بقلم خافيير أبو عيد
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
في بلد لطالما كان من أكثر الداعمين الثابتين لحقوق الشعب الفلسطيني على الساحة الدولية، قد تُشكّل الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية في تشيلي، المقررة في 15 ديسمبر/كانون الأول، نقطة تحوّل فارقة بالنسبة لفلسطين.
المتنافسان في هذه الانتخابات هما خوسيه أنطونيو كاست، ممثل اليمين المتطرف، وجانيت خارا، مرشحة ائتلاف يساري-وسطي، وكل منهما يحمل رؤية معارضة للآخر جذريًا حول الكيفية التي ينبغي أن تُدار بها السياسة الخارجية لبلادهم.
وسوف يتوجه نحو 16 مليون ناخب إلى صناديق الاقتراع، مع ترجيح أن تُحسم أصواتهم بناءً على ملفات الأمن والهجرة والاقتصاد، غير أن تداعيات نتائج الانتخابات على الموقف من فلسطين قد تكون عميقة وغير مسبوقة.
تضم تشيلي أكبر جالية فلسطينية خارج العالم العربي، تُقدّر بنحو 500 ألف شخص حتى عام 2023، وقد شكّل حضور هذه الجالية رافعة تاريخية جعلت من تشيلي بلدًا صديقًا للقضية الفلسطينية.
غير أن انتخاب كاست قد يدفع البلاد إلى الانضمام إلى محور من قادة اليمين العالمي، مثل رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، ورئيس الأرجنتين المولع بدولة الاحتلال خافيير ميلي، ورئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو، ممن يقفون دائمًا ضد الحقوق الفلسطينية ويقوّضون الاتفاقيات الدولية ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة.
في 19 نوفمبر/تشرين الثاني، صوّتت الجمعية العامة للأمم المتحدة على تجديد ولاية وكالة “أونروا”، وقد عارضت عشرة دول فقط التمديد، بينها الأرجنتين والمجر وباراغواي والولايات المتحدة ودولة الاحتلال، وجميعها دول يقودها سياسيون ينتمون إلى المعسكر ذاته الذي ينتمي إليه كاست.
كما ظهر نمط مشابه في التصويت على قرار يؤكد حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، حيث صوتت الأرجنتين وباراغواي والولايات المتحدة ودولة الاحتلال ضد القرار، في حين امتنعت المجر عن التصويت.
السياسة متعددة الأطراف.. إرث إدارة بوريتش
في عهد الرئيس غابرييل بوريتش، رفعت تشيلي صوتها بقوة في المحافل الدولية دفاعًا عن الحق الفلسطيني غير القابل للتصرف في تقرير المصير.
واتخذت حكومته خطوات ملموسة ردًا على الإبادة الجماعية التي تنفذها دولة الاحتلال، من بينها سحب السفير والملحقين العسكريين من تل أبيب، والانضمام إلى دعوى جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية بشأن الإبادة، والدعوة لاتخاذ إجراءات من المحكمة الجنائية الدولية.
كما أدانت المرشحة اليسارية جانيت خارا علنًا “الإبادة” التي ترتكبها دولة الاحتلال، وطالبت بمزيد من إجراءات المساءلة.
ويعرّف برنامجها الانتخابي السياسة الخارجية التشيلية بأنها سياسة “تعزز السلام، والحلول السلمية للنزاعات، واحترام القانون الدولي، وتدافع عن الديمقراطية والمساواة بين الجنسين وحقوق الإنسان، وتؤكد الالتزام بالتعددية ومبدأ عدم التدخل وسيادة الدول”.
ومن المتوقع، بناءً على ذلك، أن يستمر النهج متعدد الأطراف الذي تبنته إدارة بوريتش في حال فوز خارا بالرئاسة.
أما كاست، فلا يتضمن برنامجه الانتخابي إشارات جوهرية إلى السياسة الخارجية، غير أن حملته السابقة تضمنت وعودًا صريحة بالانسحاب من مجلس حقوق الإنسان، وإعطاء الأولوية للقانون المحلي على المعاهدات الدولية، وإضعاف دور المؤسسات متعددة الأطراف، وخاصة الأمم المتحدة.
وخلال الإبادة الجارية في غزة، لم يُدن أي من مرشحي اليمين الثلاثة جرائم دولة الاحتلال، واكتفى كاست بالإشارة إلى الموضوع فقط لمهاجمة موقف الرئيس بوريتش الرافض للعدوان.
وفي الوقت ذاته، نُشرت وثيقة منسوبة إلى “الجالية اليهودية في تشيلي” تحث الناخبين بوضوح على اختيار كاست بدلًا من خارا.
ولم تنجح الحكومة الحالية حتى الآن في الوفاء بوعدين قطعهما بوريتش هما حظر منتجات المستوطنات على غرار القرارات التي اتخذتها أيرلندا وسلوفينيا والنرويج، والدفع نحو فرض حظر على توريد السلاح لدولة الاحتلال، ومن المتوقع أن تتخذ حكومة يمينية متطرفة الاتجاه المعاكس تمامًا.
مشهد جديد في تشيلي
منذ عام 1990، التزم جميع الرؤساء التشيليين بثوابت السياسة الخارجية القائمة على احترام القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة.
وفي عهد بوريتش، أصبحت تشيلي مرجعًا عالميًا في مواقفها تجاه عدد من الملفات، بينها القضية الفلسطينية، عبر تبنّي مواقف واضحة ترفض الانتهاكات في أوكرانيا وفنزويلا ونيكاراغوا وفلسطين.
إلا أن السجل التصويتي لحلفاء كاست من اليمين العالمي، من الأرجنتين إلى المجر، يشير إلى أن تعزيز القانون الدولي بما في ذلك الحقوق الفلسطينية غير القابلة للتصرف لن يكون على جدول أعماله إذا انتُخب رئيسًا.
ومنذ عام 1990 لم يسبق أن وصل مرشح مناهض بوضوح للنظام الدولي القائم على القواعد متعددة الأطراف إلى مثل هذا المستوى من الشعبية في تشيلي.
ويستمد كاست صعوده الانتخابي أساسًا من خطاب يشدد على الأمن الداخلي ومكافحة الفساد وترحيل المهاجرين.
وكاست هو ابنُ ناشط نازي ومعجبٌ بالدكتاتور التشيلي أوغستو بينوشيه، ولا تُعد القوانين الإنسانية الدولية ضمن أولوياته، تمامًا كما سحب أوربان بلاده من المحكمة الجنائية الدولية احتجاجًا على مذكرة التوقيف بحق نتنياهو، ويُدرج كاست في برنامجه رفض إعلاء القانون الدولي على التشريعات المحلية.
ويمثل كاست تيارًا سياسيًا يعارض منذ 1998 مبدأ الولاية القضائية العالمية، منذ لحظة اعتقال بينوشيه في لندن.
ورغم أن تعاطف السياسيين التشيليين مع فلسطين كان عبر العقود عابرًا لليمين واليسار، فإن كاست لا ينتمي إلى هذا التقليد.
ولا يبدو أن لجنة الصداقة البرلمانية التشيلية–الفلسطينية، وهي الأكبر في البرلمان، كان لها أي تأثير على موقفه.
ويبقى غير معلوم ما إذا كانت الجالية الفلسطينية الكبيرة في تشيلي ستنجح في التخفيف من تداعيات فوز محتمل لكاست.
ورغم العلاقة القريبة بين كاست ورئيس الأرجنتين ميلي، فإن تشيلي ليست نسخة أخرى من الأرجنتين، ففلسطين جزء حيّ من هوية المجتمع التشيلي، وغالبية السياسيين يدركون ذلك.
ومع ذلك، فإن التوجهات الأيديولوجية لكاست وحزبه الجمهوري تُنذر بمسار مختلف، خاصة في ظل ميل هذا التيار إلى رفض التفاوض في أي ملف.
نحو تحالف جديد مع دولة الاحتلال؟
في حال انتخابه رئيسًا، يُرجّح أن يسعى كاست لعكس جميع الإجراءات التي اتخذتها إدارة بوريتش بشأن دولة الاحتلال، وقد يعمد أيضًا إلى إحياء مشاريع مجمّدة مثل اتفاقية التجارة الحرة مع تل أبيب.
ورغم المعارضة الشعبية الواسعة للإبادة وللاحتلال، لم تُطرح السياسة الخارجية كقضية محورية في هذه الانتخابات، ما يعني أن كاست قد لا يدفع ثمنًا سياسيًا لانحيازه الصريح لحكومة الاحتلال.
ومجمل هذه التطورات قد يشير إلى بداية انتكاسة كبرى لفلسطين في أمريكا الجنوبية، فبينما يشهد الرأي العام العالمي حتى بعض الأوساط المحافظة في الولايات المتحدة تحولًا ملحوظًا ضد الاحتلال، تظل دول اليمين المتطرف مثل المجر والأرجنتين وباراغواي من أقرب حلفاء دولة الاحتلال على الساحة الدولية.
تبرز أهمية هذا التحالف بشكل خاص في الجهود الرامية إلى عرقلة المساءلة عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وقد تنضم تشيلي إلى هذه المجموعة قريبًا.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)







