تعذيب الأسرى الفلسطينيين يكشف انحدار منظومة الاحتلال وسقوط ادعاءاته الأخلاقية

بقلم إيميل الكالاي

ترجمة وتحرير نجاح خاطر 

في ظل الخسائر الفادحة والدمار وغياب اليقين، يسعى الغرب بقيادة الولايات المتحدة جاهدًا لإنعاش دولة الاحتلال التي تعيش في حالة يرثى لها.

إذ تواصل دولة الاحتلال إبادة الشعب الفلسطيني في غزة بوسائل أخرى، بينما تُقسّم أراضي الضفة الغربية وتستولي على المزيد منها، مُتحديةً كل قانون أو اتفاقية دولية معروفة مع إفلات تام من العقاب.

ويُوفّر ما يُسمى بـ”وقف إطلاق النار” غطاءً، لكن هول ما حدث وما زال يحدث مُريع فعلاً، فبينما يُصاب الإسرائيليون بالصدمة جراء تأخير تسليم ما يصل إلى اثنتي عشرة جثة بعد رفض حكومتهم الموافقة على دخول معدات ثقيلة إلى غزة، يُقيم الفلسطينيون مراسم دفن جماعية لجثث مجهولة الهوية أعادتها لهم دولة الاحتلال.

وكأسلوب يهدف لإثارة المزيد من الرعب، حملت الجثث علامات واضحة على التعذيب والإعدام بإجراءات موجزة، حيث بُترت الأصابع، وأُزيلت الأعضاء، وقُيّدت الأيدي خلف ظهور الشهداء، بينما تُواصل دولة الاحتلال منع دخول أدوات فحص الحمض النووي التي قد تُمكّن العائلات من التعرف على جثث أقاربهم المُشوّهة.

في رائعته المنشورة عام 1950، بعنوان “خطاب حول الاستعمار”، يستدعي الشاعر والسياسي المارتينيكي إيمي سيزير، من بين جميع الناس، الفيلسوف الفرنسي ديكارت، الذي يؤكد “ميثاق العالمية، بأن “العقل موجود بكامله في كل إنسان”، أي أنه لا يمكن في هذا السياق تقسيم البشر على أساس العرق أو الإثنية.

ما نشهده في غزة هو محاولة للعبث بجوهر الحالة الإنسانية لتفكيك عالميتها من خلال الدعاية الجماهيرية وتشويه عمليات التفكير التي من شأنها، في ظل ظروف مختلفة، أن تدرك فورًا الانحراف والظلم المطبقين فيما يُعرض.

إن التفاوت الشديد وعدم التناسب في ردود فعل الاحتلال على المقاومة الفلسطينية، وعلى الحياة الفلسطينية نفسها، لطالما كانا لا يُسببان أكبر قدر ممكن من الرعب والدمار فحسب، بل كانا أيضًا أدوات أساسية لتطبيع الانتهاك المنهجي لكل اتفاقية قانونية معروفة مع إفلات تام من العقاب.

وهنا فإن استخدام القوة الساحقة يهدف إلى تبرير الموقف وتصوير العدو كـ”إرهابي” يجب مواجهته بكل سلاح متاح، مع أن هذا “العدو” مدني بالكامل تقريبًا، والأطفال تحديدًا أهداف رئيسية ومتعمدة.

أما المقاتلون الفلسطينيون الفعليون والذين يصل عددهم  نحو 30 ألف مقاتل فهم يواجهون من خلال وحدات حرب عصابات مسلحة بأسلحة خفيفة وصواريخ وذخائر غير منفجرة يعاد استخدامها قوة نووية ذات جيش نظامي قوامه مئات الآلاف، بالإضافة إلى سلاحين جوي وبحري، وبدعم من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وحلفاء آخرين.

وبالمثل، فإن الطبيعة غير المتكافئة لهذه “الحرب” تجعل التناقض بين الجانبين في معاملتهما للأسرى أكثر وضوحًا.

ورغم ادعاء التفوق الأخلاقي من قبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو في البرلمان الإسرائيلي المبني على أنقاض الفلسطينيين، إلا أنه يجدر بنا أن نتذكر أن الأسرى الذين أُعيدوا إلى إسرائيل كانوا جميعًا جنودًا إسرائيليين ذكورًا، تعتبرهم المقاومة الفلسطينية أسرى حرب. 

حتى في ظل حملة القصف الإسرائيلي المتواصلة وغير المسبوقة، والحصار الشامل على الغذاء والدواء والمساعدات الإنسانية، بدا أن هؤلاء الأسرى قد عوملوا بأفضل ما يمكن في ظل هذه الظروف.

في المقابل، يبدو أن الأسرى الفلسطينيين المدنيين العائدين إلى غزة والضفة الغربية، أو المجبرين على النفي كما هو الحال دائمًا في هذه التبادلات قد زاروا أماكن لا يمكن وصفها بالكلمات، وعندما سأل مراسل الجزيرة، عن شعورهم، أجاب أحدهم ببساطة: “جحيم”.

يروي العائدون الفلسطينيون أسماء من قضوا نحبهم، أو تعرضوا للتعذيب حتى الموت، أو تُركوا ليموتوا جوعاً.

ويشارك المحررون النشر حول وصف المحققين لكيفية قتل زوجاتهم وأطفالهم وآبائهم، ليكتشفوا بعد إطلاق سراحهم أن أحباءهم ما زالوا على قيد الحياة، وفي غضون ذلك، يكتشف آخرون أن عائلاتهم قُتلت جميعها، ولم يبقَ لهم ما يعودون إليه.

تذكرنا أسماءً مثل تازمامارت وتدمر وأبو غريب بذكريات التعذيب والاختفاء والقمع الحكومي الجامح في المغرب وسوريا والعراق على التوالي، لكن نظام السجون الإسرائيلي لم يُكشف عنه ولم يُوثّق بالكامل بعد. 

وعندما يحدث ذلك، ومع المزيد من الروايات من أماكن مثل سدي تيمان وكتسيعوت والمسكوبية، ستُسجل أعماقٌ سحيقة من القسوة والتعذيب والحرب النفسية المنهجية في سجلات الظلم الإنساني.

وعلى الرغم من أن الهدف المُعلن في البداية لعملية طوفان الأقصى كان مهاجمة القواعد الإسرائيلية واحتجاز الأسرى في صفقة تبادل، إلا أن حجم رد الاحتلال على مدار العامين الماضيين من الإبادة الجماعية المُبثة مباشرةً والدمار الشامل جعل ممارسات الاحتلال في اختطاف المدنيين واحتجازهم لأجل غير مسمى دون محاكمة شبه غائبة عن الأنظار، على الرغم من أنها ممارسة يومية مُمنهجة، ودائمة الجاهزية للتبادل المُحتمل مع المقاومة الفلسطينية.

سيطرة كاملة

يُعتبر نظام السجون في دولة الاحتلال، بمحاكمه العسكرية، واحتجازه دون تهمة، وانعدام أي سبيل للاستئناف، وظروفه التي تشمل التعذيب الروتيني الجسدي والنفسي على حد سواء والاعتداء الجنسي المنهجي، والانعدام التام للرعاية الطبية، ونقص التغذية، وجميع أشكال الممارسات غير القانونية الأخرى، جوهريًا لاستعمار إسرائيل لفلسطين، وهو أمر صادم للغاية في تطبيعه.

وإلى جانب مصادرة الأراضي والاستيطان لخلق وقائع على الأرض، اضطلع النظام العقابي والقانوني، الذي جعل من جوانب الحياة الفلسطينية “غير قانونية” بشكل متزايد، بدورٍ متزايد الأهمية في الحملات الإرهابية الإسرائيلية ضد حياة الفلسطينيين.

وكما تروي سارة روي، الباحثة في جامعة هارفارد، في رسالة من صديقة لها في غزة: “لو استطاعوا أن يسلبوا منا الهواء، لفعلوا”.

وكمحاسبي البؤس والموت، يُركز نظام دولة الاحتلال دومًا على الربح، فبينما يختطف الأطباء والممرضين وغيرهم من العاملين في المجال الطبي، ويرفض منح تأشيرات دخول للعاملين الصحيين الزائرين، ويمنع دخول الأدوية والمعدات الطبية، يُصاب المزيد من الفلسطينيين بالعجز أو يموتون.

وبالمثل، دأب هؤلاء الإسرائيليون، الذين يُحددون مصير الحياة والموت، منذ فرض الحصار على غزة عام 2007، على قياس السعرات الحرارية التي يتناولها الفلسطينيون واضعين حدًا أعلى بقليل من سوء التغذية، استعدادًا لمجاعة قادمة، إن سنحت الفرصة.

تُجرى مثل هذه الحسابات في كل حالة من حالات السيطرة الكاملة على حياة الفلسطينيين وحركتهم.

تواطؤ عالمي

لا يمكن لأي من آليات الهيمنة الإسرائيلية أن تعمل دون مشاركة مئات الآلاف من الإسرائيليين من جميع شرائح المجتمع.

ويشمل ذلك المجندين في قوات الاحتلال، والعاملين في المجال الصحي، والأكاديميين، والإعلاميين، ومشغلي الآليات الثقيلة المتعاقدين لتدمير الأحياء والمؤسسات والطرق والبنية التحتية في غزة والضفة الغربية.

يجب الاستفادة من الزخم الذي شهده الإضراب العام في إيطاليا، والاعتقالات الجماعية في المملكة المتحدة، وسباق رئاسة بلدية نيويورك المحموم، لبناء تحالفات جديدة

وينطبق الأمر نفسه على شركاء إسرائيل الخارجيين وفي مقدمتهم الولايات المتحدة، وكذلك المملكة المتحدة وألمانيا والإمارات العربية المتحدة ودول أخرى عديدة الذين يُديم تواطؤهم آلية الإبادة الجماعية التي تتبعها.

يجب البناء على الزخم الذي شهدناه في الإضراب العام الإيطالي، والاعتقالات الجماعية في المملكة المتحدة تضامنًا مع حركة فلسطين آكشن، وسباق رئاسة بلدية نيويورك المحموم، بشكل منهجي: من خلال بناء تحالفات جديدة، وإنشاء المزيد من المنظمات، والعمل بشكل فردي أو جماعي لمواجهة المؤسسات المتواطئة، وتعطيل العمل كالمعتاد، وإيجاد كل السبل الممكنة لتقديم مجرمي الحرب إلى العدالة.

وغني عن القول، إن البديل هو عالم تختبر فيه الحكومات الوضع الراهن من خلال التصرف بإفلات متزايد من العقاب، مما يُنذر بانهيار كامل حتى لأبسط الحواجز التي قد توفرها المواطنة في أي مكان.

إن استمرار إنعاش المجتمع الإسرائيلي وإعادة تأهيله، باعتباره رأس حربة الإمبراطورية الأمريكية، لن يؤدي إلا إلى خنقنا أكثر، ويجب بذل كل جهد ممكن للحفاظ على تدفق أكسجين الحرية.

للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة