بقلم ماركو كارنيلوس
ترجمة وتحرير مريم الحمد
إذا أردت مؤشراً لتقييم الانحدار التدريجي للاتحاد الأوروبي خاصة الضعف المعرفي فيما يتعلق بالسياسة الدولية، فيمكنك التوقف عند التصريحات الأخيرة لمسؤولة السياسة الخارجية كاجا كالاس.
من المؤسف أن ذلك النوع من الخوف من روسيا الذي تظهره كالاس قد أصبح يشكل ضرورة أساسية لاستئناف أي مسؤول يطمح إلى حياة مهنية ناجحة داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي.
لو أمكن تحويل المعايير المزدوجة إلى أموال، فسوف يكون لدى الاتحاد الأوروبي ما يكفي من الموارد للتحول الأخضر وخطط التعافي بعد كوفيد والإنفاق الدفاعي على قدم المساواة مع الميزانية الأمريكية الفلكية
في الواقع، فإن تدهور العلاقة بين موسكو وبروكسل يشكل أولوية قصوى بالنسبة للاتحاد الأوروبي، رغم احتياج الاتحاد الأوروبي إلى الاهتمام بتحديات مهمة أخرى من الشرق الأوسط إلى إفريقيا وخارجها، وتتطلب معالجتها على النحو اللائق الخبرة في العلاقات الدولية والفهم العميق لتاريخ القرن العشرين، حيث تستمد العديد من أزمات اليوم أصولها.
إن توجيه مؤسسة معقدة مثل الاتحاد الأوروبي، في عالم متزايد التعقيد وسط المنافسة بين القوى العظمى وعدد هائل من التحديات غير المتكافئة، يتطلب أيضاً قدراً معقولاً من الرؤية والفطرة السليمة، لسوء الحظ، يبدو أن كالاس تفتقر إلى كل هذه الخصائص.
بعد قمة منظمة شنغهاي الأخيرة للتعاون في تيانجين بالصين، والتي أعقبها عرض عسكري في بكين احتفالاً بالانتصار على الفاشية في الحرب العالمية الثانية حضره العشرات من كبار الشخصيات، بمن فيهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتن، صرحت كالاس بأنها ترى أنه من الجيد أن كلاً من الصين وروسيا كانتا من بين الدول التي هزمت ألمانيا واليابان (أي قوى النازية والفاشية).
لو كنت رئيسة المفوضية الأوروبية، لكنت قد طردتها على الفور لعدم صلاحيتها لهذا الدور، ولو تخيلت وظيفة جديدة لها، فسوف تكون موظفة أرشيف في مكتبة ملزمة بتخصيص ثلاث ساعات على الأقل يومياً لكتب تاريخ القرن العشرين، مع اختبارات شهرية إلزامية!
معاناة هائلة
لقد قام الجيش الأحمر السوفييتي بسحق الجيش الألماني (الفيرماخت) على الجبهة الشرقية بين عامي 1941 و1945 وحرر برلين، أما الاتحاد السوفييتي، فقد تكبد أكثر من عشرين مليون ضحية منهم مليون قتيل إثر حصار لينينغراد (سان بطرسبرج الآن)، وهي مدينة ليست بعيدة عن مسقط رأس كالاس في إستونيا.
من الصحيح أن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة كان لهما دور فعال في انتصار الحرب العالمية الثانية في أوروبا، ولكن الدولة التي دمرت حرفياً آلة الحرب الألمانية كانت الاتحاد السوفيتي على الجبهة الشرقية، ويكفي أن نشير إلى عدد الفرق المدرعة الألمانية التي تم نشرها على الجبهة الغربية بعد هبوط الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في نورماندي في عام 1944، مقارنة بعدد الفرق المدرعة التي تم نشرها على الجبهة الشرقية بين عامي 1941 و1945.
من جانبها، عانت الصين من ظرف مماثل خلال الحرب، حيث بلغ عدد القتلى فيها 20 مليون شخص، فقبل وأثناء حرب المحيط الهادئ بين الولايات المتحدة واليابان بين عامي 1941 و1945، اشتبكت الصين مع ما لا يقل عن ثلث الجيش الإمبراطوري الياباني، ولولا احتفاظ الصين بمئات الآلاف من الجنود اليابانيين المنخرطين داخل أراضيها، لكانت هزيمة الولايات المتحدة لليابان أكثر تعقيداً وتكلفة.
ورغم اعتياد المسؤولين الروس على تحريفات كالاس فيما يخص بلادهم، إلا أن كبار الشخصيات الصينية لم يتمكنوا من إخفاء صدمتهم إزاء تصريحاتها الأخيرة، حيث أصدرت متحدثة باسم وزارة الخارجية توبيخاً قاسياً على غير العادة، قائلة فيه بأن تعليقاتها “مليئة بالتحيز الأيديولوجي”، وأن هذه التصريحات لن تساعد الجهود الرامية إلى إعادة العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والصين إلى مسارها الصحيح.
ومع ذلك، فإن ما تفتقر إليه كالاس في المعرفة التاريخية، تعوضه بالمعايير المزدوجة، فبعد أن لم تكن لديها أي مشكلة في قطع كل علاقات الاتحاد الأوروبي مع روسيا، فإنها تحاول الآن فعل نفس الشيء مع الصين، في حين يبدو أنها لا تشعر بأي حرج في الحفاظ على علاقات وثيقة مع إسرائيل، التي تخضع للتدقيق بتهمة الإبادة الجماعية في محكمة العدل الدولية، والتي وجهت المحكمة الجنائية الدولية الاتهام إلى زعيمها!
دبلوماسية غائبة
لو أمكن تحويل المعايير المزدوجة إلى أموال، فسوف يكون لدى الاتحاد الأوروبي ما يكفي من الموارد للتحول الأخضر وخطط التعافي بعد كوفيد والإنفاق الدفاعي على قدم المساواة مع الميزانية الأمريكية الفلكية، مع الحفاظ على جميع برامجه الاجتماعية سليمة.
تحت إشراف كالاس ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، فقد أصبح الاتحاد الأوروبي غير ذي أهمية على الإطلاق على المسرح العالمي.
بعد أن اتبعت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إلى منحدر خطير في حرب أوكرانيا، من خلال النسيان التام للأداة السياسية المعروفة بالدبلوماسية والحكمة التقليدية، التي تحذر من شيطنة الخصم الذي يتعين على المرء، حتى في ظل حقائق عسكرية صعبة، التوصل إلى تفاهم معه في نهاية المطاف، وخاصة عندما يكون البديل حرباً مدمرة وربما كارثية.
بعد ذلك، وكما يحدث غالباً، يجد زعماء الاتحاد الأوروبي أنفسهم في مأزق بسبب حليفهم الذي لا يمكن الاعتماد عليه عبر المحيط الأطلسي، والذي بسط مؤخراً البساط الأحمر لبوتين.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل ضاعف الزعماء الأوروبيون جهودهم لسبب غير مفهوم من خلال قبول الاستدعاء إلى المكتب البيضاوي، وجلسوا حول مكتب الرئيس دونالد ترامب مثل طلاب المدارس الثانوية المضطربين الذين جمعهم مديروهم لتوبيخهم، ناهيك عن الصفقة التي وافقت عليها فون دير لاين في وقت سابق من الصيف مع الرئيس الأمريكي بعد أن لعب جولة جولف في اسكتلندا.
لسوء الحظ، يبدو أن هذا لم ينته بعد، حيث يتعين على زعماء الاتحاد الأوروبي أن يستعدوا للصدمة التالية التي قد يواجهونها عندما تصدر إدارة ترامب استراتيجية الأمن القومي الجديدة، والتي وفقاً لبعض الشائعات، سوف تركز في المقام الأول على التهديدات المحلية والإقليمية، مما يعكس مسار الثمانين عاماً الماضية من التزامات الولايات المتحدة في الخارج.
نأمل في أن يسلط المؤرخون الضوء ذات يوم على الأسباب الغامضة التي دفعت زعماء الاتحاد الأوروبي في العام الماضي، وفي مثل هذه اللحظة الحرجة من الموقف الجيوسياسي للقارة القديمة، إلى تسليم هندسة سياستهم الخارجية المشتركة لمثل هذه الشخصية التي تفتقر إلى المهارة والموهبة.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)