بقلم راكان عبد الرحمن وأحمد الدناف
ترجمة وتحرير مريم الحمد
عندما نقول غزة اليوم، نستحضر معها دوماً صور المعاناة الإنسانية المستمرة في القطاع المحاصر منذ 17 عاماً، فقد تعرض القطاع، الذي يمثل شريطاً صغيراً على ساحل البحر الأبيض المتوسط، لكثير من حملات القصف والهجمات الإسرائيلية على مدى سنوات، حتى باتت الأونروا تصف الوضع الإنساني في غزة بأنه “حالة طوارئ”.
تعتبر غزة من أكثر مناطق العالم من حيث الكثافة السكانية، حيث يعيش فيه أكثر من 2 مليون شخص، منهم نصف مليون سكان المدينة نفسها، ويعيش سكان القطاع في تهديد مستمر، ليس فقط بسبب الاحتلال الإسرائيلي، لكن أيضاً بسبب الضغوط المفروضة على القطاع بسبب الحصار، بما في ذلك الموارد المائية المحدودة وضعف المرافق والإمدادات الطبية ومصادر الطاقة.
في ظل هذه المعاناة المعاصرة، يغفل الكثيرون عن تاريخ غزة الغني الذي يعود إلى 5 آلاف عام على الأقل، فقد كانت غزة على مفترق طرق بين مصر وبلاد الشام، مما جعلها مركزاً تجارياً مهماً وموقعاً عسكرياً استراتيجياً، وعلى مدى آلاف السنين حكمها المصريون والمقدونيون تحت حكم الإسكندر الأكبر بالإضافة إلى البيزنطيين والمماليك المصريين والعثمانيين وغيرهم.
لقد تركت كل تلك الحضارات بصمات تاريخية ما يزال أثرها موجوداً حتى اليوم بمواقع تاريخية شاهدة على ذلك التاريخ، فما هي أهمها؟
-
تل أم عامر:
يقع دير تل أم عامر المسيحي جنوبي مدينة غزة، ويعتقد أنه مسقط رأس القديس هلاريون، راهب من أصل سوري فلسطيني من أوائل رواد فكر الرهبانية في الدين المسيحي، وقد كان الدير لقرون نقطة توقف للمسافرين على مفترق الطرق بين مصر وفلسطين وسوريا وبلاد ما بين النهرين.
يتكون موقع الدير من كنيستين ومدفن وقاعة معمودية ومقبرة عامة وسرداب واسع، ويمتد المكان على مساحة 25 فداناً، ويعد من اكبر الأديرة حتى أن بعض السكان المحليين لا يزالون يستخدمونه للعبادة رغم تدمير أجزاء منه، وتصنفه اليونسكو على أنه موقع “ذو أولوية عالية”.
-
كنيسة القديس برفيريوس:
يعتقد أنها واحدة من أقدم دور العبادة في غزة، وتحمل اسم أسقف غزة في القرن الخامس الميلادي، حيث تقع مقبرته في الموقع، وقد تم بناء الكنيسة عام 425 م، لكن تم تحويلها إلى مسجد في القرن 7، ثم أعاد الصليبيون استخدامها ككنيسة في القرن 12، ومن أهم سمات المبنى سقفه على شكل نصف قبة ومداخله الثلاثة المدعومة بالأعمدة الرخامية.
حتى اليوم، يحضر مئات المسيحيين من سكان القطاع إلى الموقع، الذي يقع في حي الزيتون، من أجل قداس عيد الميلاد، كما أنه استخدم كملجئ خلال النزاعات سابقاً، وخلال العدوان على غزة عام 2014، لجأ إليه حوالي 2000 شخص معظمهم من النساء والأطفال، لكنه تضرر جزئياً جراء القصف.
-
قلعة برقوق:
يقع حصن القلعة التاريخية في منطقة خان يونس جنوبي القطاع، وقد شيدت القلعة في عهد السلطان المملوكي برقوق عام 1387، والملك برقوق كان عبداً من أصل شركسي، استغل عدم الاستقرار داخل النخبة المملوكية الحاكمة فأقال السلطان الصالح حجي.
كان الحصن مكان استراحة يتوقف عنده التجار الذين يسافرون بين دمشق والقاهرة، وكان مكاناً عسكرياً حصيناً، قيل أن برقوق بناه من أجل مواجهة تهديدات المغولي تيمورلنك، بعد إنشائه امبراطورية ضخمة من وسط آسيا حتى الشرق الأوسط، ولم يبق من القلعة اليوم إلا الواجهة الأمامية، فمعظم هياكلها إما تحولت إلى خراب أو متاجر.
-
قصر الباشا:
تم تشييد القصر خلال الفترة المملوكية في منتصف القرن 13، وهو يقع في قلب مدينة غزة، ويعتقد أن القصر كان محل سكن بيبرس، السلطان المملوكي المصري الذي قاتل ضد الصليبيين والمغول، وكان كثيراً ما يتوقف في غزة خلال غزواته، وفي إحدى زياراته، قيل أنه تزوج من امرأة غزية وأقام قصراً لزوجته وأطفاله.
يعكس الطراز المعماري للقصر تفاصيل من العصر العثماني أيضاً، فقد كان بمثابة حصن للحكام المحليين إبان الحكم العثماني، وخلال الانتداب البريطاني، تحول القصر إلى مركز للشرطة ثم مدرسة لاحقاً، واليوم تحول إلى متحف للزوار، يضم قطعاً أثرية من عصور مختلفة من تاريخ غزة.
-
المسجد العمري:
يقع المسجد في قلب مدينة غزة، وهو الأكبر والأكثر شهرة في القطاع، يتميز بأقواسه وساحته الواسعة المفتوحة، ويسمونه المسجد الكبير، موقعه كان كنيسة بيزنطية في القرن 5 الميلادي، ثم تحول إلى مسجد بعد الفتح الإسلامي للمنطقة في القرن 7، وأطلق عليه اسم الجامع العمري تكريماً للخليفة عمر بن الخطاب.
خلال الحروب الصليبية، تم تحويل المسجد إلى كنيسة وأعيد تسميتها على اسم القديس يوحنا المعمدان، ثم عادت إلى مسجد بعد أن تم ترميمها في عهد المماليك، ويمتد المسجد اليوم على مساحة 4 آلاف متر مربع.
ويشكل أهمية كبيرة لدى أهل غزة وفلسطين عموماً، حيث يرمز إلى مواجهة الشدائد، فقد نجا المسجد من الزلازل الكبيرة فضلاً عن الحروب، لكن تم تدمير مئذنته في زلزال القرن 11 ثم ترميمها، لكن تدمرت بالكامل في زلزال القرن 13، كما تعرض لأضرار جسيمة خلال الحرب العالمية الأولى لكن أُعيد ترميمها.
المئذنة، المصممة على الطراز المعماري المملوكي، شاهدة على التراث التاريخي للمسجد، فقد كانت فيه مكتبة كبيرة مليئة بآلاف المخطوطات والكتب، لكن فُقد الكثير منها خلال الحروب الصليبية والحرب العالمية، ورغم تعرض المسجد لأضرار جزئية نتيجة القصف الإسرائيلي، إلا أنه لا يزال مصدر جذب للمصلين والسكان المحليين.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)