تفكيك نظام الفصل العنصري شرط أساسي لإنهاء الجرائم بحق الفلسطينيين

بقلم عبد أبو شحادة

ترجمة وتحرير نجاح خاطر

بعد أكثر من 600 يوم على ما يسميه الكثيرون الآن “حرب الإبادة الجماعية” في غزة، بدأت الأصوات بما فيها تلك التي كانت تصطف تقليديًا إلى جانب دولة الاحتلال، في التشكيك في دوافعها وأفعالها، بل إن البعض بدأ باستخدام مصطلح “الإبادة الجماعية” نفسه لوصف ما يجري.

غير أن حصر الحديث في غزة وحدها يحجب الحقيقة الأخطر، وهي أن ما يحدث هناك ليس معزولًا، بل جزء من استراتيجية أوسع وأقدم، تستهدف الفلسطينيين في كل أماكن وجودهم، من الضفة الغربية المحتلة والقدس الشرقية، إلى داخل حدود الأرض المحتلة ما قبل عام 1967.

وإذا أردنا مواجهة الإبادة الجماعية بفعالية، فلا يكفي الاكتفاء بإدانة القصف والموت الجماعي في غزة، بل يجب رفض كل أشكال التجريد من الإنسانية والتمييز الممنهج الذي تمارسه دولة الاحتلال بحق الفلسطينيين، سواء عبر التشريعات أو السياسات أو أدوات السيطرة اليومية.

لقد تأخرت شخصيات ومؤسسات غربية كبرى، مثل الإعلامي بيرس مورغان والمتحدث باسم البيت الأبيض ماثيو ميلر، في انتقاد سلوك جيش الاحتلال، رغم أن منصاتهم ساهمت طوال أشهر في تبرير هذا السلوك وتوفير الغطاء له. 

هذا التأخر في الإدانة يكشف عن افتراض راسخ بعمق في الوعي الغربي بأن دولة الاحتلال “على حق حتى تثبت إدانتها”، بينما الفلسطيني “على خطأ حتى يثبت براءته”.

وفي الواقع فإن هذا التفاوت الأخلاقي ينبع من امتيازات استعمارية راسخة، ومن السيطرة شبه المطلقة التي تفرضها دولة الاحتلال على كل تفصيل في حياة الفلسطينيين من النهر إلى البحر، وهذه السيطرة لا تقتصر على الجغرافيا، بل تمتد إلى السياسة والاقتصاد والهوية الوطنية، وتُمارَس بطريقة تُعيد تشكيل المجتمعات الفلسطينية لتخدم المصالح الاستعمارية لدولة الاحتلال.

إعادة النظر في البدايات: كيف صُمّم الحصار؟

لم يكن مصطلح “قطاع غزة” موجودًا قبل نكبة عام 1948، فقد كانت هناك “مقاطعة غزة” التي امتدت على نحو 1196 كيلومترًا مربعًا، و تقلصت بعد النكبة إلى 365 كيلومترًا مربعًا فقط، ومنذ ذلك الحين، صار الحصار والمجاعات الدورية والحرمان المدروس أدوات لإخضاع الفلسطينيين.

وقبل عام 1948، كان في غزة نحو 150 ألف فلسطيني، لكن العدد ارتفع بعد النكبة إلى 280 ألفًا، ثلثهم فقط من السكان الأصليين، بينما يشكل اللاجئون النازحون من المجازر بقية العدد. 

وبالنسبة لدولة الاحتلال، مثلت غزة تعبيرًا عمليًا عن معادلة استعمارية قوامها “أصغر أرض لأكبر عدد من العرب”، مقابل “أكثر أرض لأقل عدد من اليهود”.

وبعد اتفاقيات أوسلو، تحولت غزة إلى سجن محكم، بالكاد تسمح فيه دولة الاحتلال بدخول السعرات الحرارية التي تبقي السكان على قيد الحياة، فأصبحت المياه والكهرباء والتنقل تحت رقابة أمنية دقيقة. 

ومن عام 2008 وحتى أواخر 2023، شن جيش الاحتلال أربع هجمات كبرى قتلت أكثر من 6300 فلسطيني في غزة، دون أن يُحاسب أي مسؤول سياسي أو عسكري على ذلك.

استمرار الاحتلال وتمدد القوانين العنصرية: غزة ليست استثناءً بل جزء من نظام الفصل

وفي ذات الوقت الذي تواصل فيه آلة الحرب تدمير غزة، تتوسع دولة الاحتلال في سن القوانين والسياسات التي تهدف إلى ترسيخ نظام الفصل العنصري ضد الفلسطينيين في كل مكان. 

ففي العقود الأخيرة، أصدر الكنيست سلسلة من التشريعات التي تقوض الحقوق المدنية للفلسطينيين داخل الدولة العبرية مثل قانون النكبة الذي يسمح بقطع التمويل عن المؤسسات التي تخلد ذكرى النكبة، وقانون كامينيتس الذي يبرر هدم المنازل الفلسطينية، وقانون الدولة القومية الذي يعلن العبرية اللغة الرسمية الوحيدة ويقلص من مكانة اللغة العربية، ويمنح المستوطنات اليهودية حصراً دعم الدولة.

لا تكتفي هذه القوانين بتقويض الحقوق، بل ترسخ هرمية عنصرية تمنح الأفضلية لحياة اليهود على حياة الفلسطينيين، وتفرض عقوبات جماعية على الفلسطينيين بتهمة “التعاطف مع المقاومة” أو عبر ترحيل عائلات “الإرهابيين” المزعومين دون محاكمة عادلة.

وعلى الأرض، شهدت الضفة الغربية المحتلة خلال الفترة الأخيرة تصاعدًا في عمليات الاعتقال والهدم والإعدامات الميدانية. 

فقد قتل جيش الاحتلال ما يقرب من 900 فلسطيني واعتقل أكثر من 14 ألفًا، بينهم أعداد كبيرة من المعتقلين الإداريين، إضافة إلى هدم 227 منزلًا في القدس الشرقية ومدن فلسطينية أخرى بذريعة مخالفات البناء. 

وفي منطقة النقب، أعادت دولة الاحتلال تنفيذ خطة “موكديم” التي تهدف إلى تجميع البدو قسرًا في بلدات معترف بها، مع هدم “القرى غير المعترف بها”، وهو مخطط يهدد حياة عشرات الآلاف من المواطنين الفلسطينيين.

تندرج هذه السياسات تحت مسمى “تطوير وتنمية” لكنها في واقع الأمر محاولة ممنهجة لاقتلاع الفلسطينيين من أراضيهم وتجريدهم من حقوقهم، وبناء مستوطنات وتوسيعها بشكل مستمر في الضفة الغربية والقدس الشرقية، حيث ارتفع عدد المستوطنين من 250 ألفًا إلى نصف مليون، دون حساب المستوطنين في القدس المحتلة، فيما توسعت مساحة الأراضي المصادرة بشكل غير مسبوق.

إن ما يحصل اليوم ليس رد فعل عشوائيًا على أحداث 7 أكتوبر 2023، بل هو استمرار لحملة طويلة الأمد هدفها تفكيك الهوية الوطنية الفلسطينية وتجريد شعب بأكمله من حقوقه ومكانته. 

وقد كان للإعلام والسياسة الغربية دور كبير في تكييف الرأي العام العالمي لتبني الرواية التي تصف دولة الاحتلال بأنها ضحية، بينما الفلسطينيون هم المعتدون.

بعد قرابة عامين من المشاهد اليومية للدمار في غزة، بدأ العالم يتغير في مواقفه، لكنه لا يزال يرى غزة على أنها “خلل” في النظام، بينما هي في الحقيقة نموذج صارخ لسياسة الاحتلال التي ترى في التدمير وسيلة لتحقيق أهدافها.

فالإبادة الجماعية التي تمارسها دولة الاحتلال في غزة ليست حالة استثنائية بل هي تجسيد واضح لنظام فصل عنصري قائم على العنف والتجريد والتدمير المنهجي، وحتى اليوم، لم تظهر مؤشرات حقيقية على محاسبة قادة الاحتلال الذين يخططون ويديرون هذه الحروب

ورغم تزايد الوعي والتنديد، تحاول بعض القوى السياسية في دولة الاحتلال وحلفاؤها الدوليون تخفيف الأضرار عبر إطلاق وعود كاذبة بـ “عملية سلام” جديدة، مثل ما يُشاع عن “أوسلو 2.0” التي ستهدف في النهاية إلى تكريس الاحتلال والهيمنة بعد إبادة جماعية منظمة.

وهذه الاستراتيجية تعني أن الكارثة الفلسطينية القادمة ما هي إلا مسألة وقت، لأن النظام برمته قائم على فرض هيمنة مستمرة لا يمكن كسرها إلا بتفكيك بنيته القانونية والسياسية والاجتماعية.

لذلك، فإن المقاومة الحقيقية لإنهاء هذه المأساة تبدأ بمواجهة نظام الاحتلال كاملاً، وليس فقط بالمناداة بإنهاء حصار غزة، ولا يمكن أن ينتهي هذا العنف إلا بحل جذري يتمثل في تفكيك نظام الفصل العنصري الذي يكرس التمييز والاحتلال.

للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة