بقلم إسراء الرملي
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
في ساعة متأخرة من الليل، وتحديدًا عند الثانية صباحًا، استلم أحمد أبو زبيدة رسالة من أحد أصدقائه: “المساعدات وصلت أخيرًا”.
كانت تلك الكلمات بمثابة طوق نجاة لرجل أنهكته شهور طويلة من الحصار، يرزح تحت وطأته مع أطفاله وأبناء إخوته الذين تيتموا مؤخرًا، لم يتردد، نهض من فراشه، تملؤه رغبة واحدة فقط: إحضار ما يسد رمق من يحب.
اتجه أبو زبيدة إلى مركز توزيع تابع لمؤسسة غزة الإنسانية (GHF)، المدعومة من الولايات المتحدة ودولة الاحتلال، وسط القطاع، ليقطع طريقاً مظلمًا، حيث لا أنوار ولا طرق معبّدة، فقط الصحراء والخوف، ومع ذلك، لم يكن الخوف من الظلام أقسى من الخوف على أطفاله الذين ينامون جوعى.
اقترب من الموقع الكائن في منطقة وادي غزة، وما إن لمس الأرض الرملية المحيطة بالمركز حتى دوى صوت الرصاص، حيث كان هناك إطلاق نار من طرف قوات الاحتلال، واصفاً إياه في حديثه إلى موقع ميدل إيست آي: “بدا الأمر كما لو أنه يوم القيامة، الشظايا كانت تتطاير في كل اتجاه، والناس يصرخون، والرصاص لا يتوقف”.
في لمح البصر، تحوّل المكان إلى ساحة موت، حيث سقط العشرات حوله، بعضهم فقد حياته، والبعض الآخر نازف يصارع البقاء، وآخرون يركضون بلا اتجاه، ووسط تلك الفوضى، سقط أحمد في حفرة عمقها يزيد عن خمسة أمتار، لا يتذكر كيف وقع، حيث يقول: “فجأة سقطت، ولم أعد أتذكر شيئًا”، قالها بصوت مختنق.
لكن أصدقاءه لم يترددوا لحظة، هرعوا للبحث عن أي شيء يمكن أن يستخدموه لإنقاذه، جمعوا أسلاكًا كهربائية مهملة، عقدوها معًا وصنعوا منها حبلًا بدائيًا، و نزل أحدهم إلى أسفل الحفرة ليؤمّن جسده، وبدأت عملية الإنقاذ الشاقة وسط تهديد القناصة والطائرات المسيّرة التي تراقبهم من السماء.
استمرت محاولتهم قرابة الساعتين، وفي النهاية، نجحوا في سحب جسده المثقل بالجراح، لكن أبو زبيدة لم يكن واعيًا حينها.
“استيقظت على سرير المشفى، ورائحة الجثث المتحللة التي كانت تحتي تفوح من ملابسي”- أحمد أبو زبيدة
تم نقله إلى مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح، هناك، وجد نفسه وسط مئات من الجرحى الذين أصيبوا بنفس الطريقة، في نفس الموقع، في الليلة ذاتها.
قصة أحمد ليست الوحيدة، بل تتكرر بصور شبيهة في أرجاء القطاع، فهناك أيضاُ محمد عويضات، أب لخمسة أطفال، اضطر للخروج من منزله بعد أن سمع ابنته الصغرى – ذات الثمانية عشر شهراً – تنطق أولى كلماتها: “خبز”، تلك الكلمة، التي كان يفترض أن تكون مبعث سعادة، كانت في نظر محمد دافعًا إلى المخاطرة.
كان يعلم ما ينتظره، فالنقاط التي توزع فيها “مؤسسة غزة الإنسانية” المساعدات تقع في مناطق شديدة الخطورة، محاطة بجيش الاحتلال، ومع ذلك، لم يكن أمامه خيار آخر، خرج ليلًا، مشتت الذهن، ثقيل الخطى، يحمل جسده وإصراره.
ما إن وصل إلى الموقع حتى سقط هو الآخر في حفرة عميقة خلال الفوضى، تمامًا كما حدث مع أبو زبيدة، حيث انتشرت على جانبيه، جثث القتلى والعديد من الجرحى.
فهناك رجل على يساره قد فارق الحياة، وآخر على يمينه يئن من إصابة قاتلة في صدره، أما هو، فقد شعر بحرارة تتصاعد من ظهره، تبين لاحقًا أنها نتيجة شظية من قذيفة دبابة استقرت في فخذه الأيمن وكادت تفصل ساقه عن جسده.
في لحظة يأس، خشي أن تجذب الكلاب الضالة رائحة دمه، فدفن ساقه المصابة بالرمل. قال: “كنت أفضّل أن يُطلق عليّ الرصاص بدلاً من أن تنهشني الكلاب”، لم يكن كلامه مبالغة، بل تعبير عن قسوة التجربة.
ظل يصرخ لساعتين قبل أن يسمعه أحد المدنيين في الجوار، لكن عمليات الإنقاذ لم تكن سهلة، فالقوات الإسرائيلية منعت دخول سيارات الإسعاف والدفاع المدني إلى المنطقة، ما اضطر السكان المحليون إلى نقله بأنفسهم، في رحلة شاقة دامت أربع ساعات، كانوا فيها حذرين جدًا كي لا تتمزق ساقه المعلقة بجلد بالكاد يربطها بباقي جسده.
عندما وصل إلى المستشفى، كان مستوى الهيموغلوبين في دمه قد انخفض إلى ثلاثة فقط، وبعد عشرين يومًا على إصابته، لا يزال يواجه احتمال بتر ساقه.
مساعدات قاتلة
منذ أن بدأت “مؤسسة غزة الإنسانية” – وهي منظمة مثيرة للجدل – توزيع كميات محدودة من المواد الغذائية في أواخر مايو/أيار، قُتل ما لا يقل عن 600 فلسطيني على أيدي جيش الاحتلال في نقاط توزيع المساعدات، وأُصيب أكثر من 4000 آخرين.
الغريب أن العديد من الضحايا لم يُقتلوا بالرصاص فقط، بل وقعوا في حفر عميقة تشكلت بفعل القصف، حيث دمرت الغارات الإسرائيلية البنية التحتية تمامًا، ولم يُبذل أي جهد لتأمين هذه المناطق قبل تحويلها إلى نقاط إنسانية.
ويقول الدكتور براء العطار، طبيب في وحدة العناية المركزة بمستشفى شهداء الأقصى، قال ميدل إيست آي: “الإصابات الناتجة عن السقوط في هذه الحفر تؤثر في الغالب على الرأس والبطن، وتؤدي 80 إلى 90% منها إلى الموت الفوري”.
وسائل الإعلام المحلية تحدثت عن وفاة ما لا يقل عن شخصين نتيجة السقوط في آبار مكشوفة في منطقة وادي غزة، ما يجعل هذه الأرقام مرشحة للارتفاع مع استمرار غياب الإجراءات الوقائية وتجاهل الخطر المحدق.
ويشير الدكتور إسماعيل الثوابطة، مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، إلى وضع خطة استجابة من ثلاث مراحل لمواجهة هذا الخطر، تشمل التنسيق بين البلديات وفرق الدفاع المدني، لكن أغلب الآبار تقع في مناطق لا يمكن الوصول إليها دون تنسيق مسبق مع جيش الاحتلال، الذي يمنع في معظم الأحيان هذا النوع من التحرك، مما يضع المدنيين والمنقذين على حد سواء في مرمى الخطر.
في غزة اليوم، لا توجد أماكن آمنة، حتى مراكز المساعدات – التي من المفترض أن تكون ملاذًا – باتت مصائد موت، وبين الحصار والجوع، لا يزال الفلسطيني يواجه خيارًا وحشيًا: أن يموت من الجوع أو أن يُقتل وهو يحاول النجاة
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)