بين القنابل والخرائط… إسرائيل تريد محو سوريا، لكن التاريخ لا يرحم الغزاة

بقلم سمية الغنوشي

ترجمة وتحرير مريم الحمد

في حديثه مؤخراً أمام حشد من المؤيدين، أعلن وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريش بأن “القتال لن ينتهي حتى يغادر مئات الآلاف من سكان غزة ويتم تقسيم سوريا”.

لقد جردت كلماته، التي تم التقاطها ونشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أي ادعاءات متبقية حول أسباب إسرائيل من الحرب، فحروب إسرائيل لا تتمحور حول “الأمن” أو “الإرهاب”، بل حول إعادة رسم الخريطة نفسها وتهجير الشعوب الأخرى في المنطقة وإعادة كتابة التاريخ.

وفي وقت سابق من شهر إبريل الماضي، اخترقت الطائرات الحربية الإسرائيلية السماء السورية مرة أخرى، وأطلقت سيلاً من الصواريخ على المواقع العسكرية والأحياء المدنية على حد سواء، حتى امتدت الضربات من القواعد الجوية المركزية إلى أقصى الجنوب، حيث قامت القوات البرية الإسرائيلية بحفر شق قرب مدينة نوى، مما أسفر عن مقتل 9 مدنيين.

تمحورت الرواية الرسمية الإسرائيلية كعادتها حول “الدفاع” و”الضربة الاستباقية”، لكن الحقيقة كانت أعمق من الجغرافيا أو السياسة، فقد كانت بمثابة توغل في الذاكرة نفسها.

في استهداف نوى، لم تقصف إسرائيل مدينة فحسب، ولكنها انتهكت حرماً من التراث الإسلامي والتاريخ الفكري، فنوى هي مسقط رأس الإمام النووي، أحد أكثر العلماء أهمية في الحضارة الإسلامية عبر القرون، ففي نوى حفظ القرآن، رافضاً صخب التجارة من أجل صفاء التعلم، ولا يزال اسمه ينطق بإجلال في المنازل والمدارس والمنابر من القاهرة إلى كوالالمبور. 

وعلى مقربة من نوى هناك تل الجابية، حيث وقف الخليفة عمر بن الخطاب بعد أن سافر من المدينة المنورة لاستلام مفاتيح القدس، وهناك التقى بقادته في الساعة التي سبقت عملية التسليم التاريخية، وما زال صدى خطواتهم يتردد في تربة حوران، فكلها أرض مقدسة وتعبق بالتاريخ.

وإلى الجنوب والشرق هناك ذاكرة فيها ابن القيم الجوزية، الفقيه والمتكلم الكبير والذي ينحدر من بلدة إزرع بدرعا، وهناك ولد ابن كثير، مؤرخ البداية والنهاية الشهير في قرية المجدل قرب بصرى.

لقد كانت منطقة حوران منبعاً للعلوم تغذي تربتها حضارة امتدت إلى ما وراء الحدود والطوائف والإمبراطوريات، وعلى ضفاف نهر اليرموك فيها أيضاً، قاد خالد بن الوليد القوات الإسلامية عام 636 م إلى نصر هائل على البيزنطيين، محطماً الحكم الإمبراطوري وفاتحاً لفصل جديد في تاريخ العالم.

أرض مقاومة وصراع ونهضة

إن شن الحرب على هذه الأرض ليس مجرد انتهاك للسيادة، بل هو تحدٍ لجوهر استمرارية الوجود العربي والإسلامي، فتربة حوران شاهدة على قرون من المقاومة والغزو والنهضة، فالهجمات الإسرائيلية تحمل  رمزية لا تتعلق بالهيمنة العسكرية فقط، بل بمحو ذلك التاريخ والوجود.

الهدف ليس السلام، بل الشلل لأن سوريا الممزقة لا يمكنها أن تقاوم احتلال أراضيها، ولا يمكنها أن تتحدث باسم فلسطين، ولا يمكن لسوريا الفيدرالية أن تحلم بالاستقلال

منذ سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر عام 2024، تشن إسرائيل حملتها الأعنف على الأراضي السورية، فقد دمرت مئات الغارات الجوية البنية التحتية العسكرية وأنظمة الدفاع الجوي ومستودعات الأسلحة، والتبرير المقدم بسيط، وهو أن إسرائيل لا تثق بالحكومة الانتقالية الجديدة.

الحقيقة أن نطاق الضربات وتوقيتها يكشفان ما هو أعمق من ذلك التبرير السخيف، فبعد يوم واحد فقط من فرار الأسد إلى موسكو، أعلن القادة الإسرائيليون عزمهم على إقامة “منطقة أمنية معقمة” داخل الأراضي السورية، تمتد على مساحة 400 كيلومتر مربع، أي أكثر من مساحة قطاع غزة بأكملها.

واليوم، اتخذت القوات الإسرائيلية مواقع على طول الجانب السوري من جبل الشيخ، في تحدٍ صريح للقانون الدولي، مما جعل القناع يسقط سريعاً منذ تلك اللحظة، فلم يعد هناك شيء مؤقت ولا خطة للخروج أو الانسحاب!

لقد أعلنها سموتريتش بوضوح: “سوف نبقى”، وهو يقف على قمة الجبل، وأضاف: “سنضمن أن تكون المنطقة الجنوبية بأكملها منزوعة السلاح، ولن نتسامح مع التهديدات الموجهة ضد الطائفة الدرزية”.

هكذا يبدأ الأداء بالاحتجاج بحماية الأقلية، فإسرائيل تزعم أنها تحمي الدروز من التهديدات الوهمية التي تشكلها القيادة السورية الجديدة، لكن التاريخ يكشف كذب هذه الادعاءات!

ادعاءات فارغة

لو توقفنا عند الدروز في فلسطين، فقد تم تجنيدهم منذ فترة طويلة في الجيش الإسرائيلي، وبذلوا الدماء من أجل الدولة التي كانوا يأملون أن تعاملهم على قدم المساواة، ومع ذلك فقد تمت معاملة دروز الجليل، وهم مواطنون إسرائيليون رسمياً، كمواطنين من الدرجة الثانية في وطنهم المزعوم!

وهنا تعد الخيانة عجيبة، رغم التمييز في مجالات الإسكان والتعليم وملكية الأراضي والاعتراف السياسي، فقد حذر تقرير صدر عام 2024 عن معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي من أنه “إذا استمرت إسرائيل في تجاهل المشاكل التي تواجه المجتمع الدرزي، فسوف يشعر الدروز بإحساس بالتخلي عنهم، الأمر الذي قد يعرض علاقتهم مع الدولة للخطر”.

لقد كان إقرار قانون الدولة القومية لعام 2018، الذي يكرّس إسرائيل كدولة يهودية ويضع غير اليهود في درجة أدنى، بمثابة نقطة انهيار بالنسبة للكثيرين، فمنازل الدروز تواجه خطر الهدم واحتجاجات الدروز تملأ الشوارع، ومع ذلك ما زالت إسرائيل تقدم نفسها على أنها منقذهم في سوريا حتى وإن خذلتهم في وطنهم!

ينطبق الأمر نفسه على البدو العرب، وهم المواطنون العرب الذين يخدمون في جيش الاحتلال الإسرائيلي، ثم يعودون إلى قراهم التي تعتبر غير قانونية ومنازلهم معرضة للتدمير، فهذا هو الاستغلال بأبشع أشكاله!

الحقيقة أن طموحات إسرائيل تصل إلى ما هو أبعد من الحدود والأقليات، فرؤيتها لسوريا هي رؤية التفتت الدائم، فبعد يوم واحد فقط من هروب الأسد، أعلن وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر صراحة بأن سوريا لا ينبغي أن تظل قائمة كدولة موحدة، ودعا إلى إنشاء مناطق حكم ذاتي لكل مجتمع أو أقلية، فقال: “فكرة سوريا ذات سيادة واحدة غير واقعية”.

في وضوح أكثر، صرح المحامي والمحاضر العسكري الإسرائيلي رامي سيماني بالقول: “سوريا دولة مصطنعة تفككت، ولم يكن لها أبداً حق حقيقي في الوجود، فهي ليست دولة عربية، وبالتأكيد ليست دولة قومية لأي أحد، أردوغان يدعم سوريا الموحدة ولكن مصلحة إسرائيل هي عكس ذلك تماماً، فإسرائيل تستطيع بل ويجب عليها، تقسيم سوريا الموحدة إلى 5 كانتونات، كما يجب على إسرائيل تعميق قبضتها على المناطق الداخلية في سوريا”.

سوريا مشرذمة

هذا ليس مجرد خطاب، بل هي سياسة إسرائيلية ممنهجة، فإسرائيل تتصور سوريا مقسمة، كانتون كردي في الشمال الشرقي ومحمية درزية في الجنوب وجيب علوي يعانق الساحل ومناطق سنية متفرقة مجردة من السيادة.

إنه التاريخ العميق وفيه من الكرامة ما تجذر في التربة، فسوريا لن تختفي أو تتفتت ببساطة، وشعبها، مهما تعرض للضرب، سوف ينهض من جديد، وبالنسبة للسوريين والفلسطينيين، فالنضال مشترك والجرح واحد، والتاريخ، الشاهد الطويل على صعود وسقوط الإمبراطوريات، يقف إلى جانبهم!

الهدف ليس السلام، بل الشلل لأن سوريا الممزقة لا يمكنها أن تقاوم احتلال أراضيها، ولا يمكنها أن تتحدث باسم فلسطين، ولا يمكن لسوريا الفيدرالية أن تحلم بالاستقلال، وهكذا، وتحت ذريعة “الأمن”، تعمق إسرائيل بصمت، وأنظارها متوجهة نحو تركيا ليست فقط سوريا.

رغم تعهد أنقرة مراراً وتكراراً بتجنب المواجهة، إلا أن الاستراتيجيين الإسرائيليين يعتبرونها الآن تهديداً أكبر من إيران، فتركيا تدعم سوريا الموحدة فيما تؤيد إسرائيل تقسيمها.

لقد حملت الضربات التي وقعت في أوائل إبريل الماضي، بما فيها تلك التي وقعت قرب مدينة نوى، رسالة، ليس فقط إلى دمشق، بل إلى أنقرة بأن هذا هو مجال نفوذ إسرائيل إن صح التعبير.

لقد كان الصمت من دمشق ملحوظاً، فلم تصدر القيادة السورية الجديدة، التي لا تزال غير مستقرة، سوى ردود فعل حذرة، حتى أن بعض المسؤولين طرحوا فكرة التطبيع، فرد الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع بالتأكيد على أنهم ” ملتزمون باتفاقية 1974، ولن نسمح باستخدام الأراضي السورية لشن هجمات”.

من جانب آخر، فقد ورد أن الشرع أبلغ سيناتوراً أمريكياً بأن سوريا مستعدة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل والانضمام إلى اتفاقيات أبراهام في ظل “الظروف المناسبة”، سعياً إلى تخفيف العقوبات وإيجاد حل للاحتلال الإسرائيلي لجنوب غرب سوريا، ولكن الشرع نفى أن تكون سوريا قادرة على تطبيع علاقاتها مع إسرائيل وهي لا تزال محتلة.

رغم ذلك، لم تقابل اللفتات السورية هذه بالدبلوماسية، بل بالمزيد من القنابل وبالإعلانات التي محت أي فكرة عن تسوية ما، فقد أكد نتنياهو، في خطاب ألقاه أمام الطلاب العسكريين الإسرائيليين، بأن إسرائيل لن تسمح لقوات هيئة تحرير الشام أو الجيش السوري الجديد “بالدخول إلى المنطقة الواقعة جنوب دمشق”، مشيراً إلى أن موقف إسرائيل لا لبس فيه، فلا مجال للسيادة السورية!

مطالب مستحيلة

في واشنطن، تضغط إسرائيل من أجل تشديد العقوبات، فالمسؤولون الأمريكيون قاموا بطرح قائمة من المطالب المستحيلة على دمشق، من بينها حظر كل النشاط السياسي الفلسطيني على الأراضي السورية.

يرون أن الأمة التي عانت من 14 عاماً من الحرب يجب عليها أن تضحي ليس فقط باستقلالها، بل أيضاً بتحالفاتها وذاكرتها وصوتها،

ومع ذلك، هناك شيء ما يتحرك في سوريا، فقد تحولت جنازة الشهداء التسعة في نوى إلى موكب تحدٍ تدفق فيه السوريون إلى الشوارع.

إن من نتائج الحرب تولد تصميم جديد، فالجيل الذي فقد الأمل ذات يوم يجده مرة أخرى في الأرض نفسها، لأن سوريا ليست مجرد دولة، بل هي حضارة، فهي مهد الإمبراطوريات ومقبرة الغزاة، وقد تحملت الحروب الصليبية وصدت الاستعمار ونهضت ضد الاستبداد، فجراحها كثيرة لكن روحها باقية حتى لو كان العدو يبدو قوياً.

إن الاستراتيجية الإسرائيلية، رغم كل حساباتها، مبنية على وهم، وهو أنه يمكن محو الأمة من خلال إعادة رسم الخرائط وإسقاط القنابل، لكن سوريا ليست مجرد أرض، فهي نوى واليرموك وابن كثير وصلاح الدين وسلطان باشا الأطرش وخالد بن الوليد.

إنه التاريخ العميق وفيه من الكرامة ما تجذر في التربة، فسوريا لن تختفي أو تتفتت ببساطة، وشعبها، مهما تعرض للضرب، سوف ينهض من جديد، وبالنسبة للسوريين والفلسطينيين، فالنضال مشترك والجرح واحد، والتاريخ، الشاهد الطويل على صعود وسقوط الإمبراطوريات، يقف إلى جانبهم!

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة