بقلم ديفيد هيرست
ترجمة وتحرير مريم الحمد
أحد التساؤلات التي حيرتني مؤخراً هي حول البهجة الجامحة التي تلقت بها أوروبا والولايات المتحدة خبر التمرد المسلح الذي قام به رئيس فاغنر، يفغيني بريغوجين، إلى أي جانب يتحيزون؟ ومن أين تتجذر تلك البهجة؟! هل من أن الضربة كانت موجهة للقيصر الذي غزا أوكرانيا؟ أم أنه الملياردير الذي قام مرتزقته بخلق البلبلة في سوريا وليبيا وأفريقيا الوسطى ومالي؟ أم أنهم يريدون حرباً أهلية تفكك الاتحاد الروسي؟
هناك ايضاً خيار رابع أعتقد بشدة أنه لا يمكن أن يحصل خلال جيل واحد على الأقل، وهو أن يتم استبدال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بمحاكاة أخرى لرئيس بنموذج بوريس يلتسين، مثل أليكسي نافالني المسجون مثلاً، فقد كان الدعم الغربي ليلتسين وانهيار روسيا تحت قيادته السبب الرئيسي لصعود بوتين، ومن الحقائق المنسية أن بوتين كان عين يلتسين في وقت اهتزت فيه روسيا تحت حكم القلة المتحاربة.
نشرت صحيفة النيويورك تايمز تسريباً عن مصادر استخباراتية أمريكية أن بريغوجين كان يحظى بدعم من داخل الجيش أكثر مما يدعيه بوتين الآن، فالجنرال سيرجي سوروفيكين، الذي يعرف باسم “جزار سوريا”، كان لديه معرفة سابقة بالتمرد، وتم احتجازه منذ ذلك الحين، فيما بريغوجين ما زال حراً!
آخر مرة اندلع فيها نزاع مسلح في شوارع موسكو كان عام 1993، وتم تسميتها بالأزمة الدستورية بين هيئة مخلفات الاتحاد السوفيتي ومجلس الشعب والرئاسة، ومع ذلك تم حلها بنيران دبابة، فقد امر يلتسين بإطلاق النار على البيت الأبيض الروسي، وعندما واجه صعوبة في العثور على دبابات للقيام بذلك، بسبب تردد أطقمها في إطلاق النار على الروس ورفض البرلمانيين لمغادرة غرفهم، استعان بقناصة من الحرس الرئاسي لإطلاق النار.
قوة بوتين
بعد الانتهاء من كل شيء وتحول البيت الأبيض إلى قذيفة محترقة، كان عدد الجثث التي تم نقلها من المبنى يفوق العدد الذي تم الاعتراف به رسمياً، وقامت مجلة الإيكونومست يومها بنشر غلاف بعنوان “شر لابد منه” تعليقاً على الأحداث، التي على إثرها تم نقل جميع السلطات التنفيذية إلى الرئاسة وإنشاء برلمان جديد أكثر ضعفاً بموجب دستور جديد.
كانت هذه التغييرات هي الحجر الأساس في قبضة بوتين على جميع السلطات حتى اليوم، وعندما تم انتقادها لأول مرة، لم يتردد الغرب في الدفاع عن النقد، كما فعل مع كل ما حدث في ظل رئاسة يلتسين، الذي كان، بحسب حارسه الشخصي السابق ألكسندر كورجاكوف، مكتئباً حتى أنه حاول الانتحار.
الخوف من الحرب الأهلية له جذور عميقة في روسيا، خاصة مع وجود احتمال تفكك الاتحاد الروسي دائماً على جدول أعمال اليمين المحافظ من جهة، واتفاق الآراء الأمريكية والبولندية والأوكرانية على وجوب “تقليص حجم روسيا” بعد انتهاء الحرب، وهو أمر ينعكس في آراء جنرالات الناتو الذين يقولون أن القوات الروسية لا يجب أن ترجع قوية بما يكفي للقيام بمغامرة أخرى على نطاق حربها على أوكرانيا.
أما البنتاغون فإن مواقفه تتأرجح بين البراغماتية والتطرف، فقد أدرك مخاطر الحرب الأهلية بعد تمرد قوات فاغنر قبل أيام وما كان يمكن أن يحدث للقيادة والسيطرة على المخزون النووي الروسي الضخم، حتى أن واشنطن سارعت بإرسال رسالة إلى بوتين مفادها أنه لا علاقة لها بتحركات بريغوجين، بهدف خفض التصعيد.
السؤال هل له نجحت قوات فاغنر في التمرد، هل كان ذلك سوف يعني نهاية الحرب في أوكرانيا؟! لا أعتقد ذلك، بل كان بريغوجين سيحظى بمباركة القوميين المتطرفين، لأنه لن يخشى استخدام الأسلحة النووية التكتيكية في الحرب!
قامت واشنطن أيضاً بنصيحة أوكرانيا بعدم شن غارات سرية على روسيا أثناء التمرد، ولكن بعد ذلك، نشرت صحيفة النيويورك تايمز تسريباً عن مصادر استخباراتية أمريكية أن بريغوجين كان يحظى بدعم من داخل الجيش أكثر مما يدعيه بوتين الآن، فالجنرال سيرجي سوروفيكين، الذي يعرف باسم “جزار سوريا”، كان لديه معرفة سابقة بالتمرد، وتم احتجازه منذ ذلك الحين، فيما بريغوجين ما زال حراً!
“درس متقدم”
من الصعب الدفاع عن قضية بريغوجين، فهو مدان سابق وبائع نقانق وطاهي طعام ملياردير تحول إلى رئيس جيش خاص ذو امتداد عالمي، ويشكل حالة نموذجية نحو الثراء الفاحش الذي تسبب في انهيار الاتحاد السوفيتي، فلو كنا في القرن 19، لكان بريغوجين فلاحاً بسيطاً محتقر ومبجل بنفس القدر من قبل النخبة الحضرية المتعلمة الناطقة باللغة الفرنسية في روسيا.
عقب التمرد الأخير، كانت تصرفاته الغريبة جاذبة للجمهور الغربي، فقد أحرج بقوات فاغنر الجيش النظامي، حتى قال أن قواته أعطت الجيش النظامي “درساً متقدماً”، فقد استطاعوا الاستيلاء على القيادة المركزية للجهود الحربية الروسية في أوكرانيا، منطقة روستوف أون دون، حيث استقبلهم السكان المحليون كأبطال أو كما قال بريغوجين “المدنيون قابلونا بالأعلام الروسية ورموز فاغنر”.
بالتأكيد، لقد تسبب بريغوجين في إحراج بوتين في مناقضته للغزو الروسي على أوكرانيا، فقد صرح برأيه معتبراً أن الحرب لا علاقة لها بالتهديد الوجودي للدولة الروسية، وأن الجهود الحربية الروسية تفقد إلى الكفاءة، ولكن السؤال هل له نجحت قوات فاغنر في التمرد، هل كان ذلك سوف يعني نهاية الحرب في أوكرانيا؟! لا أعتقد ذلك، بل كان بريغوجين سيحظى بمباركة القوميين المتطرفين، لأنه لن يخشى استخدام الأسلحة النووية التكتيكية في الحرب!
الأجندة الروسية
فلنعد إلى بوتين، الذي لا يمثل نقطة ثابتة في الرهانات الأيديولوجية، فقد تحول من الموالين ليلتسين وحريص على التواصل مع الغرب، إلى قومي ساخط يحن إلى أمجاد إمبراطورية روسيا المفقودة منذ القرن 18.
خلال سنواته الطويلة، حظي بوتين بدعم عدد من السياسيين والمحللين الذين كانت لهم وجهات نظر متطرفة نحو الغرب في التسعينات، فقد باعوا أنفسهم جسداً وروحاً لبوتين، ومن أشهرهم دميتري ميدفيديف، ولكن لم يكن ميدفيديف ليقول أنه لا توجد حدود أخلاقية لمنع موسكو من تدمير الكابلات البحرية في أي وقت مضى عندما كان رئيساً، بل على العكس، فقد كان المتطرفون الروسيون يرونه موالياً للغرب بشكل مريب!
بسبب تأثير ميدفيديف، امتنعت روسيا عن التصويت على قرار الأمم المتحدة الذي مهد الطريق لغزو ليبيا وإسقاط معمر القذافي، وهي خطوة انتقدها المتشددون، فهذه الكارثة هي التي أسست لخطط روسيا للعودة إلى الشرق الأوسط عن طريق التدخل في سوريا.
في مقال موجه إلى الجمهور الغربي، أشار السياسي الروسي ورئيس مجلس السياسة الخارجية والدفاع، سيرجي كاراجانوف، إلى أنه فقط من خلال كسر إرادة الغرب في الحفاظ على “نظامه الدمية” في كييف، يمكن لروسيا “أن تحرر نفسها من ظلم استمر 5 قرون”، وأنه “من خلال تخلي الغرب عن سعيه للهيمنة، ستحصل الإنسانية على فرصة جديدة للتنمية” على حد تعبيره.
وأضاف كاراجانوف أن الحرب في أوكرانيا سوف تستمر لسنوات دون حسم ما لم يتم كسر الإرادة الغربية، ولذلك “من الضروري إقناع الغرب بأن محاولاته في استنزاف روسيا من خلال تسليح الأوكرانيين سوف يؤدي إلى نتائج عكسية بالنسبة للغرب نفسه، علينا أن نجعل الردع النووي حجة مقنعة مرة أخرى عن طريق خفض عتبة استخدام الأسلحة النووية”.
ضربة استباقية
كاراجانوف ليس غريباً عن هذا الموضوع، فقد درس الاستراتيجية النووية لفترة طويلة من حياته، وقد تم اتخاذ الخطوة الأولى بالفعل بإشرافه عن طريق نقل قوات الصواريخ الاستراتيجية إلى بيلاروسيا.
وصل الأمر بكاراجانوف أن صرح بأن الأمور قد تصل إلى النقطة التي تنصح فيها موسكو الروس بمغادرة العواصم الغربية “التي قد تصبح أهدافاً لضربات في البلدان التي تقدم دعماً مباشراً لكييف”، وأضاف “يجب أن يعلم العدو أننا مستعدون لتوجيه ضربة استباقية رداً على جميع أعماله العدوانية”.
هل هذا التصريح مجرد كلام مزايدة؟ أم أن بوتين قد يفعل ذلك بالفعل؟ لا أحد يعلم ذلك سوى بوتين نفسه، وهو أمر أدى في النهاية إلى هجوم مضاد في أوكرانيا.
قبل الهجوم المضاد بفترة وجيزة، زار دبلوماسي بريطاني أنقرة من أجل استطلاع التوجه التركي، فبدا متفائلاً وأشار إلى أن الروس بدأوا بالخسارة كما أن ذخيرتهم قد نفدت، وأن هناك إحباطاً على الجانب الروسي، وفي الوقت ذاته، فإن الأوكرانيين بدأوا يشكلون “هدفاً حقيقياً” عبر الهجوم المضاد.
مستنقع أوكرانيا
انعكست تصريحات الدبلوماسي البريطاني على تقييمات متفائلة قدمها عدد من المعلقين العسكريين، فقد أشار القائد السابق لفوج الدبابات الملكية الأول، هاميش دي بريتون جوردون، إلى أن الدفاعات الروسية لن تكون أكثر من “مطب سريع” في الطريق إلى أوكرانيا.
بالنسبة لتغيير النظام في موسكو، فعلى واشنطن وأوروبا توخي الحذر فيما يتمنونه!
أما على الأرض، فقد صرح وزير الدفاع الأوكراني، أوليكسي ريزنيكوف، لصحيفة فايننشال تايمز أن الحدث الرئيسي لم يحدث بعد، وذلك تعقيباً على التقدم الأوكراني الذي لم يتجاوز مئات من الأمتار بعد.
خيارات الحرب في أوكرانيا كلها سيئة، فإن كان قومي متطرف مثل بريغوجين سيصل إلى السلطة في الكرملين، فإن ذلك سيكون كارثة للمنطقة، ليست كبيرة بحجم تفكك الاتحاد السوفيتي، وإذا ما صمدت الخطوط الروسية مع بداية الشتاء، حتماً سنشهد حججاً غربية في ألمانيا وفرنسا وواشنطن حول الحكمة من استمرار الحرب إلى عام ثالث.
بحلول ذلك الوقت، ربما يكون بوتين قد أصبح في وضع أقوى مما هو عليه اليوم، وينتج كميات أكبر من الذخيرة بسعر أرخص من الغرب، مما يعني موقفاً أقوى على طاولة المفاوضات، المكان الوحيد الذي سوف ينتهي فيه الصراع في أوكرانيا.
أما إذا تمكنت القوات الأوكرانية من اختراق الخطوط الروسية والاقتراب من شبه جزيرة القرم، فعلينا وقتها الدعاء من أجل ألا يأخذ بوتين بحل كاراجانوف، وبالنسبة لتغيير النظام في موسكو، فعلى واشنطن وأوروبا توخي الحذر فيما يتمنونه!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)