بقلم عبد أبو شحادة
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
من دون فهم السياق العام للأحداث فإنه يصعب فهم المؤتمر الصحفي المشترك الذي عقده الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو يوم الاثنين حول خطة ترامب المكونة من 20 نقطة لإنهاء ما وصفته الأمم المتحدة بالإبادة الجماعية في غزة.
فقد جاء المؤتمر بعد أسبوع واحد من القمة الأممية في نيويورك التي ناقشت اقتراحًا فرنسيًا-سعوديًا للاعتراف بالدولة الفلسطينية، وفي ظل تصاعد الانتقادات والمقاطعة الدولية لدولة الاحتلال.
أسهم هذا الواقع في إثارة الانتقادات الداخلية للحرب، وسط مخاوف من التداعيات الاقتصادية، حيث تزامن الإعلان مع مناقشات الاتحاد الأوروبي حول تعليق الاتفاقيات التجارية مع دولة الاحتلال بسبب جرائمها في غزة، الأمر الذي ينذر بالانتقال من العزلة الثقافية إلى العزلة الاقتصادية.
وفي هذا الإطار، يواجه نتنياهو تحديات عميقة، فمن جهة، وبصفته نيوليبيراليًا ملتزمًا يدرك مدى اعتماد دولة الاحتلال على القوى الغربية والأسواق المفتوحة، ويعرف جيدًا مخاطر العزلة الدولية.
وفي الوقت نفسه يرى نتنياهو نفسه أمام فرصة تاريخية تتمثل في دعم شعبي غير مسبوق في أوساط اليمين الإسرائيلي لتحقيق حلم صهيوني قديم-جديد، يتمثل في تهجير الفلسطينيين، خاصة من غزة، بعد عقود من احتلال 1967، حين روجت دولة الاحتلال لبرامج ومكاتب هجرة تهدف إلى دفع السكان لمغادرة القطاع.
غير أن عامل الزمن هو أكبر التحديات التي تواجه نتنياهو، فبعد عامين من الحرب القاسية، لم تنهزم حركة حماس، بينما يعاني ترامب من أزمات متعددة من صنع يديه، بدءًا من الحرب التجارية مع الصين، مروراً بالمستنقع في أوكرانيا، وتصاعد التوترات مع فنزويلا، وصولاً إلى الانتقادات المتزايدة داخليًا بسبب دعمه الأعمى لدولة الاحتلال.
وبالتالي، كان على نتنياهو تحقيق توازن دقيق بين تلبية طموحات ائتلاف يهوى التطهير العرقي، وفي الوقت نفسه تقديم إنجاز سياسي للرئيس الأمريكي يخفف الضغط الدولي والمحلي.
تهجير الفلسطينيين
يدرك نتنياهو حجم التعقيد الكبير في التوفيق بين تقديم تنازلات لحكومة يمينية تحلم بتهجير كامل لسكان غزة، وبين تلبية مصالح الرئيس الأمريكي الذي يواجه انتقادات دولية ومحلية حادة بشأن غزة.
والمقترح الذي قدم هذا الأسبوع ليس جديدًا من حيث الجوهر، بل إنه وكما أشار المفاوض السابق في إدارة بايدن، بريت ماكغورك، يكرّر المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار السابق الذي تم تنفيذه في يناير/ كانون الثاني الماضي وأوقفه جيش الاحتلال في مارس/ آذار مع فارق تغليفه هذه المرة بموافقات عربية وإسلامية.
لكن تلك الموافقات أتت مشروطة صراحة بإقامة دولة فلسطينية لاحقًا، وقد صُممت إدارة غزة المقترحة من قبل ترامب ورئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير لتكون مؤقتة، تمهيدًا لدمج غزة مع الضفة الغربية.
ولذلك، فليس من المستغرب أن يعلن وزير الخارجية الباكستاني أن خطة ترامب لم تكن النسخة التي عُرضت وتمت الموافقة عليها مع الدول العربية والإسلامية.
كما عمد نتنياهو في خطابه للجمهور الإسرائيلي إلى الإيحاء بأن لا حماس ولا السلطة الفلسطينية ستتحكم في غزة، متجاهلًا الحقيقة الجوهرية.
وبالتالي فإن نتنياهو، ومع اقتراب سنة انتخابية جديدة، يبقى مستعدًا للقيام بأي شيء لتخفيف الضغوط وكسب مزيد من الوقت من الأمريكيين، حتى لو اقتضى الأمر الاعتذار لرئيس وزراء قطر بعد هجوم الاحتلال على الدوحة، وهو مستمر في المناورة رغم أن ذلك يُنظر إليه كإشارة ضعف بين قاعدة ناخبيه.
يمكن لأي متابع لأداء نتنياهو في الأمم المتحدة بسهولة رفض خطابه باعتباره مليئًا بالحيل الرخيصة والشعارات المبسطة التي تقسم العالم إلى خير وشر، لكن هدفه، كما في مقابلاته الأخيرة عبر برامج بودكاست أمريكية، كان تبرير ما وصف بالإبادة الجماعية وتهجير الفلسطينيين.
ويدرك نتنياهو الاتجاه السائد في إعلام الاحتلال والصحافة اليمينية العالمية، حيث يعتمد الناس على منصات بديلة أكثر من الوسائل التقليدية، دون وجود صحفيين يواجهون ادعاءاته وأفكاره المتطرفة.
وكان من الممكن قبول الاقتراح نفسه منذ عدة أشهر، وهو ما كان سيجنب فقدان آلاف الفلسطينيين وربما يضمن إطلاق سراح المزيد من الأسرى الإسرائيليين الأحياء، ومع ذلك، ظل نتنياهو ملتزمًا بخط النهاية الذي يهدف إليه وهو تهجير الفلسطينيين.
خيارات قاتمة
وعلى عكس المؤتمر الصحفي المشترك السابق بين ترامب ونتنياهو في فبراير/ شباط، لم يرد ذكر صريح لفكرة نقل سكان غزة هذه المرة، لكن ذلك لا يعني أن الفكرة قد ماتت.
إذ تظهر الوثائق الأخيرة الصادرة عن البيت الأبيض حول مستقبل غزة، وتقارير معاهد بحثية إسرائيلية، أن هناك موارد حقيقية تُخصص لتحقيق هذا الهدف.
ويبدو أن السبب الوحيد لعدم تنفيذ خطة التهجير حتى الآن هو رفض الدول العربية، خصوصًا مصر، ودول أخرى استقبال اللاجئين الفلسطينيين.
لكن لا شيء يمنع دولة الاحتلال من تحقيق هدفها مستقبلاً، خاصة مع جهودها المستمرة لتدمير أي شيء يجعل الحياة ممكنة في غزة
كما يمكن بسهولة تجاهل آخر فقرة في خطة ترامب المكونة من 20 نقطة، والتي تنص على قيام الولايات المتحدة بتعزيز الحوار بين الفلسطينيين ودولة الاحتلال.
فالجانب الإسرائيلي يرى في ذلك أداة لتصوير التعايش الزائف، واستخدامه لمواجهة حركة المقاطعة الأوروبية، بينما يتحول الحوار إلى مجرد دعاية لصالح الدبلوماسية العامة لدولة الاحتلال.
وعندما تزول الضغوط المباشرة، تحت قيادة ترامب وبلير، سنشهد بلا شك تقدم برامج جديدة لتهجير الفلسطينيين، سواء بدافع الأيديولوجيا الصهيونية أو لمجرد الاستفادة المالية من معاناة الفلسطينيين.
إلا أن الأكثر إثارة للقلق، هو عزيمة ترامب على تهميش الحركة الوطنية الفلسطينية برمتها لا حماس فقط، واستبعاد السلطة الفلسطينية من المفاوضات، وفعليًا خصخصة القضية الفلسطينية في أيدي شركات دولية وإداريين أجانب.
ومن شأن ذلك أن يترك الفلسطينيين أمام خيارين قاتمين هما التفكيك المستمر لحركتهم الوطنية، أو دفع ثمن باهظ يصل إلى ملايين الأرواح.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)