بقلم ديفيد هيرست
ترجمة وتحرير مريم الحمد
في عام 1972، اعتُبرت صورة التقطت آنذاك لفتاة تبلغ من العمر 11 عاماً تجري عارية على أحد الطرق في فيتنام رغم إصابتها بحروق، صادمة لدرجة أنها فازت بجائزة بوليتزر، حتى أصبحت تلك الصورة الأيقونية رمزاً لما أطلق عليه “رعب الحرب” في فيتنام.
أما اليوم، فهناك الكثير من اللقطات من غزة ولبنان، لأشخاص يحترقون وخيام تحترق وجثث متراكمة في شوارع مخيم جباليا للاجئين وناجون يغطيهم الغبار وهم يخرجون من تحت الأنقاض مع جثث أطفالهم الصغار في بيوتهم.
لم يفكر أحد في نشر أي من تلك اللقطات الكثيرة أو إعطائها جائزة، فصور “رعب الحرب” التي ترتكبها إسرائيل في غزة أو لبنان لا تعترف بها جائزة بوليتزر، كما أنها لا تثير بيانات إدانة أو اشمئزاز من قبل رؤساء الولايات المتحدة أو رؤساء الوزراء البريطانيين.
“كان القصف مختلفاً عما شهدناه سابقاً، فصوت التفجير مرتفع للغاية، كما لم نشهده من قبل، ورغم ذلك، فإن الناس خاصة في جباليا لم يتزحزحوا من منازلهم، فهم يقولون أن الموت في شوارعهم أفضل من الموت في الجنوب الذي يقول أهله أن الحياة في الجنوب لا تطاق وأصعب بكثير مما هي عليه في الشمال في الخيام والذل” – صحفي من شمال غزة
علاوة على ذلك، فإن المحررين في غرف الأخبار ووسائل الإعلام خائفون للغاية، فمجرد الإشارة إلى أن إسرائيل تقتل الأطفال عمداً في غزة هي بمثابة “فرية دموية” تذكر الروائي البريطاني هوارد جاكوبسون بالمذابح التي تعرض لها اليهود في إنجلترا في القرن 13، والتي تسبب بها شائعات بأن اليهود كانوا يأكلون بقايا الأطفال المسيحيين!
في حالة غزة ولبنان، فإن قتل القوات الإسرائيلية للنساء والأطفال متعمد بالفعل، كما أن الرأي العام المحلي داخل إسرائيل يشجع على ذلك ويحض عليه، فليس هناك محرمات في النقاش داخل إسرائيل حول إنهاء شمال غزة أو جنوب لبنان، وليس هناك أي تحفظ في تداول كلمات مثل “الإبادة”.
في مقابلة تلفزيونية مؤخراً، قال كبير المحاضرين في قسم دراسات الشرق الأوسط وإفريقيا بجامعة تل أبيب، عوزي رابي: “أي شخص يبقى هناك (في شمال غزة) سوف يعتبر إرهابياً وسوف يواجه عملية تجويع أو عملية إبادة”.
خطة الجنرال
لا يتردد المؤرخون والأكاديميون في إسرائيل في الحديث عن الإبادة الجماعية، بل ويحرضون عليها، فرابي يرى أنه لا ينبغي لإسرائيل أن تحاول حل المشاكل في المنطقة بالطرق الغربية، بل يجب أن تكون تصرفات إسرائيل مجبولة كما أسماها بنكهة “توابل شرق أوسطية”.
أما بيني موريس، رغم كونه أحد “المؤرخين الجدد” الذين كشفوا المذابح التي ارتكبتها إسرائيل في عام 1948، لكنه يريد اليوم ضرب إيران بالقنابل النووية!
إن الخطة التي يناقشها هؤلاء المؤرخون من تدبير جنرال الجيش السابق جيورا إيلاند، والتي جاءت من منطلق اعتراف إيلاند بأن التكتيكات الإسرائيلية في غزة قد فشلت ففي كل مرة يقومون فيها بتطهير منطقة ما من مقاتلي حماس، تظهر حماس مرة أخرى.
بطبيعة الحال، يرى إيلاند أن الحل ليس بالتفاوض، وإنما بإجبار 400 ألف مواطن في شمال غزة على الخروج عبر تخييرهم بين الموت جوعاً أوقصفاً، مدعياً أن هذه هي الطريقة الوحيدة لتحقيق أهداف الحرب الإسرائيلية!
لقد حظيت هذه الخطة بتأييد واسع النطاق في الجيش والكنيست ووسائل الإعلام، فخطة إيلاند ليست بعيدة عن التفكير الإسرائيلي على المستوى السياسي، حتى أن نتنياهو كبير كان قد كلف كبير مساعديه، رون ديرمر، في ديسمبر الماضي بدراسة سبل “تقليص حجم غزة”.
يعتقد الكثيرون اليوم أن الجيش قد بدأ بتنفيذ أجزاء من الخطة بالفعل، حيث أصدر الجيش أوامر إخلاء قسري كما ذكرت في الخطة كمرحلة أولى، ومفتاح تكتيكات الحصار التي يتبعها آيلاند، هو ممر نتساريم الذي يقطع القطاع بين شمال وجنوب، الذي تعد أحد أهدافه ما عبر عنه المقدم المسؤول عن تعبيد الطريق عند إنشائه في فبراير الماضي، شمعون أوركابي، من “منع المرور من الجنوب إلى الشمال والسيطرة على القطاع بالكامل”.
نقلت صحيفة هآرتس عن 3 جنود مؤخراً أن الخطة قيد التنفيذ، فـ “الهدف هو إعطاء السكان الذين يسكنون شمال منطقة نتساريم مهلة للانتقال إلى جنوب القطاع، وبعد هذا التاريخ، سوف يعتبر من يبقى في الشمال عدواً وسوف يقتل” بحسب ما قال جندي متمركز في ممر نتساريم.
آلة القتل
أما على الأرض، فالقتل العشوائي حاصل بالفعل في مزيج قاتل من القصف المتواصل والطائرات الرباعية وإسقاط قنابل تزن 2000 رطل على خيام هشة، وفي ظل ذلك كله، قدم الإسرائيليون أحدث آلة قتل لديهم، وهي الروبوتات المفخخة والقادرة على هدم 6 منازل في آن معاً!
إن محاولة بايدن الأخيرة لتخفيف الحصار والتجويع في شمال غزة ما هي إلا استكمال لفشله السابق في منع نتنياهو من احتلال رفح من خلال التهديد الناعم بوقف تسليم القنابل الثقيلة، إلا أن تهديده لم يوقف توريد الأسلحة ولم يمنع إسرائيل من مجزرة واحدة!
لقد شهد سكان شمال غزة بالفعل “عمليات هدم بالتفجير”، ففي شهادة لصحفي يعيش في هذه الحفرة الجهنمية لموقع ميدل إيست آي يقول: “كان القصف مختلفاً عما شهدناه سابقاً، فصوت التفجير مرتفع للغاية، كما لم نشهده من قبل، ورغم ذلك، فإن الناس خاصة في جباليا لم يتزحزحوا من منازلهم، فهم يقولون أن الموت في شوارعهم أفضل من الموت في الجنوب الذي يقول أهله أن الحياة في الجنوب لا تطاق وأصعب بكثير مما هي عليه في الشمال في الخيام والذل”.
هناك تحريض يومي مستمر على المذبحة التي تحدث يومياً في شمال غزة، فكلما زاد عدد الفلسطينيين الذين يرفضون النزوح، ارتفعت الأصوات في إسرائيل بالتحريض، مثل المذيع الشعبي، إلياهو يوسيان، الذي قال بأنه لا يوجد مدنيون “أبرياء” في غزة.
من جانبه، كتب البروفيسور المحاضر في شؤون إسرائيل وتاريخ الصهيونية في جامعة بن غوريون، آفي باريلي، أن الفلسطينيين “مجتمع يعبد الموت ويرفع راية القتل”.
رغم تحريضهم، إلا أن أمثال رابي وباريلي وموريس وجميع الجنرالات والجنود الذين يرتكبون جرائم حرب ضد المدنيين ما زالوا يشعرون بالأمان تماماً من احتمالية اعتقالهم في شارع أكسفورد في لندن مثلاً وهم يتسوقون بمناسبة عيد الميلاد أو جاؤوا لمشاهدة أحدث مسرحيات ويست إند الموسيقية، فعليهم أن يطمئنوا فليس هناك أي إدانة أو ضغوط تذكر من جانب البلدان التي لا تزال تدعم إسرائيل!
إما صمت أو تواطؤ
حتى اليوم، كل وسائل الإعلام إما صامتة أو متواطئة، فقد وصفت سكاي نيوز الجنود الذين قُتلوا في هجوم صاروخي لحزب الله على قاعدة عسكرية بأنهم “ضحايا مراهقون” في نفس العنوان الذي أشارت فيه إلى الضحايا الـ 23 في مدرسة ضربتها إسرائيل بالأرقام فقط.
أما هيئة الإذاعة البريطانية، بي بي سي، فهي تحرص على إرفاق توثيقها لعدد الضحايا الفلسطينيين بعبارة “كما تدعي حماس”، وعلى نحو مماثل، فقد أجرى محرر شؤون الشرق الأوسط في بي بي سي، جيريمي بوين، مقابلة مع إيلاند، مدعياً الحيادية في النقاش كما لو كانت خطة إيلاند وجهة نظر مشروعة.
في مقابلته، لم يشر بوين أو يذكر حقيقة أن هناك قضيتين رئيسيتين تجريان أمام المحكمة حول جرائم الحرب والإبادة الجماعية في اثنتين من أعلى محاكم العدل الدولية، حيث تعد خطة إيلاند دليل إدانة رئيسي عليها!
ربما يعتقد بوين أن هذه الحالات لا صلة لها بالموضوع أو أن اتفاقيات جنيف واتفاقيات الإبادة الجماعية قد أصبحت حبراً على ورق، في الوقت الذي يكرس فيه إيلاند طاقته ووقته للادعاء بأن كل ما يقترحه قانوني، رغم أن بوين لم يسعَ للتحقق من ادعاءاته أصلاً!
هل يريدون نقل ما حدث في مجزرة صبرا وشاتيلا لغزة؟ فهذا بالضبط ما يحدث الآن في مخيم جباليا للاجئين، إلا أن بي بي سي ربما لا ترى أن من واجبها الإشارة في تقاريرها إلى مجموعة الآراء القانونية الدولية الموجودة حول هذا الموضوع.
سوف تكون هذه حرباً يجب أن تصل إلى نهاية، فهل ينتهي الأمر بالغزو أم التراجع؟ والسؤال الأهم، هل ما زال لدى إسرائيل القدرة على إعادة الحسابات وإعادة التفكير؟ خاصة وهي تسير كالأعمى نحو زوالها!
الحقيقة أن كل من بي بي سي وسكاي نيوز تحرصان بشكل ممنهج على طمس مبدأ التمييز بين المقاتلين المسلحين والمدنيين غير المسلحين، وهذا هو هدف إسرائيل، فالصمت عن ذلك يشتري لإسرائيل المزيد من الوقت، وهذا الوقت يأتي بالمزيد من الموت.
إن محاولة بايدن الأخيرة لتخفيف الحصار والتجويع في شمال غزة ما هي إلا استكمال لفشله السابق في منع نتنياهو من احتلال رفح من خلال التهديد الناعم بوقف تسليم القنابل الثقيلة، إلا أن تهديده لم يوقف توريد الأسلحة ولم يمنع إسرائيل من مجزرة واحدة!
أعلن برنامج الغذاء العالمي أن جميع المساعدات قد توقفت عن الدخول إلى شمال غزة منذ 16 يوماً، ورغم ذلك، فقد أمهل وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن ووزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن إسرائيل 30 يوماً إضافياً قبل البدء في “إعادة تقييم” المساعدات العسكرية.
علقت على ذلك الباحثة في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية للشرق الأوسط (CSIS)، ناتاشا هول بأنه “من منظور إنساني، فإن مهلة 30 يوماً هي في الأساس حكم بالإعدام خاصة بالنسبة لأولئك الذين يواجهون المجاعة في شمال غزة”.
إسرائيل الصغرى وإسرائيل الكبرى
إذا نجحت خطة إسرائيل في شمال غزة، فإن جنوب لبنان سوف يكون الهدف التالي، فقد أشار مستشار الأمن القومي السابق ورئيس أركان الأمن القومي الإسرائيلي، مئير بن شبات، إلى أن لدى إسرائيل 3 خيارات في عمليتها الحالية في لبنان، إما إنشاء منطقة أمنية تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية وتقديم تسوية سياسية تسمح لإسرائيل بفرض سيطرتها، أو إقامة نظام جديد على الحدود أو إفراغ الأرض على طول الحدود بأكملها.
يفضل شابات الخيار الأخير ويقول: “سوف تعمل إسرائيل على إنفاذ القانون في المنطقة العازلة من خلال مزيج بين المعلومات الاستخبارية والنار، فميزة هذا الخيار هي التكاليف المنخفضة نسبياً، كما أنه ينقل رسالة بأن الإرهاب ضد إسرائيل يسبب خسارة في الأراضي، وأنه كما هاجموا إسرائيل الصغيرة فسوف تأتيهم إسرائيل الكبرى”.
يرى شبات أنه كما استخدم قادة إسرائيل الأوائل، بن غوريون وليفي أشكول وإسحق رابين، فكرة الاستيلاء على الأراضي كوسيلة لمعاقبة أولئك الذين يهاجمون إسرائيل، وأدت هزيمتهم وفقدانهم للأرض إلى اتفاقيات سلام مع مصر والأردن، كذلك يجب على إسرائيل الآن استخدام نفس الفكرة والتكتيك في لبنان وسوريا.
النتيجة الأوضح لمثل هذه الخطط يتمثل في حرب دائمة على كافة الجبهات من قبل كل شعوب العالم العربي، فهذه الحرب مسألة وقت فقط، وهذه التكتيكات تشمل كل دولة مهددة بغارات إسرائيل العقابية وحدودها الآخذة في التوسع!
في هذا السيناريو، سوف يقوم الأردن بتمزيق معاهدة السلام مع إسرائيل في نهاية المطاف، كما سوف تقاتل إيران ومعها حزب الله من أجل بقائهما.
تجدر الإشارة إلى أنه قد استغرق الأمر بضعة أسابيع حتى تمكن الأمريكان من الإطاحة بطالبان عام 2001، و20 عاماً أخرى لإجبار الحركة على الرحيل، كما استغرق الأمر 3 أسابيع لإسقاط تمثال صدام حسين في بغداد في إبريل عام 2003، و8 سنوات أخرى حتى أنهت فيها الولايات المتحدة دورها القتالي في العراق بخزي وهزيمة.
هذه ليست أمثلة سعيدة للحرب بالنسبة للولايات المتحدة، فالأمر لا ينطوي فقط على الإطاحة بالأنظمة القمعية كما في أفغانستان والعراق، بل سوف سوف تشمل هذه الحرب هوية السنة والشيعة في سوريا والأردن والعراق وإيران، وستكون حرب وجود لجميع الأطراف المشاركة فيها.
سوف تكون هذه حرباً يجب أن تصل إلى نهاية، فهل ينتهي الأمر بالغزو أم التراجع؟ والسؤال الأهم، هل ما زال لدى إسرائيل القدرة على إعادة الحسابات وإعادة التفكير؟ خاصة وهي تسير كالأعمى نحو زوالها!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)