بقلم محمد عايش
ترجمة وتحرير موقع بالعربية
يعيش الأردن على وقع موجة التضامن الأوسع مع الفلسطينيين في تاريخ المملكة، فمنذ جيلين لم يتم تسجيل حراك بهذا المستوى يجسر الهوة الجغرافية بين الفلسطينيين والأردنيين ويربك محاولات الملك لإخفاء الأمر.
يمكن أن يقود ذلك إلى تراجع جذري من الأردن عن اعترافه بجارته القوية، مما يجعل حدوده التي يبلغ طولها 360 كيلومتراً، أي أكثر من أربعة أضعاف طول حدود إسرائيل مع لبنان، حدوداً نابضة.
بلغت موجة التضامن ذروتها قبل أسبوعين عندما استيقظت المملكة على إضراب عام هو الأكبر في تاريخها، حيث أصبحت الشوارع شبه خالية، حيث تمثّل المطلب الرئيسي لملايين الأردنيين الذين شاركوا في الإضراب في وقفٍ لإطلاق النار في غزة وقطع علاقات بلدهم بكافة أشكالها وبشكل فوري مع إسرائيل.
وفي ذلك الاثنين، أغلقت المحال التجارية والأسواق أبوابها، حتى أن المخابز والمطاعم والمقاهي توقفت عن العمل، وفي اليوم التالي، أوقفت نقابة الفنانين الأردنيين تصاريح حفلات ليلة رأس السنة وخلال عطلة عيد الميلاد، تضامناً مع غزة واحتراماً لدماء من قضوا في العدوان عليها.
السمة البارزة في كل هذا هو أن الإضراب نشأ ونما من القاعدة إلى القمة، دون أن تكون هناك قوىً سياسيةً أو نقاباتٍ أو مؤسسات مجتمع مدني تدعمه، وقد دعا إليه مئات الأفراد والتزم به الملايين، الأمر الذي جعل من المستحيل ملاحقة المنظمين أو السيطرة عليهم، ولو جاء الإضراب بدعوة من حزب سياسي، لتبعته حملة قمع كما يتبع النهار الليل.
حكومة متوترة
كانت عفوية الاحتجاج وشعبويته كافية لإثارة قلق كبير لدى الحكومة المتوترة باستمرار، وفي اليوم التالي، عقد الملك عبد الله اجتماعًا طارئًا لجنرالاته والقادة الأمنيين ووزارة الداخلية انتهى بتصريحات تتماهى مع نبض الشارع للملك بثتها وكالة الأنباء الحكومية.
وقال الملك ” الأردن يجب أن يبقى قوياً” وأن “الأردن القوي هو الذي يمكنه دعم الفلسطينيين”، وشدد على “ضرورة التوصل إلى حل سياسي للقضية الفلسطينية وإنهاء الحرب في غزة”.
إن ما يقرب من 60% من السكان في الأردن هم من الفلسطينيين، لكن الشيء اللافت للنظر في موجة الاحتجاج هذه هو أنها لم تقتصر عليهم، فهذه المرة، شمل الغضب الناجم عن الإبادة الجماعية التي تنفذها إسرائيل في غزة كافة شرائح المجتمع الأردني وعشائره وقبائله.
وهذا يمثل تحولاً شاملاً، فقد كان للأردن تاريخ بائس من الصراع بين الجيش ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث اندلعت حرب دامية عام 1970 بين الجيش الأردني والقوات التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية انتهت بخروج جميع المقاتلين الفلسطينيين من الأردن إلى لبنان في صيف عام 1971.
ومنذ ذلك الحين، تم تحييد الأردن بشكل شبه كامل عن الصراع مع إسرائيل، وهدأت الحدود، والأهم من ذلك، أن الأردن شهد منذ ذلك الحين انقسامًا حادًا داخل المجتمع بين المواطنين الذين تعود أصولهم إلى فلسطين، الذين وصلوا الأردن كلاجئين، والمواطنين الأردنيين، الذين يعتبر الكثير منهم أن القضية الفلسطينية ليست قضية ذات أولوية بالنسبة لهم.
تباينت مستويات تفاعل الأردن مع الأحداث في فلسطين بشكل حاد خلال هذه السنوات، لكن هذا الوضع يشهد تغيراً ملموساً اليوم، فقد تلاشى الانقسام التاريخي بين الفلسطينيين والأردنيين الشرقيين مع تغير الأجيال، ولم يعد أبناء الجيل الجديد يشعرون بالحواجز التي كان آباؤهم يلتزمون بها.
“الأردن كله حماس”
لقد لعب صعود حركة حماس خلال العقدين الماضيين دوراً مهماً في إنهاء الانقسام الأردني الفلسطيني، لأن العديد من الأردنيين يعتقدون أن النزاع كان فقط مع منظمة التحرير الفلسطينية، التي لا تضم في عضويتها حماس.
وقد تجلى هذا التحول بوضوح في الاحتجاجات الأخيرة التي شهدتها الأردن، عندما هتف مئات الآلاف في الشوارع: “قالوا حماس إرهابية، كل الأردن حمساوية”، كما ردد الأردنيون هتافات تشيد برموز حركة حماس، ومن بينهم المتحدث العسكري “أبو عبيدة” الذي لم ير أحد وجهه مطلقاً لأنه ملثم دائماً.
يمثل هذا كله دعماً واضحاً من جانب الأردنيين لحركة حماس، في المقابل، لم تشهد أي مظاهرة في الأردن هتافات مؤيدة لحركة فتح أو منظمة التحرير الفلسطينية أو ياسر عرفات منذ العام 1970.
لقد عمّت مهرجانات التضامن البلدات والمدن الأردنية وفي جميع أنحاء البلاد رافعةً مطالب تجاوزت سقف السياسة الحكومية الرسمية، وتجاوزت النخبة السياسية المختارة بعناية في البرلمان.
سيكون من الحماقة اعتبار ذلك مجرد تأثر بسخونة الأجواء في الشارع العربي الذي لا بد وأن يبرد بمجرد توقف القتال
برزت هناك دعوات للتطوع للقتال ودعوات أخرى للجيش بعدم منع المتظاهرين من عبور الحدود إلى المناطق المحتلة في الضفة الغربية لدعم الفلسطينيين الذين يتعرضون للاعتداءات المتواصلة من قبل المستوطنين والجيش الإسرائيلي.
بدايةً، يستضيف الأردن أكبر جالية من اللاجئين الفلسطينيين في العالم، ويضم 13 مخيمًا للاجئين، تؤوي 396 ألف شخص، بالإضافة إلى مئات الآلاف من الفلسطينيين الآخرين الذين يحملون الجنسية الأردنية ويعيشون في المدن والمناطق المختلفة، حيث لا توجد إحصائيات رسمية دقيقة بعدد الفلسطينيين في الأردن، لكن، إذا كان أكثر من نصف مواطني المملكة فلسطينيون فهذا يعني أنهم بالملايين.
تهريب الأسلحة
كما أن هناك مسألة الحدود، فقبل معاهدة السلام التي وقعها الملك حسين عاهل الأردن السابق مع رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين في تشرين الأول/ أكتوبر 1994، كانت الحدود جبهة مفتوحة يمكن للمقاتلين المرور عبرها بسهولة لشن الهجمات.
وخلال الفترة الممتدة بين عام 1965 إلى عام 1971، ثبت أنه من المستحيل تأمين الحدود بشكل كامل، ولم يتمكن الجيش الإسرائيلي من تهدئة القتال فيها حتى غادرت منظمة التحرير الفلسطينية الأردن وانتقلت إلى لبنان.
وعند مقارنتها بالحدود بين إسرائيل ولبنان، (79 كيلومتراً)، وبين إسرائيل وسوريا، (70 كيلومتراً)، فمن السهل معرفة السبب، فمن أجل تأمين الحدود التي يبلغ طولها 360 كيلومتراً مع الأردن، ستحتاج إسرائيل إلى خمسة أضعاف القوات الموجودة حالياً في الشمال لمواجهة مواقع حزب الله جنوب نهر الليطاني.
وخلافاً للبنان أو سوريا، فإن الغضب الشعبي في الأردن له أهداف محددة ومحلية للغاية، حيث تركزت العشرات من الاحتجاجات على السفارتين الإسرائيلية والأميركية، وقد اضطرت قوات الأمن إلى إغلاق العديد من الطرق المحيطة بهما، وفي أكثر من مناسبة كاد المتظاهرون أن يقتحموا مجمع السفارة الإسرائيلية.
والأهم من ذلك هو المحاولات المتكررة للوصول إلى الحدود، حيث اضطر الجيش إلى تعزيز تواجده على الحدود وألقت قوات الأمن القبض على أكثر من مجموعة حاولت تهريب أسلحة إلى الضفة الغربية المحتلة، وهو ما يمثل جزءاً من مطالب المحتجين.
ولن يهدأ أي من هذه التحركات في وقت قريب، وخاصة إذا واصلت إسرائيل عدوانها ضد مخيم جنين للاجئين وإذا استمر المستوطنون في مهاجمة قرى الفلسطينيين العزل في الضفة الغربية المحتلة.
إذا كان عام 2023 عاماً مليئاً بالحرب، فإن عام 2024، بالنسبة للأردن، سيكون أكثر سخونة.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)