بقلم مها الحسيني ومحمد الحجار
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
في شاحنات مبرّدة، عادَت جثامين الشهداء التي سلّمتها دولة الاحتلال إلى قطاع غزة، صامتة ومحمّلة بأرقام، كأنها آثار حرب لا أسماء لها، ظنّت عائلاتٌ فلسطينية أنّ وصولها قد يضع حدًا لأسئلة امتدّت لعامين حول مصير أبنائها المفقودين، لكن ما رأته عيونهم أطلق موجات جديدة من الألم والذهول: ملامح مشوّهة، أعضاء مبتورة، وجروح طويلة مخيّطة بعناية غامضة.
في مستشفى ناصر بمدينة خان يونس، كان من الصعب التعرف على كثير من الجثامين، بعضها وصل بأجزاء مقطوعة، وبعضها الآخر يحمل شقوقًا طويلة مخيطة تمتد من الصدر إلى أسفل البطن، ما أثار شكوك الأهالي بشأن العبث بأجساد أبنائهم داخل سجون ومعتقلات الاحتلال.
ومع ذلك، يؤكد أطباء الطب الشرعي في غزة أنّهم غير قادرين على إثبات أو نفي ما إذا كانت الأعضاء قد استُخرجت فعلًا، بسبب غياب الأجهزة والمعدات اللازمة للفحص الداخلي.
ويقول محمد عايش رمضان، من دير البلح، لموقع ميدل إيست آي: “فقدنا أثر أخي أحمد منذ اليوم الأول للحرب، بحثت عنه طويلًا، وعندما عُرضت صور الجثامين في مستشفى ناصر، أمضيت ثلاثة أيام دون أن أجد شيئًا، وفي اليوم الرابع، رأيت ملامح تشبهه بنسبة 70%”.
وعند فحص الجثمان عن قرب، وجد رمضان آثارًا أخرى ساعدته على تأكيد هوية شقيقه البالغ من العمر 37 عامًا، لكن المشهد كان أكثر قسوة مما توقّع: “كان الجسد محترقًا، وفيه ست أو سبع رصاصات، كان متجمّدًا تمامًا… لاحظت أنّ أحد أصابع قدمه مبتور.”
يقول الأطباء إنّ بتر الأصابع يكاد يكون أمراً مشتركًا بين معظم الجثامين، ويُرجّح أنه لأغراض فحص الحمض النووي داخل معتقلات الاحتلال.
لكن ما صدم محمد أكثر كان الشقّ الطولي الذي يمتد من صدر أخيه حتى أسفل بطنه، وعن ذلك يقول: “أخي لم يخضع لأي عملية جراحية في حياته، لقد سألت زوجته عن ذلك وأكدت أنه لم يُفتح بطنه يومًا”.
ويقول الدكتور خليل حمادة، مدير عام الطب الشرعي في غزة، إنّ الجثامين تصل في درجة تجميد شديدة، ما يضطرهم لتركها ليوم أو يومين لتذوب طبقات الجليد ويظهر شكلها الحقيقي.
ويضيف: “لا نملك الإمكانات لإجراء فحص داخلي أو تصوير مقطعي رباعي الأبعاد، نكتفي بتوثيق العلامات الخارجية ليسهل على الأهالي التعرف على ذويهم.”
ومع محدودية الموارد، تظلّ تهمة انتزاع الأعضاء أمرًا لا يمكن الجزم به أو نفيه.
وحتى اليوم، أعادت دولة الاحتلال 345 جثمانًا إلى غزة، لم يُحدَّد سوى 99 منها، أمّا البقية، فدُفنت في مقابر جماعية دون أسماء.
ويؤكد حمادة أن دولة الاحتلال عادة ما تبتر أصابع الأيدي والأقدام، غالبًا الإبهام أو مقدمته، قبل تسليم الجثامين.
صفحة إلكترونية… وصور لأوجه غير مكتملة
لا تسلّم دولة الاحتلال أي معلومات عن هوية الجثامين أو ظروف استشهاد أصحابها، مما يضطر وزارة الصحة في غزة لعرض صور الجثامين على شاشات كبيرة في مستشفى ناصر، ثم نشرها في صفحة إلكترونية تضم: رقم الجثمان وتاريخ الاستلام وصور مقرّبة للفكّ والجمجمة والأصابع وأية آثار أو علامات مميزة والملابس التي عُثر عليه بها، وهكذا تعثر العائلات على خيوط تقود إلى ذويها.
“أعدم مقيّدًا”… أصابع مبتورة وقيود معدنية غائرة في اللحم
أما زینب إسماعیل شحبر من بيت حانون، فقد تعرفت على شقيقها محمود (34 عامًا) من خلال الصفحة الإلكترونية، حيث تقول: “تعرفنا عليه من عينيه وشعره… ثم ذهب أهلي لتأكيد الهوية.”
وتروي تفاصيل أشدّ إيلامًا: “كان أحد أصابعه مقطوعًا، وكانت يداه مقيدتين خلف ظهره، وساقاه مربوطتين، مع وجود آثار القيود المعدنية غائرة في قدميه.”
وتؤكد أسرته أنهم لاحظوا علامات ضرب عنيف على وجهه ما أدّى إلى تهشم الجمجمة، بالإضافة إلى آثار خنق على رقبته.
“تعرفت عليه من نعاله”
وتقول نجلاء إسماعيل الجعبري، التي تسلّمت جثمانَي ابنها وشقيقها: “تعرفت على أخي فهد (35 عامًا) من نعاله وملابسه، كانت بعض ملامحه واضحة قليلًا، بتروا إصبعه وقطعوا إصبع قدمه أيضًا.”
وتضيف: “أما ابني، فتعرفت عليه من ملابسه الداخلية، كان هناك سنّان مفقودان، وشظايا كثيرة في ظهره.”
يعكس هذا المشهد القاسي، من أجساد مبتورَة ومقيدة ومجمَّدة، جانبًا خفيًا من معاناة الفلسطينيين في سجون الاحتلال، حيث لا تنتهي المأساة عند الموت، بل تستمر في رحلة باردة ومرعبة نحو المستشفى… ثم المقبرة.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)







