ثلاثة عوالم! كتاب يكشف الثمن الباهظ الذي دفعه اليهود العرب للمشروع الصهيوني

بقلم فيكتوريا بريتين

ترجمة وتحرير مريم الحمد

يغوص كتاب المذكرات الذي سوف أتحدث عنه إلى جذور عالم مفقود عن معالم الحياة الثقافية المشتركة والمزدهرة لعائلات الطبقة المتوسطة من السنة والشيعة والمسيحيين واليهود، في مدينة بغداد، وذلك بعد تحول اسم المنطقة، التي كانت تسمى في عهد العثمانيين بلاد ما بين النهرين، إلى العراق في الحقبة الاستعمارية البريطانية بعد الحرب العالمية الأولى.

في الكتاب، يتحدث الأكاديمي البريطاني، آفي شلايم، عن طفولته حيث كان “مدللاً سعيداً خالياً من الهموم”، وكتب عن ذكرياته مع والدته وأجداده، عن البيوت والحفلات الفخمة والرحلات والسباحة والخيام الصيفية على ضفاف نهر دجلة، قبل سفرهم إلى إسرائيل عام 1950، فضمن كتابه أرشيفاً دقيقاً حول حياة عائلته الكبيرة التي تأثرت بشكل كبير في التحولات الدراماتيكية التي اجتاحت الشرق الأوسط خلال القرن الماضي.

تمت الإطاحة بالحكومة المدنية العراقية عام 1936 بتأثير هتلر ورفاقه، وتم تقليص وضع الحماية لجميع الأقليات بما فيها اليهود، وانتشرت معاداة السامية على النمط الأوروبي

يأخذنا الكتاب من الطفل العربي اليهودي المحبوب في بغداد، إلى سنوات الدراسة الفاشلة المؤلمة في إسرائيل، حيث الهوية واللغة مفقودة والأب مفقود والثقة بالنفس التي أضحت مفقودة، فهو كان فتى إسرائيلي يرى نفسه أقل من الأطفال اليهود الأوروبيين.

تحول شلايم بعد ذلك إلى مراهق وحيد في ثانوية يهودية في لندن، سنوات صعبة أتت ثمارها من خلال منحة دراسية في كامبردج، لكنه اضطر لتأجيل منحته من أجل تقديم سنتين من الخدمة العسكرية الإلزامية في إسرائيل، فعاد هذه المرة سعيداً، فقد تمت معاملته باحترام لنجاحه وتعلمه الانجليزية.

 أما في كامبردج، فقد كان متشبثاً بهويته الإسرائيلية لدرجة جعلته يجمد دراسته مرة أخرى، ويعود للتطوع في حرب 1967، ولم يعد بعدها إلى بريطانيا.

يقتبس شلايم في كتابه عن المفوض المدني في بغداد بين 1918-1920، أرنولد ويلسون، إشارته إلى أن “فلسطين بلد فقير والقدس مدينة سيئة للعيش”، فقد كان بغداد جنة مقارنة بفلسطين في ذلك الوقت، يقول شلايم عن بغداد “بلاد ما بين النهرين بالنسبة لنا وطن قومي يسعد يهود بومباي وبلاد فارس وتركيا بالقدوم إليها”.

معاداة السامية على نمط أوروبا

بالنسبة لمعظم يهود العراق، كانت الصهيونية أيديولوجية أوروبية لا تلقى قبولاً لديهم، لكن بعد صعود الحزب النازي إلى السلطة في ألمانيا عام 1933، أصبح النفوذ الألماني قوياً في العراق، حتى تمت الإطاحة بالحكومة المدنية العراقية عام 1936 بتأثير هتلر ورفاقه، وتم تقليص وضع الحماية لجميع الأقليات بما فيها اليهود، وانتشرت معاداة السامية على النمط الأوروبي.

المفارقة التي تحدث عنها شلايم في كتابه، هي أنه اكتشف بعد بحثه لسنوات في أرشيفات الحكومة الإسرائيلية أن ” 3 من التفجيرات كانت من عمل الصهيونية السرية”

عندما صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح تقسيم فلسطين إلى دولة عربية وأخرى يهودية في نوفمبر عام 1947، ثم هُزمت الجيوش العربية في حرب عام 1948، كانت العراق الدولة الوحيدة التي رفضت التوقيع على اتفاق الهدنة مع إسرائيل، ولمواجهة الإذلال الوطني بعد الهزيمة، قامت الحكومة العراقية باضطهاد اليهود بشكل رسمي، وطردهم من الوظائف الحكومية واعتبار الصهيونية جريمة عقابها الإعدام.

هنا خافت العائلات اليهودية ومنها عائلة آفي، حتى أن البعض غادر بشكل غير رسمي عبر إيران بمساعدة الحركة الصهيونية السرية آنذاك، أما بالنسبة لعائلة آفي فقد وصلتهم رسالة مجهولة المصدر تهدد باختطاف أخته مقابل فدية كبيرة، وكان هذا السبب الأهم وراء ترك العراق بشكل نهائي.

كتب شلايم في مذكراته “كانت السنوات بين 1950-1951 بمثابة كارثة لليهود العراقيين، فخلال عام، ترك مجتمع كامل من اليهود موطنهم الأصلي، كانت عائلتي من بينهم، ومنذ ذلك الحين وأنا أحاول أن أفهم ما حدث ولماذا”.

هجمات في بغداد

العامل الأهم في نزوح اليهود العراقيين كان 5 هجمات بالقنابل على أهداف يهودية في بغداد خلال عام، كان هدف 4 من الهجمات، بحسب شلايم، تخويف اليهود لمغادرة العراق، كان أشهرها تفجير كازينو دار البيضاء في إبريل عام 1950، ثم هجوم يناير 1951 الشهير بالقنابل اليدوية في الفناء الأمامي لمعبد يهودي، بالإضافة إلى تفجير في المركز الثقافي والمكتبة الأمريكية ومقهى يملكه يهودي. 

بحلول مارس عام 1951، كان أكثر من 100 ألف يهودي قد سجلوا على قوائم المغادرة متخلين عن جنسيتهم العراقية.

أحد المتورطين في الهجمات كان المحامي يوسف البصري، وهو يهودي تم تجنيده من قبل الموساد، ثم تم القبض عليه وحوكم بالشنق في بغداد عام 1952، كان مسؤول مجموعته يدعى ماكس بينيت، وهو ضابط استخبارات إسرائيلي، اعتقل في حزيران عام 1951.

المفارقة التي تحدث عنها شلايم في كتابه، هي أنه اكتشف بعد بحثه لسنوات في أرشيفات الحكومة الإسرائيلية أن ” 3 من التفجيرات كانت من عمل الصهيونية السرية”، كما أرفق شلايم في كتابه صفحة من تقرير الشرطة عن إحدى التفجيرات ويقول “يشكل دليلاً لا يمكن إنكاره عن تورط الصهيونية في الهجمات الإرهابية التي ساعدت على إنهاء الوجود اليهودي في العراق منذ زمن بابل”.

شر الصهيونية

كان أحد الأشخاص المذكورين في تقرير الشرطة ذاك يهودي عراقي، يعقوب كركوكلي، هرب إلى إسرائيل عام 1973 بعد أن قضى عدة أحكام بالسجن بسبب أنشطة صهيونية، وبمحض الصدفة، أصبح كركوكلي جاراً لوالدة شلايم في إسرائيل، ومما يذكره شلايم أنه قال لوالدته مرة أنه “لم يندم يوماً على تاريخه”.

تسلط هذه المذكرات ليهودي عربي الضوء على “ماضٍ مشترك وتاريخ متشابك وتراث عمره قرون من التعددية والتسامح الديني والعالمية والتعايش”، وتلك فرصة لإعادة تصور الحياة لا تحكمها مفاهيم القوة والردع والخوف والإقصاء والخداع

عام 1954، وبعد 3 سنوات من اعتقاله، انتحر بينيت في سجن مصري بعد علمه بأن العراق طلب تسليمه، فقد ألقي القبض عليه في مصر بتهمة زعامته لعصابة من 9 يهود مصريين أدينوا بزرع قنابل في القاهرة والإسكندرية فيما سمي بعملية “سوزانا”.

كان الهدف من العملية إفساد العلاقات بين مصر والغرب، وقد أسفرت بالفعل عن توتر العلاقات بين اليهود المصريين وأبناء وطنهم.

يقول شلايم في كتابه “بالنظر إلى الوراء، لا يزال بإمكاني فهم التأثير العميق لكلمة وعد بلفور وكيف قُلبت حياة عائلتي “، ثم يتحدث عن 50 عاماً لاحقة من التعرجات في الصراع العربي الإسرائيلي، والتي بدأت من بغداد عام 1950، ويضيف “ربما كان لها جذور أعمق بكثير، فهي أمثلة على شر الصهيونية”.

في خاتمة كتابه، كتب شلايم كيف أنه بعد حرب 67 تراجعت وطنيته الإسرائيلية، وبدأت خيبة الأمل تتطور في داخله، فيقول “من خلال الخوض في تاريخ عائلتي في العراق، استطعت فهم الصهيونية وتأثيرها العالمي، فقد كانت حركة استعمارية استيطانية، وأنا أقول اليوم أن إنشاء إسرائيل كان ظلماً كبيراً للفلسطينيين، فقد أصبح نصفهم لاجئين”!

ويضيف “ما تعلمته من قصة عائلتي أن هناك فئة أخرى من ضحايا المشروع الصهيوني، وهم اليهود العرب، فقد كان هناك ارتباط بين معاملة الحركة الصهيونية للفلسطينيين ومعاملتها لليهود العرب”. 

يرى شلايم أن المستقبل يجب أن يتمثل بحل الدولة الواحدة “ديمقراطية واحدة بين نهر الأردن والبحر المتوسط مع حقوق متساوية لجميع المواطنين بغض النظر عن العرق والدين”، ويعتبر أن اليهود العرب يمكن أن يكونوا الجسر الأول لهذه الرؤية.

تسلط هذه المذكرات ليهودي عربي الضوء على “ماضٍ مشترك وتاريخ متشابك وتراث عمره قرون من التعددية والتسامح الديني والعالمية والتعايش”، وتلك فرصة لإعادة تصور الحياة لا تحكمها مفاهيم القوة والردع والخوف والإقصاء والخداع.

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة