بقلم بيتر أوبورن وعمران مُلاّ
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
من المفترض أن يكون الصحفيون هم من يحمِلون شعلة المساءلة، أن يواجهوا السلطة حين تكذب، ويقفوا إلى جانب المستضعفين حين يسود الظلم، لكن خلال الحرب على غزة، خذلت معظم وسائل الإعلام البريطانية هذا الدور الأخلاقي والمهني، باستثناءات نادرة مثل فاينانشال تايمز، وحديثًا الغارديان.
هذا التقصير الإعلامي منح رئيس الوزراء ريشي سوناك، ثم زعيم المعارضة كير ستارمر، غطاءً سياسياً للتقاعس عن التصدي لجرائم الاحتلال الإسرائيلي، فالصحف اليمينية الكبرى، مثل ديلي تلغراف والتايمز وديلي ميل، ساهمت في حرف الرواية لتصب في مصلحة الاحتلال، بينما يُذبح الفلسطينيون في قطاع غزة في ما يعتبره كثير من الخبراء جريمة إبادة جماعية.
وسط هذا الانحدار الأخلاقي، برز دور حيوي أدّته منظمة صغيرة: مركز مراقبة وسائل الإعلام (CfMM)، الذي أُنشئ بدايةً من قبل المجلس الإسلامي البريطاني، لكنه يعمل اليوم كمؤسسة مستقلة، وقد نشر ثلاثة تقارير تاريخية تنتقد بعمق انحياز التغطية الإعلامية البريطانية تجاه العدوان الإسرائيلي على غزة.
وثّق التقرير الأول، الذي صدر أوائل العام الماضي، الانهيار التام في معايير الصحافة المكتوبة والمسموعة في الأسابيع الأولى التي تلت 7 أكتوبر، أما التقرير الثاني، الذي صدر في الربيع، فكشف كيف حُصر استخدام اللغة العاطفية في وصف الضحايا الإسرائيليين، بينما حُرم الفلسطينيون حتى من الاعتراف بإنسانيتهم.
ثم جاء التقرير الثالث قبل أسبوعين، موجّهًا نقدًا لاذعًا وغير مسبوق لتغطية هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، متهماً إياها بالانحياز الممنهج لصالح الاحتلال.
وقد أثار هذا التقرير الأخير صدى واسعًا، ليس فقط بين جمهور المتابعين، بل حتى في أوساط غير متوقعة، فقد أعرب عن تأييده لتحليل شخصيات بريطانية بارزة مثل ألستر كامبل، السكرتير الصحفي الأسبق لتوني بلير، وميشيل حسين، مقدمة برنامج “Today” الشهير في بي بي سي.
ويُحسب للهيئة أنها أرسلت أحد كبار محرريها، ريتشارد بورغيس، للإجابة عن الأسئلة خلال إطلاق التقرير، لكن هذا الحضور كان كافياً على ما يبدو لاستفزاز مناصري الاحتلال في الإعلام البريطاني.
فقد كان الهجوم المضاد على مركز CfMM يُحضّر منذ شهور، وبلغ ذروته مساء أمس عبر تقرير مطوّل من 86 صفحة، أصدرته مؤسسة Policy Exchange.
وبالنسبة للصحفيين المخضرمين في فليت ستريت، لم يكن هذا سوى محاولة كلاسيكية للتشويه.
تقدّم مؤسسة Policy Exchange نفسها كمركز أبحاث، لكنها في الواقع تُعد من أبرز الأذرع الفكرية لليمين البريطاني، أسّسها مايكل جوف، السياسي البارز ووزير حزب المحافظين، والذي يشغل حاليًا منصب رئيس تحرير مجلة Spectator الموالية للاحتلال.
وتوالى على رئاستها أيضًا تشارلز مور، كاتب تليغراف الذي لطالما زيّف تغطيات غزة، ثم داني فينكلشتاين من التايمز، كما أن أحد رؤسائها الآخرين هو ديفيد فروم، أول من استخدم عبارة “محور الشر” في عهد جورج بوش الابن.
ويشارك في تأليف التقرير أندرو جيليغان، الصحفي المعروف بتغطياته المثيرة للجدل حول المسلمين البريطانيين، وهو اليوم زميل بارز في مؤسسة Policy Exchange.
جدير بالذكر أن أحد كاتبي هذا المقال، بيتر أوبورنو، كتب مقدمة تقرير مركز CfMM عن بي بي سي، الذي استشهدت به مؤسسة Policy Exchange، كما تحدث خلال فعالية برلمانية أُقيمت لإطلاق التقرير.
وقد أمعنّا النظر في وثيقة مؤسسة Policy Exchange الجديدة، فلم نجد فيها سوى سلسلة طويلة من الافتراءات والادعاءات الملفقة.
في مقدمة التقرير، يزعم الصحفي أندرو نيل، الذي سبق أن ترأس تحرير Sunday Times وThe Spectator، أن مركز CfMM يسعى لفرض “نظرة متحيزة للإسلام”، وأنه يحاول قمع “التقارير الصحفية الصادقة التي تتعارض مع تلك النظرة”.
لكن كما يقول المثل: كل اتهام هو اعتراف، فربما يتوجب على نيل أن يتأمل تقارير The Spectator عن المسلمين أثناء فترته كرئيس تحرير، فالمجلة نفسها نشرت مرارًا موادًا تُعد من أبرز نماذج الإسلاموفوبيا الصحفية.
الادعاء بأن مركز CfMM يسعى لتقييد حرية التعبير لا يستند إلى أي دليل، فالمركز يدعم تعريف الإسلاموفوبيا الذي تبنته المجموعة البرلمانية المشتركة، وهو تعريف صرّح بشكل واضح بأنه لا يمنع انتقاد الإسلام كدين، ولا يُقيّد حرية التعبير.
وتتهم مؤسسة Policy Exchange مركز CfMM بأنه يزعم بأن 60% من الأخبار عن المسلمين تروج لكراهية الإسلام، وهو قول لم يصرّح به المركز إطلاقًا.
أما التهمة الأخطر، فهي الادعاء بأن المركز دعم جماهير نظمت مظاهرات مناهضة للمثليين خارج المدارس الابتدائية، إلا أنه لا يوجد أي سجل أو تصريح أو فعل يدعم هذا الاتهام.
لكن المثير أكثر مما قيل، هو ما تم تجاهله في التقرير، فرغم ضجيج الاتهامات التي أطلقتها مؤسسة Policy Exchange ضد مركز مراقبة وسائل الإعلام (CfMM)، فإن المثير في تقريرها لم يكن ما جاء فيه من اتهامات ملفقة، بل ما تجاهلته عمداً.
فالتحليل الجوهري الذي قدمه المركز لتغطية وسائل الإعلام البريطانية لعدوان دولة الاحتلال على غزة، والذي كشف ازدواجية المعايير في المعالجة الصحفية بين الضحايا الإسرائيليين والفلسطينيين، تم تجاهله بالكامل من قبل مؤسسة Policy Exchange.
خذ على سبيل المثال نتائج التقرير الأخيرة:
– بي بي سي استخدمت مصطلح “مجزرة” لوصف مقتل إسرائيليين أكثر بـ18 مرة مما استخدمته عند الحديث عن الفلسطينيين، بل لم تستعمل هذا المصطلح أبدًا في عناوين تتناول جرائم جيش الاحتلال.
– وصف “جزار” استُخدم 220 مرة في تغطية ما يُقال إنها جرائم ضد الإسرائيليين، لكن مرة واحدة فقط عند الحديث عن الجرائم المرتكبة ضد الفلسطينيين.
– حظي الضحايا الإسرائيليون بتغطية إنسانية موسّعة، شملت أسماءهم وخلفياتهم ووظائفهم، بينما غابت هذه التفاصيل كليًا عن تغطية الضحايا الفلسطينيين.
– من بين عشرات الصحفيين الفلسطينيين الذين قُتلوا في غزة، لم تُغطِ بي بي سي سوى 6% من الوفيات.
– تجاهلت بي بي سي ووسائل الإعلام الكبرى الأخرى مفاهيم سياسية وعسكرية محورية لفهم سلوك الاحتلال، مثل “عقيدة الضاحية”، أو “تعليمات هانيبال”، أو حتى تصريحات علنية تنضح بروح الإبادة الجماعية، صادرة عن مسؤولين في دولة الاحتلال، بمن فيهم رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو.
لا تعليق، لا توضيح، لا حتى اعتراف بهذه الحقائق من قِبل مؤسسة Policy Exchange، التي لم تحاول نقض البيانات، ولم تتطرق لأصل المشكلة، وهو التحيّز اللغوي والبصري الممنهج في التغطية الإعلامية.
وحين تعجز عن الرد، فلا عجب أن تلجأ إلى الهجوم على الجهة التي وقفت أمام المؤسسة الإعلامية البريطانية.
تشويه بدل المحاججة
بمنطق كرة القدم، يمكننا القول إن مؤسسة Policy Exchange لم تذهب لمهاجمة الكرة، بل هاجمت اللاعب نفسه، إذ اختارت الإساءة إلى مركز CfMM بدل الرد على محتوى تقاريره، ما يُشير بوضوح إلى عجزها عن مجاراته بالحجة والمضمون.
إن تقرير مركز CfMM ليس عملًا دعائيًا، بل جهد بحثي محكَم يعتمد على تحليل بيانات وتوثيق لغوي دقيق، وقد حظي باهتمام أكاديمي وإعلامي واسع، وحتى خصومه لم يتمكنوا من نقض جوهره.
والأهم من ذلك أن ما فعلته مؤسسة Policy Exchange لا يختلف كثيرًا عمّا دأبت عليه المؤسسات الإعلامية ذاتها خلال العدوان على غزة من تجاهل السرديات الفلسطينية، وتهميش الضحايا، والاكتفاء بنقل رواية دولة الاحتلال وكأنها الحقيقة الوحيدة.
ازدواجية في التضخيم والتجاهل
في خضم هذا المشهد الإعلامي المتوتر، من اللافت للنظر أيضًا كيف يتم تضخيم بعض التقارير وتجاهل أخرى، بناءً على هوية الكاتب ومضمون التقرير.
فلجان التحقيق المستقلة، التي كشفت سابقًا إخفاقات مروعة في تغطية مقتل الصحفي مايكل فريدون، لم تجد لها مكانًا في عناوين الصحف أو النقاشات التلفزيونية البريطانية، بينما حظي تقرير Policy Exchange الذي يفتقر للموضوعية بتغطية واسعة من صحف مثل الديلي ميل، والتليغراف، والتايمز، وحتى GB News.
إن هذا التناقض يكشف الكثير عن منظومة الإعلام البريطاني، وعن من يملك حق الحديث، ومن يُسلب صوته، فبينما تُحاصر غزة بالقنابل، تُحاصر الحقيقة بالتحريف، وتُقمع أي محاولة لقولها خارج رواية الاحتلال.
وهنا، “نختم مرافعتنا، سيدي القاضي”.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)