سعت بها وسائل الإعلام الرسمية عمداً إلى خداع الجماهير للترويج لرواية رسمية مشوهة منذ البداية، ومن قبل أن تتاح الفرصة للساسة لتأطير الأحداث بشكل أكثر ملاءمة لأجندتهم، كان مراسل سكاي نيوز في أمستردام قد ذكر أن أعمال العنف بدأت من جانب مشجعي مكابي تل أبيب، وهو النادي المعروف بالفعل بالعنصرية العدوانية المعادية للعرب من جانب أنصاره!

سرعان ما تم سحب تقريرها طبعاً، مما أتاح لإسرائيل وفيلدرز وبيربوك وبايدن ولامي صياغة السرد فيما يتعلق بمعاداة السامية والمذابح على الوجه الذي يريدون، فيما ادعت القناة أن الفيديو “لا يفي بمعايير سكاي نيوز بالتوازن والحياد”.

بعد ذلك، تم نشر مقطع فيديو جديد محرر ومعدل بشكل كبير، حيث تم التقليل فيه من عنف المشجعين الإسرائيليين، كما انهالت تصريحات أبرز السياسيين الهولنديين بأن مشجعي مكابي تل أبيب كانوا ضحايا لهجمات معادية للسامية، حتى أن أحد مشجعي مكابي أُعطي مساحة للإشارة إلى أن الاشتباكات أعادت إلى الأذهان هجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023.

لقد كان هناك تشابه مع 7 أكتوبر، ولكن ليس بالمعنى الذي يريده المؤيد الإسرائيلي أو السياسيون الغربيون، ولكن بالتغطية الإعلامية للهجوم الذي شنته حماس قبل 13 شهراً، حيث كانت تتجاهل وسائل الإعلام باستمرار أياً من سياقات تتعلق بعقود من الاحتلال العسكري الإسرائيلي العنيف وغير القانوني لغزة، والحصار الإسرائيلي المستمر منذ 17 عاماً والذي حرم السكان الفلسطينيين هناك من أساسيات الحياة، وأشهر من قيام القناصة الإسرائيليين بإعدام وشل الفلسطينيين الذين حاولوا الاحتجاج على سجنهم. 

وبنفس الطريقة، تم إخراج العنف الذي حدث في أمستردام من سياقه،  فقبول وسائل الإعلام لهذه الرواية الجديدة المسيّسة بشكل علني من قبل وسائل الإعلام مهد الطريق أمام عمدة أمستردام لفرض حملة قمع على المحتجين على غرار الأحكام العرفية. 

لقد استخدمت شرطة المدينة الحظر كذريعة لاعتقال المتظاهرين المناهضين للإبادة الجماعية بشكل جماعي في أمستردام، وذلك عندما خرج السكان للتنديد بالاستفزازات والتحريض على الإبادة الجماعية من قبل المشجعين الإسرائيليين خلال الأيام التي سبقتها.

من جانب آخر، فقد استغل السياسيون الغربيون وشركاؤهم في وسائل الإعلام الرسمية، الحدث لوصم الاحتجاجات في الغرب ضد الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل باعتبارها خطراً بطبيعتها على سلامة اليهود، فيصبح ضمن هذا المنطق من غير الممكن القضاء على معاداة السامية في أوروبا إلا من خلال القضاء على الحق في الاحتجاج على المذبحة التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين. 

هناك خداع مزدوج هنا، فهناك الادعاء بأن اليهود تعرضوا للهجوم في أمستردام لكونهم يهوداً وليس لكونهم بلطجية كرة قدم إسرائيليين، وأن الرد المناسب الوحيد هو ليس فقط استيعاب بلطجة مشجعي كرة القدم الإسرائيليين، بل استيعاب مصدر تلك البلطجة من أعمال الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة.

إسرائيليون وليسوا يهوداً

لقد حرص السياسيون الغربيون ووسائل الإعلام الرسمية على التأكيد على أنهم يشاركون إسرائيل في مشاعرها العنصرية ويدعمون مبعوثيها العنصريين!

الحقيقة أن “الإساءة” ليست شيئاً يقتصر على الإسرائيليين واليهود الصهاينة فقط، كما تريدنا وسائل الإعلام أن نعتقد، فهناك مجموعات أخرى لديها حساسيات أيضاً، حتى لو قام الساسة ووسائل الإعلام الغربية بتشويه أهمية تلك الحساسيات بشكل ممنهج.

لقد ضاعت في خضم هذا الهيجان السياسي والإعلامي حقيقة مفادها أن الناس من الممكن أن يشعروا بالغضب تجاه إسرائيل ومواطنيها، وخاصة عندما يمجدون المذبحة الجماعية بحق الفلسطينيين، دون أن يكرهوا اليهود. 

الهدف الواضح يتلخص في تحويل المجتمعات العربية والمسلمة في أوروبا إلى يهود أوروبا في ثلاثينيات القرن العشرين، الذين كانوا مكروهين ويُنظر إليهم على أنهم يشكلون تهديداً

لقد قامت إسرائيل بتنفيذ إبادة جماعية تم بثها على الهواء مباشرة منذ 13 شهراً، بمباركة ودعم من جميع سكانها تقريباً، ولذلك فإن الخلط بين هذا وبين معاداة السامية هو محض سخافة خطيرة، لأنه يخلق واقعاً يدعي محاولة إيقافه، ويعزز وجود علاقة ما بين كونك يهودياً ودعم الإبادة الجماعية، وهذا هو معاداة السامية الحقيقية!

لقد ساعد تكرار الخلط الخبيث بين إسرائيل واليهودية السياسيين الغربيين ووسائل الإعلام الرسمية على تكثيف الفئوية التي لا يمكن أن تؤدي إلا إلى الاستقطاب المدمر والعنف والقمع.

الحقيقة أن بعض الأوروبيين متعصبون لإسرائيل، وهم على استعداد للتغاضي عن جرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها، وذلك لأنهم يتصورون خطأً أن هذه هي الطريقة الأفضل لحماية اليهود، مما قد يؤدي إلى انسحاب فئة أخرى من الأوروبيين، رغم قلة عددهم، إلى إلقاء اللوم على اليهود في أعمال الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل. 

يعيش كلا الجانبين في واقع زائف تماماً ومعادٍ للديمقراطية، واقع خلقه خداع السياسيين الغربيين ووسائل الإعلام الرسمية، أما أولئك الذين يرفضون أياً من الموقفين، وهم أغلبية عاقلة، فهم يعانون من التجاهل المستمر ويجدون أنفسهم في صف معاداة السامية الحقيقيين.

لقد كررت مراسلة بي بي سي في أمستردام هذا السرد المشوش، قائلة أن المشجعين الإسرائيليين تعرضوا للهجوم بسبب “جنسيتهم”، ولكن كلمة “يهودية” ليست جنسية، والتهليل بصوت عالٍ للإيديولوجية الصهيونية الإسرائيلية المتمثلة بالتفوق اليهودي في الشرق الأوسط، يعد تواطؤاً في إبادة جماعية وحشية.

دفن القصة

هناك سببان مرتبطان باستعداد وسائل الإعلام لإثارة ضجة أخرى معادية للسامية من لا شيء، فقد فجرت وسائل الإعلام قصة البلطجة في كرة القدم هذه وحولتها إلى فضيحة دولية كبرى، حيث اهتمت الصفحات الأولى منها بسلامة مشجعي كرة القدم الإسرائيليين، في الوقت الذي تجاهلت فيه الإبادة الجماعية المروعة التي ترتكبها إسرائيل منذ 13 شهراً في غزة.

تنفذ إسرائيل حالياً ما يسمى “خطة الجنرالات”، والتي تتضمن قصف وتجويع الرجال والنساء والأطفال الفلسطينيين في شمال غزة لإجبارهم على النزوح، مؤكدة أنها لن تسمح لهؤلاء السكان بالعودة إلى ديارهم أبداً، وبعبارة أخرى، فهي تعلن رسمياً أن هؤلاء الفلسطينيين يتعرضون لتطهير عرقي. 

إن أي فلسطيني يرفض الانتقال إلى معسكر الاعتقال الذي أقامته إسرائيل في جنوب غزة يواجه خطر الإعدام باعتباره “إرهابياً”، والطبيعي أن تكون هذه الفظائع قصة إخبارية رئيسية، لكنها ليس كذلك فهناك دائماً قصة أخرى لها الأولوية!

في الليلة العنيفة في أمستردام، لم تخصص هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” أكثر من ثانية واحدة للإبادة الجماعية في غزة، فقد كانت مشغولة بالتركيز على معاناة مثيري الشغب الإسرائيليين في كرة القدم في أمستردام، الذين هددوا بقتل العرب والمسلمين في أوروبا، ولكن أولويات وسائل الإعلام قد تجاوزت حتى حد الفاحشة!

تأجيج الكراهية

ما تسعى التغطية إلى فعله ليس مجرد دفن الإبادة الجماعية في غزة وتحويل إسرائيل والإسرائيليين إلى ضحايا حتى عندما يرتكبون الإبادة الجماعية، بل الهدف هو أيضاً تأجيج الكراهية ضد العرب والمسلمين بسبب تواجدهم في أوروبا، ومحاولة استيراد نفس الخطابات العنصرية التي أدت إلى الإبادة الجماعية في إسرائيل إلى الغرب.

لم يحدث أي من هذا عن طريق الصدفة، فقد تم غرس مزاج ساخر في الغرب، تماماً كما حدث في أجزاء من أوروبا في ثلاثينيات القرن العشرين، للإشارة إلى أن بعض المجموعات هي دون البشر، وأن بعض الأقليات لا بد من طردها أو اعتقالها وإختفائها

ما هو المبرر المحتمل لمنع الفرق والرياضيين الروس من المشاركة في المسابقات الدولية لحظة غزو موسكو لأوكرانيا، في حين لا تزال الفرق الإسرائيلية مثل تل أبيب مكابي موضع ترحيب في أوروبا بعد 13 شهراً من الإبادة الجماعية؟!

كيف يجد مشجعو الفرق الإسرائيلية أنفسهم يعاملون كضحايا عندما يستعرضون تعصبهم ضد العرب والمسلمين وتمجيدهم للإبادة الجماعية  في المدن الأوروبية؟!

ما تظهره التغطية بوضوح هو أن هدف كبار السياسيين الغربيين، وبمساعدة وسائل الإعلام الرسمية، هو إعادة تصوير السكان العرب والمسلمين في أوروبا باعتبارهم تهديداً، وبأنهم همجيون ومعادون للسامية ومن المستحيل دمجهم في “الحضارة” الغربية.

بعبارة أخرى، فالهدف الواضح يتلخص في تحويل المجتمعات العربية والمسلمة في أوروبا إلى يهود أوروبا في ثلاثينيات القرن العشرين، الذين كانوا مكروهين ويُنظر إليهم على أنهم يشكلون تهديداً.

من خلال دعم كل جريمة إسرائيلية وحشية، واسترضاء مثيري الشغب الذين يحرضون على الإبادة الجماعية في غزة، يدرك الساسة ووسائل الإعلام الغربية أن ذلك يؤدي إلى تأجيج التوترات، وخاصة مع السكان المحليين من ذوي الأصول العربية والإسلامية، من أجل تعزيز شيطنة الأقليات العربية والمسلمة في أوروبا.

حياة الفلسطينيين بلا قيمة

نحن جميعاً نعلم إلى أين قاد التعصب الأوروبي تجاه اليهود، إلى غرف الغاز طبعاً، وقد بتنا نرى الوجهة التي يريد الساسة الأوروبيون ووسائل إعلامهم أن يأخذوا جماهيرهم إليها في الترويج المستمر للتعصب على النمط الإسرائيلي تجاه العرب والمسلمين. 

لقد قامت المؤسسات الغربية بالفعل بتبرير تواطؤها النشط في جرائم الإبادة الجماعية للفلسطينيين في غزة، وتدمير جنوب لبنان، من خلال توفير الأسلحة والحصانة الدبلوماسية، كما صوروا الحصار الذي تفرضه إسرائيل على المساعدات والتجويع الجماعي لسكان غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة على أنه “دفاع عن النفس” و”حرب مشروعة” للقضاء على حماس. 

لقد أصروا على أن حياة الفلسطينيين لا قيمة لها، بحيث يمكن ذبحهم بعشرات الآلاف انتقاماً لمقتل ما يزيد قليلاً عن 1000 إسرائيلي في 7 أكتوبر 2023. 

لقد قلبوا الواقع ليصوروا إسرائيل التي تمارس الإبادة الجماعية على أنها الضحية البريئة، بينما عشرات الآلاف من الأطفال الفلسطينيين الذين قتلوا وشوهوا على أنهم الطرف المذنب. 

لم يحدث أي من هذا عن طريق الصدفة، فقد تم غرس مزاج ساخر في الغرب، تماماً كما حدث في أجزاء من أوروبا في ثلاثينيات القرن العشرين، للإشارة إلى أن بعض المجموعات هي دون البشر، وأن بعض الأقليات لا بد من طردها أو اعتقالها وإختفائها.

هذا هو السياق المناسب لفهم ما حدث بالفعل في أمستردام، حيث تعاملت الشرطة مع مثيري الشغب الإسرائيليين العنيفين بلطف، وقام الساسة ووسائل الإعلام بإعادة تصوير الأشرار على أنهم ضحايا.

إذا كان ساستنا ووسائل الإعلام لدينا يشعرون بالقلق حقا إزاء الماضي النازي في أوروبا، فمن الأفضل لهم أن يتوقفوا عن إذكاء معاداة السامية الجديدة وهي التحريض ضد الأقليات العربية والمسلمة. 

لقد عادت إلينا بالفعل أحلك الأيام في تاريخ أوروبا، لأن الغرب أصبح على استعداد تام لاحتضان تعصب إسرائيل المناهض للعرب والمسلمين، وبتنا نقترب يوماً بعد يوم من مذابح محتملة، ولكن ليس ضد اليهود أو الإسرائيليين، الذين يتمتعون بدعم وحماية السياسيين ووسائل الإعلام والشرطة الغربية، بل ضد ما يمكن تسميتهم “اليهود الجدد”، أي سكان الشرق الأوسط. 

لم تختف العنصرية الغربية يوماً، واليوم وجدت الطبقة الحاكمة في أوروبا هدفاً جديداً وكبش فداء جديد، وما حصل في أمستردام سوف ينسحب إلى جميع أنحاء أوروبا، فقد عادت الاستبداد والفاشية إلى الصعود مرة أخرى، وأولئك الذين يحاولون تقييدنا بالواقع هم الذين سيكونون أول من يستهدفه خط النار القادم!

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة