بقلم إسماعيل باتل
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
لم يكن قرار شرطة العاصمة البريطانية (المتروبوليتان) باعتقال كل من يهتف بشعار “عولِموا الانتفاضة” عقب هجوم شاطئ بونداي في أستراليا مجرد تعديل في قواعد حفظ النظام العام، بل كان خطوة فجة تكشف عن انحياز سياسي خطير، وتطمس الخط الفاصل بين التحريض على العنف والتعبير السياسي المشروع.
فخلال أيام قليلة، جرى توقيف شخصين في لندن لمجرد هتافهما بكلمة “انتفاضة” في تظاهرة، وفي هذه الحالة لم يعد الأمر متعلقًا بإدارة المخاطر أو حماية السلامة العامة، بل بمحاولة مباشرة لإسكات الحراك المناهض للإبادة الجماعية، وقمع أي تعبير عن التضامن مع الشعب الفلسطيني.
والواقع أن ثمة حقيقتان كفيلتان بفضح ازدواجية المعايير لدى الوزراء وكبار ضباط الشرطة، فأولًا، أكدت التحقيقات الأسترالية أن هجوم بونداي كان مستلهمًا من “تنظيم الدولة”، وليس فعلًا منظمًا من قبل فلسطينيين أو مرتبطًا بأي نشاط احتجاجي فلسطيني.
وعلى الرغم من ذلك، فقد سارع سياسيون بريطانيون ومسؤولون في سفارة الاحتلال وأصوات إعلامية نافذة إلى ربط الهجوم بشعار فلسطيني، دون أي دليل، مكتفين بإثارة الضجيج وبث الخوف.
ثانيًا، إن القانون الجنائي البريطاني يحدد بالفعل معايير واضحة لتحويل الخطاب إلى جريمة، فـ “تشجيع الإرهاب” يتطلب تصريحًا يُفهم على أنه دعوة مباشرة أو غير مباشرة لارتكاب عمل إرهابي، وفق قانون الإرهاب، كما أن ملاحقة جرائم الإخلال بالنظام العام ذات الطابع العنصري أو الديني المشدد تستند إلى معايير الضرر والنية والسياق، بحسب قانون الجريمة والفوضى لعام 1998.
الغموض كسلاح
تضع النيابة العامة وقانون الإرهاب هذه المعايير التي لا تمثل مجرد توصيات اختيارية يمكن تجاهلها لأن نخبًا سياسية أو جماعات ضغط نافذة تؤيد ممارسات غير قانونية لدولة الاحتلال، وعليه فإن حظر شعار أو تجريمه بقرار إداري يحوّل الغموض إلى سلاح.
وللعلم فإن كلمة “انتفاضة” كتعبير عربي غير ذات علاقة بالإسلام كدين، وتعني حرفيًا “الهزّ” أو “التحرر”، وفي السياق الفلسطيني، برزت عام 1987 كشعار جامع لمساعي التحرر من الاحتلال الاستعماري.
ومعلوم أن الشعارات هي لغة الغضب والقهر وليست معاجم مفردات قانونية دقيقة يسهل على الخصوم ليّ أعناقها، وحين تتبنى السلطات التفسير الأكثر عدائية لأي تعبير سياسي، فإنها تفتح الباب أمام شرطة عنصرية، وتدفع المجتمع خطوة إضافية نحو السلطوية.
في هونغ كونغ اعتُقل متظاهرون عام 2019 بسبب هتافهم “حرروا هونغ كونغ، ثورة عصرنا”، بعدما وصفت الحكومة الصينية كلمة “ثورة” بأنها تحريض على الفتنة، واليوم، تتعامل الشرطة البريطانية والحكومة مع كلمة “الانتفاضة” بالطريقة نفسها.
ولم يكن من الممكن تجريم كلمة “انتفاضة” إلا بعدما جرى نزع صفة الإنسانية عن الفلسطينيين وإعادة تعريفهم داخل إطار صهيوني عنصري، يُفلتر لغتهم وتعبيرهم السياسي عبر عدسة استعمارية منحازة.
وهكذا، يُصوَّر شعار يدعو إلى إنهاء الإبادة والاحتلال، وهما جريمتان بموجب القانون الدولي، على أنه دعوة للعنف، ولا تُفهم كلمة “الانتفاضة” بوصفها عنفًا إلا من قبل من يصرّون على إبقاء العنف قائمًا.
يخلق حظر الشعارات أثرًا مخيفًا، فهو يقيّد قدرة الحملات السلمية على التعبئة، ولا يردع الأفراد المنفلتين أو السريين، بل إن قمع الحق في الشعار يضعف التنظيمات التي تعتمد على المشاركة العلنية، ولا يفعل شيئًا يُذكر لمنع أعمال عنف فردية.
والنتيجة المتوقعة هي خنق الحراك السلمي، ودفع بعض الأفراد نحو مزيد من التطرف، وكلا الخيارين يجب أن يقلق أي سياسي يدّعي الدفاع عن الديمقراطية.
انحياز فاضح
وهناك ثمة ازدواجية صارخة في المعايير، فالموقف الشرطي الجديد ينسجم حرفيًا مع مطالب جماعات ضغط موالية لدولة الاحتلال، تسعى إلى مساواة شعار غامض بالعنف، في المقابل، يُغضّ الطرف عن مواطنين بريطانيين يساهمون في الإبادة بالسلاح أو المال أو الخطاب التحريضي، ويُنظر إليهم باعتبارهم “يعبرون عن آرائهم السياسية” أو “عن حزنهم”.
إن إجراءات الشرطة ليست كارثية فحسب، بل منحازة بعمق، فالحكومة تقمع التضامن الحقيقي مع شعب واقع تحت الاحتلال، بينما تتسامح مع خطاب وممارسات تغذي الكراهية العرقية والإبادة والعنف اليومي الذي يمارسه جيش الاحتلال ضد الفلسطينيين.
هذا الحماس الانتقائي في إسكات كل ما يفضح انتهاكات دولة الاحتلال ينسف أي ادعاء بالحياد، ويعزز الاتهامات بالعنصرية المؤسسية.
لعبة الأمن
كما أن تجريم الشعارات يمنح انتصارًا استراتيجيًا لمن يسعون إلى نزع الشرعية عن أصوات المهمشين والمضطهدين.
وما جرى في هونغ كونغ يوضح المسار، تضخيم معنى شعار، إثارة الذعر، خلط الاحتجاج بالإرهاب، ثم جعل الاعتقال ممارسة اعتيادية، ولندن اليوم تسير على النهج ذاته، لتنتهي بديمقراطية تعاقب الكلمات، وتدعم في المقابل عبر صمتها العنف في الخارج.
ولو كانت الحكومات والشرطة تخشى العنف فعلًا، لاتبعت الأدلة، ولحققت مع من يسافرون للقتال، وأوقفت تصدير السلاح إلى أطراف متهمة بجرائم دولية، ولاحقت من يدعمون الاحتلال والتجويع والإبادة، بدلًا من تجريم خطاب سياسي غامض يدعو إلى العدالة والسلام.
الحل بسيط وملحّ، على قادة الشرطة أن يوضحوا كيف ينسجم نهجهم الجديد مع المعايير القانونية التي أقرها البرلمان والنيابة العامة، وعلى الوزراء أن يكفوا عن تحويل السياسة إلى لعبة أمنية لإرضاء جماعات ضغط نافذة، وعلى المحاكم أن تتذكر أن القانون الجنائي ليس مسرحًا للاستعراض السياسي.
أجل، فالديمقراطية تزدهر لأنها تتحمل الخطاب المزعج، وربما القبيح، لكنها تذبل حين تقرر الدولة أي الكلمات العربية خطيرة، وأي الأصوات يجب إسكاتها.
نحن جميعًا متفقون على ضرورة اجتثاث الإرهاب والكراهية، ولهذا السبب تحديدًا، يجب تطبيق القانون بعدالة، لا انتقائية.
إن اعتقال أشخاص بسبب هتافهم بشعار غامض مثل “عولِموا الانتفاضة”، دون أي نية أو خطة للعنف، ليس حماية للأمن العام، بل قمع مقنّع، وتجسيد صارخ للعنصرية المعادية للفلسطينيين.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)







