بقلم فريدة علي
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
في الصحاري الشمالية الغربية للمملكة العربية السعودية، حيث يلتقي البحر الأحمر بخليج العقبة وشبه جزيرة سيناء، يجري تشييد مدينة جديدة ستشكل، حسب منشئوها، رؤية لـ “مستقبل جديد”.
تحمل تلك المدينة اسم “نيوم“، وهي من بنات أفكار ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وتتكون من اختصار يجمع أحرفاً من لغتين: فأحرف مقطع “نيو” مأخوذة من الكلمة اليونانية (neo) التي تعني الجديد وحرف الميم مأخوذ من كلمة مستقبل في اللغة العربية.
ومن بين المعالم المستقبلية، ستضم المنطقة The Line، التي وصفها مؤيدوها بأنها أول مدينة خطية عملاقة في العالم. يبلغ ارتفاع المشروع 500 متر بطول يمتد لـ 170 كيلومترًا، وهو جزء من رؤية المملكة العربية السعودية 2030، والتي تمثل خطة طموحة تهدف إلى تنويع اقتصاد المملكة من عائدات النفط.
كما تخطط الرياض لاستخدام أحدث التقنيات في مثل هذه المدن المستقبلية، كالقطارات عالية السرعة وأنظمة الذكاء الاصطناعي المدعومة بالطاقة المتجددة.
لكن المشروع محاط بالجدل لأسباب عديدة منها تهجير المجموعات القبلية في محافظة تبوك، حيث يشكك النقاد بشأن الدعاية حول مؤهلاته ليكون صديقاً للبيئة، نظرًا لأنه يعد مشروعاً يعتمد على استخدام مكثف للكربون. كما أن هناك مخاوف أخرى بشأن احتمال إساءة استخدام التقنيات المتقدمة مما يسبب ضرراً لسكان المستقبل في اليوتوبيا الصحراوية بعد افتتاحها.
قد لا تتحقق بعض وعودها وآمالها أبدًا، لكن هناك شيئًا واحدًا لا شك فيه، هو أن نيوم هي المحاولة الأكثر طموحًا حتى الآن لتخيل مستقبل تكنولوجي عربي.
لكن نيوم لا تعكس بأي حال من الأحوال أول مشهد مستقبلي في العالم العربي، فما زالت الهندسة المعمارية المدهشة تميز مدن الخليج مثل دبي والدوحة وأبو ظبي. فكيف إذن يتجاوب الفنانون والكتاب العرب مع هذا التحول من عالم الخيال العلمي إلى الواقع الأسمنتي والزجاجي؟
في أيار/ مايو من هذا العام، وصلت أول رائدة فضاء عربية إلى محطة الفضاء الدولية، حيث تخطط كل من الإمارات والسعودية لإطلاق مهمات فضائية عربية في المستقبل غير البعيد.
ويتوارد للأذهان مصطلح المستقبلية العربية، وهي حركة ثقافية سريعة الانتشار بين المبدعين العرب والتي، في أبسط تعبير عنها، تعيد تصور عالم الغد حيث ترسم رؤى مختلفة جذريًا عن تلك التي يتم تداولها في الغرب عن العرب والعالم العربي.
لكن هذه الظاهرة تختلف عن المستقبلية الخليجية أيضاً، وهي حركة جمالية ظهرت في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين على يد الفنانتان صوفيا المارية وفاطمة القادري، تستكشف التنمية الحضرية التي يحركها النفط واستيعاب التكنولوجيا الغربية والاستهلاك، جنبًا إلى جنب مع خسارة التراث المحلي، وعدم المساواة الاجتماعية والمحافظة الدينية.
بالمقابل، تقترض المستقبلية العربية بشكل كبير من المستقبلية الإفريقية، التي تربط تاريخ الأفارقة بالعلوم والتكنولوجيا المعاصرة ضمن رؤية للمستقبل.
الأدب: نهاية العالم الآن
لم يكن المبدعون العرب قادرين على الوصول إلى ميزانيات هوليوود الضخمة التي ساعدت في إنشاء ملاحم خيال علمي مثل “حرب النجوم” أو التجسيد الأحدث لـ “Dune”، وكلاهما مستوحى ومستعار بشكل كبير من العالم العربي.
لكن الأدب هو أحد الوسائل التي تمكنوا من خلالها من مشاركة رؤاهم للمستقبل، فالخيال العلمي ليس بالمفهوم جديد في العالم العربي، فقد ظهر في الأطروحات الفلسفية مثل “المدينة الفاضلة”، التي كتبها الفارابي في القرن العاشر، وكذلك في العديد من قصص ألف ليلة وليلة.
في كتابه لعام 2020، Islam, Science Fiction and Extra-Terrestrial Life (الإسلام والخيال العلمي والحياة خارج كوكب الأرض)، يجادل يورغ ماتياس ديترمان بأن التقاليد الإسلامية كانت تدعم بشكل عام مفاهيم الحياة خارج الأرض وأن القرآن يشير مرارًا وتكرارًا إلى الله باسم “رب العالمين”.
ومن بين الدلائل التي استخدمها الآية 29 من سورة الشورى التي جاء فيها: “ومن آياته خلق السموات والأرض، وما بثه فيهما من دابة. “
وفي السنوات الأخيرة، سمح الأدب للمؤلفين بحرية التعبير داخل الأنظمة الاستبدادية حول أكثر القضايا التي تهمهم بشأن مجتمعاتهم.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك رواية يوتوبيا التي ألفها الكاتب المصري أحمد خالد توفيق ونشرت في عام 2008 كرواية خيال علمي تصف مجتمعًا نخبويًا يعيش داخل مجتمع مسور يحرسه مشاة البحرية الأمريكية السابقون، بينما تقع خلف ذلك المجتمع أراضي “الآخرين” التي وصفها توفيق بأنها “بحر من الفقر الغاضب في الخارج”، ويروي الكاتب قصة زوجين شابين يتطلعان، هروباً من ملل المدينة الفاضلة، إلى الخروج لقتل شخص آخر وإعادة أحد أطرافه كتذكار.
كما تم عرض أفكار مماثلة لمجتمع محطم وطبقي في كتاب بسمة عبد العزيز والذي نُشر في عام 2016، والذي ينقل القارئ إلى المستقبل القريب حيث يجري الاستيلاء على جميع جوانب الحياة من خلال سلسلة من الأوامر يتم إصدارها من مبنى يعرف باسم “البوابة”. وفي النهاية، تصبح سلسلة من المراسيم الصادرة عن البوابة مربكة ويصعب فهمها، مما يجعل المدنيون يتمردون فيما تسميه البوابة بـ “الأحداث المشينة” ويُواجهون بوحشية الشرطة.
أما رواية عبد العزيز فتدور أحداثها في مدينة مجهولة تشبه القاهرة، وبينما تقع الأحداث في المستقبل القريب، فإن التلميحات إلى السياسة الحالية تتجلى كلها بوضوح للغاية.
استخدم كل من توفيق وعبد العزيز أدب الديستوبيا، وهي أداة أدبية لم تكن شائعة في العالم العربي عندما نُشرت رواية توفيق لأول مرة، وتعد ظاهرة مصرية إلى حد كبير، على الرغم من وجود بعض الأمثلة المهمة في العراق.
وفي العمل الأدبي “فرانكشتاين في بغداد” والذي صدر في عام 2013، يكتب أحمد السعداوي عن العراق كما كان موجودًا بعد الغزو الأمريكي حتى يومنا هذا.
ويظهر العمل قيام وحش على طراز فرانكشتاين، تم إنشاؤه من أجزاء جسم الإنسان المتبقية من الانفجارات، بإرهاب المدينة، باحثًا عن الانتقام للعديد من الأرواح المحاصرة في شكلها المركب، فيما يرمز لبلد غارق في العنف والفوضى حيث يستحيل تحديد من هو المذنب ومن هو البريء.
فازت الرواية بالجائزة الدولية للرواية لعام 2014 وأدرجت في القائمة المختصرة لجائزة مان بوكر الدولية لعام 2018.
تشير ترجمات الخيال العلمي العربي إلى اللغة الإنجليزية، كرواية إبراهيم نصر الله: “حرب الكلب الثانية” والتي صدرت في العام 2018 وكانت من الأعمال الحائزة على جائزة الرواية العربية، إلى أن هناك شهية لقراءة مثل هذه الأعمال في الغرب.
وجاء كتاب “العراق +100″، من تحرير حسن بلاسم، ليقدم مجموعة قصصية صدرت عام 2017 حيث دعا المخرج والكاتب 10 مؤلفين لتخيل شكل بلدهم بعد 100 عام من الغزو الأمريكي المشؤوم للعراق.
ويأتي العمل كجزء من سلسلة من أعمال Comma Press، مع مجلدات أخرى تغطي فلسطين ومصر وكردستان.
يتخيل بلاسم، في مشاركته بعنوان “The Garden of Babylon”، جنة رقمية تسيطر على الشرق الأوسط، وتقسم حياة السكان إلى قصص ألعاب فيديو.
وكان كتاب بلاسم ملهماً للغاية لكاتبة الرواية القصيرة، الفلسطينية بسمة غلاييني التي دعت بدورها 12 كاتبًا للتفكير في الشكل الذي قد تبدو عليه فلسطين في عام 2048، بعد قرن من إنشاء دولة إسرائيل والنزوح الجماعي لنحو 700 ألف فلسطيني فيما يعرف باسم النكبة.
وكتبت غلاييني في مقدمتها إلى كتاب “فلسطين +100” والذي صدر في عام 2019 أن الخيال العلمي “يستخدم المستقبل كلوحة بيضاء لعرض الاهتمامات التي تشغل المجتمع في الوقت الحالي”.
فيلم: فلسطيني على سطح القمر
بينما يُحرم صانعو الأفلام العرب من ميزانيات نظرائهم في هوليوود، فقد استطاعوا البدء في توطيد الخيال العلمي كنوع أدبي في المنطقة.
قد لا ينتج أشخاص من أمثال لاريسا صنصور وصوفيا العلوي عملاً له الكثير من القواسم المشتركة مع المستقبل العربي، ولكن تخيلاتهم الأدبية تصب في هذا الاتجاه من عدة نواح، مع التركيز على ازدهار التكنولوجيا المستقبلية وموضوعات الديستوبيا.
فقد أنتجت لاريسا صنصور، وهي مخرجة أفلام من أصل فلسطيني، مع شريكها سورين ليند، ثلاثية الأفلام القصيرة التي تستكشف الهوية الفلسطينية والدولة الفلسطينية من خلال الخيال العلمي.
وفي الجزء الأول من الثلاثية بعنوان ” “Space Exodus” والذي صدر في عام 2009، ظهرت صنصور كأول رائدة فضاء فلسطينية تهبط على سطح القمر ويمكن رؤيتها وهو تسير على سطح القمر، رافعةً العلم الفلسطيني.
وفي الجزء الثاني بعنوان “Nation Estate” لعام 2012، يتم تخيل دولة فلسطينية مستقبلية مقامة بشكل عمودي في ناطحة سحاب، و يتابع الفيلم القصير قصة صنصور وهي تقدم “حلاً مستقبلياً” لمشكلة في الوقت الحاضر.
أما الجزء الأخير، وربما الأكثر تعقيدًا، بعنوان ““In the Future, They Ate from the Finest Porcelain (“في المستقبل، تناولوا الطعام من أجود أنواع الخزف”) والذي صدر في العام 2015، تظهر بطلة الرواية الرئيسية، كقائدة مقاومة نسائية، تدخل عالم المستقبل بعد نهاية العالم لتجد الأطباق الخزفية الفاخرة تُزرع في التربة مزينةً بالكوفية التقليدية.
وتأمل الشخصية أن يتم اكتشاف الأواني الفخارية من قبل حضارة المستقبل، لإضفاء الشرعية على ارتباط شعبها بالأرض.
إلا أن عمل صنصور اعتُبر عملاً سياسياً تخريبيًا ولم يفلت من انتقادات الجماعات الموالية لإسرائيل.
وفي عام 2017، عندما عُرضت الثلاثية في مركز باربيكان بلندن كجزء من معرض Into The Unknown: A Journey Through Science Fiction، طالب متحدث باسم مجلس النواب لليهود البريطانيين المنظمين بإزالة الفيلم.
وردت باربيكان بإصدار بيان تدافع فيه عن قرارها بإدراج العمل الذي بقي قائماً.
وفي فيلم أنيماليا لعام 2023، تستكشف منتجة الأفلام المغربية صوفيا العلوي جوانب المجتمع المقلقة، حيث يركز السرد على امرأة حامل وهي أمازيغية ريفية فقيرة تزوجت من عائلة من الأثرياء الجدد.
يسلط الفيلم الضوء على حياة المرأة التي عندما يكون زوجها بعيدًا عنها منشغلاً بالعمل، تُترك وحدها لتتعامل مع كيان خارق للطبيعة غامض يعطل المجتمع، ويغرق البلاد في الفوضى، لتشرع في رحلة جسدية وروحية، متسائلة عن وجودها حين ينهار المجتمع الذي كانت مرتبطة به ذات يوم.
وبرغم أنه انتج بميزانية محدودة، وتم عرضه لأول مرة في مهرجان صندانس السينمائي لهذا العام، إلا انه تلقى آراء حماسية خاصة من هوليوود ريبورتر التي كتبت عن الفيلم أنه “يفسد النوع بطرق مقنعة”، ومجلة فارايتي التي علقت بالقول: “ظهور فيلم مثير للإعجاب وغامض لأول مرة”.
الفن: أدعية وخوذ عصر الفضاء
استخدم الفنانون البصريون أيضًا المستقبلية العربية لاستعادة مستقبلهم وتأكيد تاريخهم وهوياتهم، وكما هو الحال مع نيوم، تعكس التوجهات نحو الحداثة التقدم التكنولوجي داخل المجتمعات العربية.
فالفنان الفرنسي المغربي منير عياش، وهو فنان مقيم في فيلا دي ميديشي في روما، يضع نفسه ضمن “الحركة غير الرسمية للمستقبلية العربية”.
ويعتمد مشروعه على مخطوطة، La Cosmographia de Africa، التي كتبها Leo Africanus في عام 1525، والتي وصفت جنوب الصحراء الكبرى وشمال إفريقيا، وكان الأوروبيون يعتبرونها وثيقة رسمية حتم تم استكشاف واستعمار إفريقيا بعد قرون.
كما أنتج الفنان اللبناني أيمن بعلبكي، المعروف بصوره التعبيرية للمحاربين الذين يرتدون الكوفية والأقنعة الواقية من الغازات، من بين أعمال أخرى، “خوذة” في عام 2016، كمثال على غطاء رأس معدني مستقبلي محفور بالخط العربي.
يُذكر جسم الخوذة بالدروع الإسلامية التي تعود إلى العصور الوسطى والتي كانت تُنقش عليها أدعية لحماية لمن يرتديها، وأعيد صياغتها هنا فقط لتحاكي ما يمكن توقعه من حروب الغد.
وبرغم أنه ليس من أصل عربي، يصف ساق أفريدي، من بيشاور في باكستان، نفسه بأنه فنان خيال علمي صوفي.
فقد عُرضت أعمال أفريدي، الذي يقيم الآن في نيويورك، وهي عبارة عن سلسلة من المنحوتات تحمل عنوان SpaceMosque في العرض الجماعي بعنوان “الخيال الفاضل” في مؤسسة فورد في نيويورك في عام 2019 وهو معروض حاليًا في متحف Kunsthistorisches في فيينا.
وتدور أحداث السلسلة في مستقبل يستجيب فيه البشر لصلواتهم من خلال إناء يشبه المسجد في الفضاء الخارجي، ويتخيل عمله مستقبلًا مثاليًا يتم تغييره بقوة الإخلاص.
وكان مركز الدانة في لندن، من السندباد إلى الخيال العلمي، قد عقد مؤتمرًا مخصصًا لتصورات العرب للمستقبل قبل عشر سنوات.
ومن بين الحاضرين كان ضياء الدين سردار، أكاديمي وكاتب باكستاني، حيث علق قائلاً: “أعتقد أن هناك شيئين تحتاجهما قبل أن يكون لديك خيال علمي في المجتمع: أحدهما تقدير لما يدور حوله العلم، والثاني هو بعض الوعي بالمستقبل “.
وعبر الأفلام والأدب والفنون المرئية، يمكن للمبدعين في طليعة حركة المستقبليين العرب توفير الأمرين معًا.
للإطلاع على النص كاملاً من (هنا)