بي بي سي لا تكتفي بنشر معلومات مضللة، بل تقوم بترويجها!

بقلم جوناثان كوك

ترجمة وتحرير نجاح خاطر 

وسط ضجة كبيرة الأسبوع الماضي، أطلقت هيئة الإذاعة البريطانية، بي بي سي، أحدث خدماتها العامة (BBC Verify) مدعية بأن فريقًا من المراسلين المخلصين سيعمل نيابة عن المشاهدين لمواجهة “التهديد المتزايد للمعلومات المضللة”.

و تدعي هيئة الإذاعة البريطانية أنها ستخضع صحافتها الخاصة لمزيد من التدقيق في الحقائق وتحليل البيانات “سعياً وراء الحقيقة”، لكن يبدو أن أجندة أقل حيادية تختفي وراء هذا الطموح النبيل.

فمن خلال برنامج “BBC Breakfast” الصباحي الجديد، قدمت مراسلة وسائل التواصل الاجتماعي في “بي بي سي” ماريانا سبرينغ لمحة عن الخدمة، فظهرت إخفاقات الشبكة الواضحة للغاية بعيدة كل البعد عن أفكارها.

لتوضيح الفكرة العامة وراء الخدمة الجديدة رسمت سبرينغ سهامًا رقمية على الشاشة، وخلقت شبكة شريرة من العلاقات بين “الشخصيات اليمينية المتطرفة” التي لها “روابط خارجية” من جهة، و “حركة المؤامرة البريطانية” و “وسائل الإعلام البديلة” من جهة أخرى.

إذا افترض أي شخص أن Verify ستدقق في السجل الطويل لبي بي سي وبقية وسائل الإعلام في المملكة المتحدة في تضليل الجماهير، فسيصاب بخيبة أمل، فما قدمته الإعلامية سبرينغ هو ربط المعلومات المضللة على وجه التحديد بوسائل التواصل الاجتماعي بدلاً من ما يسمى بـ “الوسائط القديمة” التي تنتمي إليها.

غضت سبرينغ النظر عن “تصيد” مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي الذين أشاروا إلى أن هيئة الإذاعة البريطانية نفسها قد نشرت الكثير من المعلومات المضللة من ترديد الخداع حول أسلحة الدمار الشامل التي بررت غزو بريطانيا للعراق في عام 2003 إلى تضخيم الادعاءات الخالية من الأدلة والمسيّسة للغاية لمعاداة السامية لدى حزب العمال بقيادة جيريمي كوربين الذي حوّل زعيمه الاشتراكي إلى شخص منبوذ.

فلهذا السبب وعدا عن أسباب أخرى، فهناك ما يدعو بقوة إلى الاعتقاد بأن خدمة BBC Verify ستصبح قريبًا جزءاً لا يتجزأ من مشكلة المعلومات المضللة نفسها التي تدعي أنها تسعى إلى القضاء عليها.

“وزارة الحقيقة”

هيئة إذاعة حكومية، لها تاريخ طويل وقبيح، تخبر الجمهور أن لديها رؤى خاصة للحقيقة، وأي شخص لا يوافق عليها فإنه يروج بشكل خطير “للتضليل”.

بعيدًا عن إعطاء الأولوية “للاستقلال” كما تعلن، تم إنشاء البي بي سي في الأصل كوسيلة لتعزيز مصالح بريطانيا، كما أكد مؤسسها في أحد المذكرات في عام 1926 بشأن الإضراب العام في ذلك العام، حيث كتب اللورد ريث عن الحكومة البريطانية: “إنهم يعرفون أن بإمكانهم الوثوق بأننا لا يمكن أن نكون محايدين حقًا”.

وفي عام 2009، أشار المدير العام السابق لهيئة الإذاعة البريطانية، جريج دايك، إلى أن شيئًا لم يتغير بعد ثمانية عقود، وقال إن التغطية الإخبارية لهيئة الإذاعة البريطانية كانت جزءًا من “مؤامرة” وستمنستر الهادفة إلى منع النظام السياسي البريطاني الفاشل من التعرض لـ “تغيير جذري”، وهو توصيف كان من الصعب رفضه بعد أن أصبح كوربين زعيم حزب العمال بعد ست سنوات.

يبدو أيضًا أن هيئة الإذاعة البريطانية قد تواطأت سراً مع الحكومة البريطانية في حملات حرب المعلومات في الخارج.

فقد أظهرت مجموعة من الوثائق المسربة، التي نشرها موقع Grayzone على الإنترنت في عام 2021، أن هيئة الإذاعة البريطانية قد شاركت في جهود، على حد تعبير وزارة الخارجية، “إضعاف نفوذ الدولة الروسية على جيرانها القريبين”، فكيف يمكن أن يتوافق ذلك مع مزاعم البي بي سي بالحياد في تغطية الحرب اللاحقة في أوكرانيا؟

إن صحفيي البي بي سي ليس لديهم مجموعة مهارات خاصة تجعلهم أفضل من غيرهم كمحكمين على الحقيقة، ما يتمتعون به هو القوة التي يستمدونها من كونهم يمثلون أكبر منصة إخبارية تقف الدولة البريطانية وراءها

يعمل فريق البي بي سي على إثبات لقب “معاداة السامية” على من يتضامن مع الفلسطينيين، أو يشكك في شرعية إطلاق الصواريخ على سوريا دون تفويض من الأمم المتحدة.

يعود سبب إطلاق بي بي سي لخدمة التحقق إلى رغبتها بمواجهة تدني ثقة الجمهور بها إلى أدنى مستوى، وهو ما يشكل تهديدًا لقدرتها على خلق إجماع وطني يخدم مصالح الدولة البريطانية.

فقد أظهر استطلاع للرأي أجري في كانون أول / ديسمبر 2019 أن 44%فقط من البريطانيين يعتقدون أن صحفيي بي بي سي كانوا أمناء وحياديين.

إن صحفيي البي بي سي ليس لديهم مجموعة مهارات خاصة تجعلهم أفضل من غيرهم كمحكمين على الحقيقة، ما يتمتعون به هو القوة التي يستمدونها من كونهم يمثلون أكبر منصة إخبارية تقف الدولة البريطانية وراءها

إن الافتراض بأن وسائل الإعلام التقليدية التي تمول بالإعلانات قادرة على كشف الحقيقة هو افتراض سخيف تمامًا، مثل الاعتقاد بأن بي بي سي ستفعل ذلك سواء تم التحقق من معلوماتها أم لا.

يجب على الجماهير أن تزن الأدلة بالاعتماد على المعايير ذات الصلة عبر التساؤل عن الحزبية درجة التحزب ومصدر التمويل ومستوى الشفافية والمعقولية والانسجام مع المعلومات الثابتة.

لقد ثبت أن منصات التواصل الاجتماعي مثل Facebook و Twitter ومحركات البحث مثل Google تخضع لإشراف وكالات الاستخبارات الغربية، ما يعني التخلي عن الالتزام الأولي لوسائل التواصل الاجتماعي بحرية التعبير منذ فترة طويلة. 

الآن قامت المنصات بتحسين خوارزمياتها للترويج لـ “مصادر موثوقة” مثل BBC و New York Times مع تهميش وإسكات المعارضة، والتي يتم التعامل مع أخبارها كــ “معلومات مضللة”.

هذا هو السياق لفهم دور BBC Verify حيث سيصبح “خبراء المعلومات المضللة” ومدققو الحقائق سلاحًا يضاف إلى الخوارزميات المنحرفة لتشويه وإسكات أولئك الذين يعترضون على “الحقيقة” الوحيدة المصرح بها.

الإخلال بالنزاهة

ما لن تتناوله BBC Verify هو التشوهات الصارخة والمنهجية في كثير من الأحيان في التقارير التي تقدمها BBC ووسائل الإعلام الرسمية الأخرى.

ظهر ذلك واضحاً في تغطية بي بي سي لزعيم حزب العمال السابق جيريمي كوربين، فقد قامت بتوثيق بعض الإخفاقات الفادحة في إعداد التقارير في بانوراما خاصة سعت إلى تشويه سمعة الحزب باعتباره معاد للسامية في عهد كوربين.

وبعد أربع سنوات، اضطرت هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) أخيرًا إلى إصدار تصحيح في حالة واحدة، مشيرة إلى أن البرنامج قام بشكل انتقائي بتحرير اقتباسات من أحد الشهود مما خلق انطباعًا خاطئًا يضر بقيادة كوربين.

المصطلحات المحملة

ولا يتعلق “التضليل” فقط بنقل حقائق مغلوطة، أو فرض تفسيرات زائفة على تلك الحقائق، لتضليل الجماهير، بل يمكن القيام بذلك من خلال إمالة المصطلحات لتلوين ردود فعل الجمهور على القصة، عبر استبعاد السياق المهم الذي من شأنه تعميق فهم المشاهدين بحذف الحقائق التي قد توفر منظورًا بديلاً.

ويمكن أن يتم ذلك أيضا من خلال التركيز على القضايا الثانوية التي تصرف الانتباه عما ينبغي أن يكون اهتمامات أكبر بكثير.

باختصار، “التضليل” لا يقتصر فقط على نشر الأكاذيب بشكل فعال، بل بتغييب المعلومات عن الجمهور.

لقد شوهت المصطلحات المحملة من قبل بي بي سي فهم المشاهدين لهجوم عنيف أخير من قبل الشرطة الإسرائيلية على الفلسطينيين في المسجد الأقصى.

ففي مقال مضلل بعنوان “اشتباكات اندلعت في موقع مقدس متنازع عليه”، قدمت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) هجوماً غير مبرر من الشرطة على المصلين المسلمين العزل بالعبارات التي تفضلها الدولة الإسرائيلية.

رددت البي بي سي، دون انتقاد، بيانًا للشرطة وصف المصلين بأنهم “محرضون” ووصفت احتجازهم في منطقة خاضعة للاحتلال العسكري الحربي بأنه “اعتقالات”، كما لو كان هذا مجرد مثال على تطبيق القانون النزيه.

تكرر البي بي سي في كثير من الأحيان نقطة نقاش في واشنطن مفادها أن الولايات المتحدة مخولة بفرض “نظام قائم على القواعد العالمية” يخدم مصالحها كبديل للقانون الدولي.

ومع الانتظام المقلق، يمكن الاعتماد على صحفيي البي بي سي لترديد الادعاءات الغربية التي تخدم مصالحهم بأن الصين تمثل “تحديًا” أو “تهديدًا” لما يسمى “النظام العالمي”.

ويسعد صحفيو البي بي سي بإلقاء محاضرات على دول أخرى بشأن الهجمات على حرية الصحافة، بينما يتجاهلون عن كثب كلاً من زميلهم الصحفي الذي تعرض للاضطهاد على مرمى حجر من مقرهم في لندن والسوابق القانونية المرعبة التي تم وضعها في جلسات الاستماع الخاصة بتسليمه.

السياق مفقود

تستمر عمليات الإغفال والمراوغات في تغطية بي بي سي للعراق بعد عقدين من غزوها من قبل المملكة المتحدة والولايات المتحدة، حيث أشارت Media Lens، وهي مجموعة رقابة إعلامية، مؤخرًا، أن هيئة الإذاعة الحكومية ترفض وصف غزو العراق بأنه “حرب عدوان”، وهي التسمية التي تستخدمها بانتظام لوصف الغزو الروسي لأوكرانيا.

وتواصل هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) أيضًا تقليل أرقام عدد القتلى في العراق جراء الغزو، متجاهلة التقديرات الأكثر موثوقية عن أكثر من مليون قتيل.

ما تفعله بي بي سي هو إعادة صياغة حقيقة راسخة باعتبارها معلومات مضللة فقط لأنها الآن غير ملائمة لصانعي السياسة الغربيين وهم يمضون قدمًا في حرب بالوكالة في أوكرانيا لإضعاف روسيا.

قد يكون ادعاء بوتين “نزع النازية” مبالغاً فيه، لكن النازيين الجدد الأوكرانيين المدفوعين بالتعصب الأعمى تجاه كل ما هو روسي لعبوا بلا شك دورًا مهمًا في تأجيج الحرب الأهلية التي استمرت ثماني سنوات في منطقة دونباس والتي سبقت غزو موسكو.

وأخيرا، هناك مسألة الأولويات، ففي الأسبوع الماضي، غطى وفدان من البي بي سي قصة وفاة المغنية الشهيرة تينا تورنر، دون أن يقوم موقعها بذكر أي معلومة عن انهيار تيار الخليج الناجم عن التغير المناخي وما سيخلفه ذلك من تبعات وخيمة.

الصحفيين المختارين

ومع إطلاق Verify، تعلن بي بي سي الحرب على وسائل إعلام مستقلة مغرورة أثبتت نجاحها بشكل متزايد في استخدام منصات التواصل الاجتماعي لتشويه دور المذيع في الترويج للدعاية الحكومية.

إن الحاجة إلى “الحرب على المعلومات المضللة”، مثل الحاجة السابقة لـ “الحرب على الإرهاب”، هي في الواقع بحد ذاتها جزء أساسي من الدعاية.

في الحقبة السابقة من “الإرهاب” الغامض، ساعدت الخدع التي باعها خبراء مكافحة الإرهاب، مثل الكذبة القائلة بأن صدام حسين في العراق كان يؤوي أعداءه الرئيسيين من قادة القاعدة، على توفير أسباب الحرب ضد دول غير مطيعة للغرب في منطقة الشرق الغنية بالنفط. 

الآن، مع وجود بعبع روسيا والصين، كانت الحكومة البريطانية تمول سرًا وبسخاء مجموعات “التضليل” التي تردد نقاط حديثها ضد هذين الخصمين الجيواستراتيجيين.

في الحقيقة، يتم اختيار الصحفيين في وسائل الإعلام الحكومية والشركات عن طيب خاطر لخدمة الأمن القومي لدولة مصممة على زيادة الرقابة كوسيلة لتجنب التدقيق في أنشطتها.

أسانج، الذي فضح أكثر من أي شخص آخر جرائم الغرب وخداعه لإخفاء جرائمه، يقبع في السجن لسنوات، ولم يره أحد ونسيه إلى حد كبير زملاؤه الصحفيون في الوقت الذي تسعى فيه الولايات المتحدة وبريطانيا إلى إعادة تعريف عمله الصحفي الاستقصائي على أنه “تجسس”.

من المحتمل أن نرى المزيد من الصحفيين الذين يزعمون أنهم “خبراء في المعلومات المضللة” مثل أولئك الموجودين في BBC Verify ولن يكون طموحهم، كما كان لأجيال من الصحفيين، محاسبة الأقوياء بلا خوف، بل سيكون الأمر عكس ذلك تمامًا، الانضمام إلى المطالبين بمزيد من الرقابة.

للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة