بقلم قدير أوستون
تقف تركيا اليوم أمام تحدً تاريخي ربما هو الأصعب في تاريخها، بسبب الدمار غير المسبوق الذي خلفه الزلزال الهائل في 10 مدن جنوب شرقي تركيا، فمع استمرار ظهور المزيد من المشاهد المروعة في المناطق المتضررة، يتكشف حجم الخسارة الهائلة في الأرواح والذي قارب 50 ألفاً، إلى جانب آلاف المصابين والمباني التي لم تعد موجودة أو تضررت بشكل كبير، تاركة أكثر من مليون شخص بلا مأوى.
مما لا شك فيه أن الزلزال تسبب صدمة وطنية ستظل تلاحق المجتمع التركي لفترة طويلة، فالكل يقوم بأدوار بطولية من مؤسسات الدولة إلى منظمات المجتمع المدني وآلاف المتطوعين، ورغم أن ما حدث هذه المرة لا يشبه شيئاً مما شهدناه من زلزال سابقاً، إلا أن أهل هذا البلد مصممون على الصبر لتخطي الأزمة مهما استغرق ذلك من الوقت.
التقارير التلفزيونية ومنشورات التواصل الاجتماعي لا تستطيع إلا نقل جزء من التحديات الضخمة التي يحاول الشعب التركي التغلب عليها بشكل مستمر منذ وقوع الزلزال
كفاح تركيا للتعافي من آثار الزلزال ما زال في بدايته، وفي الوقت نفسه، تواجه البلاد مهمة ضخمة تتمثل في الاستعداد لكوارث مستقبلية، حيث تحتاج إلى وضع سياسة استعداد أكثر شمولاً، وتحسين لوائح البناء وتنفيذها بصرامة، فالانتعاش يستلزم وقتاً لكنه ضروري ولا يمكن تجنبه، لأن معظم المناطق التركية تقع على خطوط صدوع رئيسية، وفي ظل ذلك، يتوجب على أصدقاء تركيا وحلفائها المساعدة ولزمن طويل.
خلال زيارتي الأخيرة بعد الزلزال إلى كهرمان مرعش وهاتاي، أكثر المناطق تضرراً، شاهدت ما لا تسعني الكلمات لوصفه من حجم الدمار الهائل من جهة، ومن حجم الجهد الإغاثي المبذول ومرونته من جهة أخرى، فالتقارير التلفزيونية ومنشورات التواصل الاجتماعي لا تستطيع إلا نقل جزء من التحديات الضخمة التي يحاول الشعب التركي التغلب عليها بشكل مستمر منذ وقوع الزلزال، حيث تتكاتف جهود الدولة ومنظمات المجتمع المدني وفرق البحث والإنقاذ معاً وعلى مدار الساعة لتقديم الإغاثة، لا وقت لليأس أو التوقف، وبصفتي شخصاً تركياً أقول أن هذا التكاتف يعبر عن شخصية الأمة التركية في وقت المصاعب.
تنامي الجهود الإنسانية
أحد أكثر الزلازل شهرة في تركيا هو زلزال مدينة إزميت عام 1999، والذي غير تفكير الأتراك نحو الكوارث الوطنية وكيفية التعامل معها بشكل كبير، ففي ذلك الوقت، كانت قدرات البلد في البحث والإنقاذ والإغاثة محدودة أكثر من الآن، كما كانت تقنيات الاتصال أكثر بدائية.
منذ زلزال إزميت، قطعت تركيا شوطاً طويلاً في بناء قدراتها على الاستجابة لحالات الطوارئ وإدارة الكوارث، فأنشأت قوانين بناء جديدة لحماية المشاريع الجديدة ضد الزلازل، وتم تشييد عدد كبير من المباني لتتوافق مع التعليمات البرمجية، كما استثمرت الدولة في وكالة وطنية لإدارة الكوارث للتنسيق مع الحكومة في أوقات الطوارئ، وفي المقابل، استمر تشييد المباني المخالفة للمعايير على أراضٍ غير آمنة بسبب ضغط الظروف الاجتماعية والاقتصادية.
أما على الصعيد الخارجي، فقد تزايد حضور تركيا كلاعب إنساني رئيسي في الساحة الدولية، كما ساهم تدفق اللاجئين السوريين منذ عام 2011 إلى تسارع النمو في قدرة تركيا على التعامل مع حالات الإغاثة الإنسانية، حتى باتت تتصدر تركيا جهود المساعدات الإنسانية في مناطق كثيرة حول العالم، جهود تتشابك في الغالب مع مبادرات في السياسة الخارجية خاصة في مناطق مثل شمال إفريقيا وجنوب شرق آسيا، وخلال جائحة كوفيد-19، أصبحت تركيا مركزاً رئيسياً لتصنيع المعدات الطبية كما زودت دولاً عديدة بإمدادات حيوية.
ساهمت معاناة تركيا من الزلازل وحرائق الغابات والصراعات المجاورة، في دعم قدرتها على توفير الجهود الإنسانية داخل البلاد وخارجها، أما هذه المرة، فإن تركيا هي التي تحتاج المساعدة والدعم، فعلى الرغم من كل التحسينات المحلية للتعامل مع الكوارث، إلا أن حجم التحدي أكبر بكثير، وفي مراحل لاحقة، عليها بذل الجهد في ظل تحديات اجتماعية واقتصادية موجودة أصلاً، لمحاولة التعافي وإعادة الإعمار، فإعلان الحكومة عن خطط لإعادة بناء المنازل خلال عام، تحدٍ حقيقي يسابق الزمن، ولكنه لن يعالج المشكلة المستمرة في البحث عن سكن ميسور التكلفة بغض النظر عن المعايير!
تحديات غير مسبوقة
العامل السياسي سيلعب دوراً مهماً في إعادة بناء المناطق المتضررة هذه المرة، حيث تحاول المعارضة استغلال الأزمة لتقليل رصيد الحزب الحاكم، الأمر الذي بدأته باتهام الحكومة بعدم الاستجابة السريعة، ولكن الحقيقة أن الوصول إلى المناطق المتضررة في اليوم الأول كان صعباً بعد إغلاق الطرق بسبب الحطام ومحاولة المواطنين الهرب في سياراتهم، بالإضافة إلى الثلج والجليد الذي يزيد الأمر صعوبة، كما اتهمت المعارضة الحكومة بسوء توزيع الموارد قبل تقييم الوضع كاملاً، وهو أمر شكل تحدياً كبيراً بسبب الحاجة إلى مساعدة مدن كثيرة في وقت واحد، وفي بعض الحالات، أصبح موظفو الاستجابة لتلك الطوارئ أو المسؤولون المحليون في المناطق المنكوبة هم أنفسهم من ضحايا الزلزال!
إذا أردنا الحديث عن السبب الرئيسي وراء حجم الكارثة، فهو الانهيار المتسلسل لآلاف المباني سيئة التشييد و المخالفة لمعايير البناء، فذلك يمثل الفشل الجماعي في تمرير ثقافة بناء متهلهلة متراخية أوجدت هذه المخاطر في النظام، لا شك أن هذا الموضوع تحديداً سيكون من أهم محاور النقاش لفترة طويلة قادمة.
خلاصة القول أنه يجب على المجتمع الدولي دعم تركيا للتعافي وإعادة البناء في الأشهر والسنوات المقبلة، رداً لجميلها على أقل تقدير كجهة إنسانية فاعلة لسنوات عديدة، فمع امتنان تركيا الكبير للاستجابة الدولية القوية خلال الزلزال، إلا أن هذا الدعم يجب أن يكون مستمراً، لأن تركيا لا تحاول التعافي من هذا الزلزال فقط، وإنما عليها الاستعداد لمواجهة كوارث مستقبلية أكثر ما يعطي الأمل في مواجهتها تكاتف الشعب التركي وتعاطفه في هذه الكارثة.
للإطلاع على المادة الأصلية من (هنا)