بقلم ليلي غاليلي
ترجمة وتحرير مريم الحمد
ما إن تم إقرار الكنيست الإسرائيلي لقانون “إلغاء سبب المعقولية” المثير للجدل والمقيد للمحكمة العليا، علق وزير المالية اليميني المتطرف بتسلئيل سموتريتش في مقابلة إذاعية على أن التصويت “لم يكن حقاً على أساس المعقولية، بل كان تصويتاً على رفض الخدمة في المحكمة والجيش”.
منذ عدة أشهر الآن، تشهد إسرائيل احتجاجات حول التعديلات القضائية، حيث هدد الآلاف من جنود الاحتياط في الجيش بإنهاء خدمتهم التطوعية إذا لم تتم تلبية مطالبهم، ورغم ذلك لم يتردد الائتلاف الحاكم المتطرف من المضي قدماً في مشروع القانون الذي ألغى قدرة المحكمة على نقض قرارات الحكومة باستخدام “معيار المعقولية”.
كانت النتيجة من وجهة نظر الجيش أزمة غير مسبوقة، متمثلة بآلاف جنود الاحتياط الذين بدأوا بترك الخدمة، وكنوع من إنكار المسؤولية، يلقي سموتريتش باللوم على أولئك الذين يصفهم بعض السياسيين الآن بأنهم “خونة”.
اليمين الذي ارتبط تاريخياً بتكتيكات الترويج للخوف من أجل السيطرة على السكان المذعورين، أصبح الصوت الهادئ اليوم، ويؤكد للجميع أن الجيش “بخير” ويلوم اليسار على التسبب “في هلع لا داعي له لتحقيق مكاسب سياسية”
سموتريتش، الذي لم يخدم إلا 14 شهراً في الخدمة العسكرية الإلزامية التي كان من المفترض أن تكون 34 شهراً، يرى أن “البلاد لا يمكن أن تخضع لإرادة المجلس العسكري الذي يريد فرض أيديولوجيته على حكومة منتخبة”، وبطريقة ما، هو على حق، فضمن واقع مشوه للجيش فقط، يمكن للجيش أن يتولى دور منفذ الديمقراطية!
إسرائيل في الحقيقة مشوهة، وفي الوقت الذي تحاول فيه حكومة قومية متطرفة تغيير جوهرها، يرى العديد من داخل حركة الاحتجاج على التعديلات القضائية أن عناصر داخل الجيش هي الوجوه الأبرز التي تحمي استقلال مؤسساتها، باعتبارها سيفاً مسلطاً فوق الائتلاف الحاكم!
ومثل سموتريتش، يرفض نتنياهو تهديدات رفض الخدمة، فقد أشار في تصريح سابق أنه “يمكن للدولة تدبير الأمور بدون بضعة أسراب، لكنها لا تستطيع الإدارة بدون حكومة”، لكن وحدة مثل المخابرات العسكرية تختلف مع قول نتنياهو بالتأكيد، فقد حذرت نتنياهو من أن التصويت لصالح “قانون المعقولية”، سوف يؤدي إلى ضرر مباشر على الردع الإسرائيلي في مواجهة إيران وحزب الله، خاصة مع احتمالات تصعيد هي الأعلى منذ حرب 2006 على لبنان.
وتعد العلاقة مع الولايات المتحدة جانباً آخر حاسماً في انشقاقات الجيش، فوحدة المخابرات ترى أنها قد تضعف مع استمرار خطة التعديلات القضائية مما يمكن أن يؤدي إلى “تآكل” القيم المشتركة مع الولايات المتحدة، ويضاف إلى كل ذلك الانقسامات الاجتماعية داخل إسرائيل، والتي يعتبرها الكثيرون في إسرائيل تهديداً وجودياً.
أما معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، فقد أكد على هذه المخاوف من خلال دراسة تحذيرية مؤخراً، أشار فيها إلى أن “نموذج الجيش الإسرائيلي باعتباره جيش الشعب معرض لخطر التفكك، وندعو بشكل عاجل إلى الوقف الفوري للتشريعات أحادية الجانب، ونحث على متابعة التغييرات من خلال إجماع واسع”، ويعد هذا ثاني “إنذار استراتيجي” يصدره المعهد.
ما الذي قد يحدث إذا ما قررت إسرائيل شن عملية عسكرية، أو كان مطلوباً منها ضد هجمات ما؟! هذه هي المعضلة بالنسبة للجنود المحتجين، هل سيمضون في تهديدهم برفض الخدمة أم لا
يدلل المشهد الحالي على تحول في المعايير السياسية الإسرائيلية، فاليمين الذي ارتبط تاريخياً بتكتيكات الترويج للخوف من أجل السيطرة على السكان المذعورين، أصبح الصوت الهادئ اليوم، ويعمل بجد للتغطية على الفوضى التي أحدثها، كما يؤكد للجميع أن الجيش “بخير” ويلوم اليسار على التسبب “في هلع لا داعي له لتحقيق مكاسب سياسية”.
“متجهون نحو كارثة”!
بغض النظر عن الألعاب السياسية، فإن الأزمة غير المسبوقة في الجيش الإسرائيلي حقيقية فعلاً وتتزايد يوماً بعد يوم، فقد أعلن آلاف الجنود من جميع الوحدات العسكرية، البحرية والمشاة والسايبر والمخابرات والوحدات الخاصة، أنهم لن يحضروا لا للخدمة ولا للتدريب منذ أسبوع قبل التصويت، وانضم إليهم المزيد بمجرد تمرير القانون.
قبل تصويت الكنيست، أعلن 1142 فرداً احتياطياً في القوات الجوية أنهم سيتوقفون عن العمل في حال تمرير القانون، من بينهم 235 طياراً مقاتلاً و98 طياراً لطائرات النقل و 89 طياراً لطائرات الهليكوبتر و173 مشغل طائرات بدون طيار، بعد يومين من التصويت، انضم 120 فرداً من جنود الاحتياط النشطين ليرتفع عدد الطيارين إلى 260.
بشكل عام، أعلن ما لا يقل عن 10 آلاف جندي احتياطي من 40 وحدة مختلفة ناشطون في الاحتجاج تحت شعار “إخوة في السلاح”، تعليق خدمتهم بعد التصويت، فقد ورد على لسان القائد السابق لسلاح الجو، الجنرال إيتان بن إلياهو، قوله ” أنا أحمل الحكومة المسؤولية، نحن متجهون نحو كارثة”!
وفقاً للجيش الإسرائيلي، فإن معظم الطيارين الاحتياطيين متطوعون منذ عقود يحضرون التدريب الأسبوعي رغم النبرة السياسية التي ترى أنه يمكن استبدالهم بسهولة، وبالنسبة للقوات الجوية، فهي أكثرة وحدة لا تعمل بعدد كبير من الطيارين، لكنها في الوقت نفسه، لا تستطيع العمل بدون أجهزة التحكم في الهواء، التي يقف عندها العديد من الجنود الاحتياط الذين علقوا خدمتهم.
لا يمكن تطبيق مصطلح “الجيش الشعبي” في ظل ضغط أعضاء من الائتلاف الحاكم، خلال الأزمة الأخيرة، بجعل دراسة التوراة قيمة أساسية للدولة في قانون شبه دستوري، إذا تم تمريره، فسوف يرسخ الإعفاء العسكري لأعضاء الطائفة الارثودكسية المتطرفة، والذين يشكلون 13% من الإسرائيليين
ويعتبر جنود الاحتياط في الجيش الإسرائيلي مدنيين ومتطوعين، لذلك لا يمكن تعريفهم قانونياً على أنهم يرفضون الخدمة ما لم يعلنوا أنهم لن يذهبوا عند استدعائهم، فليس للجيش سيطرة كاملة عليهم لأنهم متطوعون، وبحسب أحد المحاربين القدامى في سلاح الجو، فإن
“الحديث عن استبدالهم بآخرين ليس جادًا بالتأكيد، سيستغرق الأمر 15-20 عامًا للوصول إلى هناك”.
ماذا إذا ذهبت إسرائيل إلى خيار الحرب؟!
لن يصبح عمق الأزمة محسوساً ربما إلا بذهاب إسرائيل إلى حرب قادمة، فبعض المحللين العسكريين يخشى أنه، في ظل هذه الظروف، ستختار الحكومة القيام ببعض الأعمال العسكرية لإثبات ما صرحت به من أن كفاءة الجيش لم تتأثر بانشقاقات جنود الاحتياط، كما أن الحرب ستكون فرصة لاختبار جدية موقف جنود الاحتياط الذين أعلنوا تعليق خدمتهم.
ويقدر الخبراء العسكريون أن هذا السيناريو لم يعد بعيداً، مع الإشارة إلى أن الأمر قد يستغرق بين شهر إلى شهرين من توقف التدريب ليتضح فقدان الجيش استعداده للقتال، لكن الوضع في سلاح الجو معقد، فبعض الطيارين طلب عدم استدعائه للتدريب كقرار نهائي، والبعض الآخر طلب ذلك في ظل الوضع الراهن فقط.
في تصريح له مع موقع ميدل آيست آي، أشار أحد المحاربين القدامى في سلاح الجو، لكن لم يكشف عن هويته، أن القوات الجوية تحاول جمع بيانات محددة حول حجم الرفض وأسبابه، موضحاً أن لكل سرب شخص معين يتواصل مع جنود الاحتياط والطيارين وغيرهم من أفراد القوات الجوية، والآن جنود الاحتياط المحتجين يتم استدعاؤهم لفهم موقفهم.
لكن، ما الذي قد يحدث إذا ما قررت إسرائيل شن عملية عسكرية، أو كان مطلوباً منها ضد هجمات ما؟! هذه هي المعضلة بالنسبة للجنود المحتجين، هل سيمضون في تهديدهم برفض الخدمة أم لا، ويعتقد المحارب القديم في سلاح الجو أن “ممزقون بين التنفيذ الكامل للقرار، وإقناع الآخرين بالانضمام إليهم، حتى عقد اجتماع مفتوح سوف يتم فيه الكشف عن هوياتهم”، واضاف “الحركة الاحتجاجية وصلت إلى مفترق طرق ونحن مدنيون داخل هذه الحركة”.
لم يعد جيش الشعب؟!
يستحق هذا التمييز بين العسكريين والمدنيين في تعليقات المحاربين القدامى تسليط الضوء عليه، فعلى مدى عقود، افتخرت إسرائيل بوجود “جيش شعبي” كنموذج حدد ماهية التجنيد العسكري الشامل منذ تأسيس إسرائيل، وفي هذا النموذج يشكل جنود الاحتياط العمود الفقري للجيش في وقت الطوارئ، حيث يظل حجم الجيش النظامي صغيراً نسبياً.
لكن التشققات في نموذج “الجيش الشعبي” آخذة في التوسع، حتى قبل حركة الاحتجاج الحالية، فعندما يكون 4% من الجنود والضباط المدرجين في قائمة الاحتياط “في الخدمة الفعلية”، لا يمكن تطبيق مصطلح “الجيش الشعبي” إذن، لم تعد الفكرة صالحة خاصة في ظل ضغط أعضاء من الائتلاف الحاكم، خلال الأزمة الأخيرة، بجعل دراسة التوراة قيمة أساسية للدولة في قانون شبه دستوري، إذا تم تمريره، فسوف يرسخ الإعفاء العسكري لأعضاء الطائفة الارثودكسية المتطرفة، والذين يشكلون 13% من الإسرائيليين.
من الزاوية الشخصية، فقد يشعر بعض الجنود بأن حكومتهم التي أعلنت أن التصويت الأخير كان مجرد “خطوة أولى”، تكون بذلك قد تخلت عنهم!
مع استمرار الحكومة الحالية المتطرفة في عزل الناس من خلال سياساتها، فإن مفهوم “الجيش الشعبي” سوف يضعف وسوف يتم إبعاد جنود احتياط أكثر، كما كان الحال مع رائد الاحتياط، نير أفيشاي كوهين، الذي ظل نائب قائد الكتيبة و جندي احتياط لمدة 30-60 يوماً، وعاماً بعد عام، وحتى عام 2010 خدم في الأراضي الفلسطينية المحتلة في وقت كان يعد فيه ناشطاً سياسياً يسارياً، ودفع ثمناً لليسار بسبب التزامه بالجيش، لكن الأساس “الأخلاقي والأيديولوجي” لموقفه انهار في ظل الحكومة الحالية، حيث استقال حين جاء الأمر بالقضاء على بلدة حوارة الفلسطينية.
في مارس، أبلغ كوهين قادته بأنه سوف يغادر إذا تم تمرير التعديلات القضائية، ثم أخذ قراره النهائي بعد تمريرها بالفعل، يقول كوهين “كان هذا أصعب شيء اضطررت للقيام به، فلا سبيل للعودة، وقد نشرت موقفي على وسائل التواصل الاجتماعي فأدهشني مقدار الدعم واللعنات أيضاً”.
قيادة مضطربة
حتى الآن، ظلت القيادة العسكرية المضطربة حذرة في معالجة الظاهرة الناشئة، فوزير الدفاع، يوآف غالانت، الذي صوت لصالح مشروع القانون المثير للجدل، شجب تهديدات رفض الخدمة، فيما أصدر رئيس أركان الجيش، هيرزي هاليفي، تصريحات مغايرة وأكثر تصالحية مثل “جنود الاحتياط عزيزون علينا”.
يعتقد غالانت أن الضرر الناجم عن رفض الخدمة “محدود نسبياً”، لكنه قد يتفاقم بالمستقبل، وتتوقع القيادة العسكرية أن يتلاشى كل هذا بسلام أو أن يتم اختباره في حالة طوارئ أمنية،
هناك سحابة أخرى غير مرئية تخيم فوق رأس الجيش، وهي الخوف من المحكمة الجنائية الدولية في حال إضعاف النظام القضائي، ففي ظل محكمة إسرائيلية غير فعالة، قد تشعر المحكمة الجنائية الدولية أن لها الحق في التحقيق مع الجنود الإسرائيليين، والذين اتهموا منذ فترة بارتكاب جرائم حرب محتملة
أما من الزاوية الشخصية، فقد يشعر بعض الجنود بأن حكومتهم التي أعلنت أن التصويت الأخير كان مجرد “خطوة أولى”، تكون بذلك قد تخلت عنهم!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)