جولة في مخيم نور شمس تكشف حجم الرعب المتدثر بالغارات الجوية وسط توغل الجرافات وانتشار قناصة الاحتلال

تعيش أم يوسف وزوجها في منزلهما بمخيم نور شمس للاجئين قرب طولكرم في الضفة الغربية المحتلة منذ زواجهما قبل 43 عاماً ولا يزالان هناك حتى اليوم.

وعلى الرغم من أن المنزل أصبح خراباً والأثاث محطماً، ولا يوجد جدار خارجي، والأنقاض في كل مكان، يجلس الزوجان على كراسي بلاستيكية دون ماء جارٍ أو كهرباء في ما كان يوماً مطبخاً.

لكن، ورغم ذلك تقول أم يوسف إنها لا تنوي ولا زوجها الانتقال من المنزل، مضيفة: هذا ثمرة 40 عاماً من حياتنا”.

وتفتقد أم يوسف أبنائها وأحفادها، الذين لا تزال كتبهم المدرسية مبعثرة وسط الأنقاض، لقد كانوا يعيشون في الطابق العلوي لكن جنود الاحتلال دمروا الدرج فاضطروهم إلى المغادرة.

أما زوجها محمد شحادة فعرض مقطع فيديو لجرافة عسكرية إسرائيلية وهي تقتحم منزلهم ببطء، قائلاً: “لا يوجد هنا عسكري، بل مجرد تدمير عشوائي”.

كان الحال في الجوار أكثر سوءاً، فقد دمر جنود الاحتلال المنزل المقابل بالكامل وحولوه إلى كومة من الطوب والأنقاض.

وعند الانعطاف يميناً إلى شارع ضيق، يتجلى أثر تدمير أوسع، لقد هدمت الجرافات الجدران الأمامية للمنازل والمحلات التجارية.

وفي إحدى الغرف، لا تزال لوحة لثلاث ورود حمراء معلقة بشكل مائل على الحائط، فيما تدلى بنطال من مشبك مجاور، وكانت الأحذية مكدسة بدقة على الأرفف، فيما كانت ملصقات باهتة للفراشات والزهور تزين الثلاجة.

وفي ظل هذا الوضع، تضطر عائلات المخيم إلى العيش في ظل ظروف لا تقي من العوامل الجوية، وقد وضع بعضهم ستائر لمنح أنفسهم بعض الخصوصية.

وكان رجل يجلس في غرفته الأمامية المدمرة حيث عاش مع زوجته على مدى العقود الثلاثة الماضية وأخذ يشرح كيف دمر الاحتلال دكانه الذي كان يبيع فيه الحلوى، وقضى على سبل عيشه ومنزله معاً.

في نور شمس، لا يمكنك المضي بعيداً دون أن تصادف مأساة أخرى، لقد توقفنا للتحدث إلى سيدة عند مدخل أحد الشوارع، وكانت في حالة حداد على ابنها.

كان أشرف عبد الله، 20 عاماً، شاباً مشهوراً يبيع الذرة لكسب لقمة العيش وكان معروفاً في المخيم، كما تتذكر والدته.

ألقيت القنبلة التي قتلته من مروحية للاحتلال، وكان ذلك يوم عطلة لأشرف، حيث كان ينام في غرفة شقيقته، فوجدته فرق الإنقاذ مغطىً وكأنه لا يزال نائماً، لكنه استشهد بعد أسبوع في المستشفى.

تلفت الحرارة المرتفعة والرطوبة في المخيم المكتظ الانتباه، حيث تقع طولكرم على السهل الساحلي، بالقرب من الحدود مع دولة الاحتلال وعلى بعد حوالي 12 كيلومتراً فقط من البحر.

ويتذكر سكان مخيم نور شمس أنهم كانوا يذهبون للتبرد في مياه البحر الأبيض المتوسط قبل أن تنشئ دولة الاحتلال جدار الفصل العنصري.

تم بناء المخيم إلى الشرق من طولكرم في العام 1950 لإيواء الفلسطينيين الذين طردوا من منازلهم في ما يعرف الآن بإسرائيل، حيث لجأ معظم سكانه في المناطق القريبة من يافا وحيفا وقيسارية خلال التطهير العرقي في عام 1948.

ويعد مخيم نور شمس أحد أكثر المخيمات كثافة سكانية في الضفة الغربية، حيث لا يزال يعيش فيه نحو 12 ألفاً من أحفاد اللاجئين إبّان النكبة، حيث تبدو قوات الاحتلال عازمة على حرمان هذه العائلات من المأوى مرة أخرى.

وفي مخيمات اللاجئين لا تخفي المنظمات الفلسطينية المسلحة وجودها وتحديها للاحتلال، فقد جعل مقاتلو كتيبة طولكرم من مخيم نور شمس مركز مقاومة حتى قبل السابع من أكتوبر.

ويؤكد سكان المخيم أن اقتحامات الاحتلال الأخيرة اتخذت طابعاً مرعباً لم يشهدوه من قبل، ويمكن وصفه كشكل من أشكال العقاب الجماعي، حيث تم استهداف المدنيين والبنية الأساسية دون تمييز أو خطوط حمراء أو قيود.

ففي نيسان/أبريل، استشهد ما لا يقل عن 14 فلسطينياً وأصيب العشرات عندما حاصرت قوات الاحتلال المخيم لأكثر من يومين، مخلفةً جثامين الشهداء في الشوارع دون أن تتمكن سيارات الإسعاف والفرق الطبية من الوصول إلى الجرحى.

وبحسب اللجنة الشعبية لخدمات مخيم نور شمس، فقد استشهد ما لا يقل عن 80 من سكان المخيم منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، ودُمر نحو 300 منزل بالكامل وتضرر ما لا يقل عن 2600 منزل آخر كما تعرض المخيم للمداهمة 28 مرة.

وكما هو الحال في مخيمات الضفة الغربية الأخرى التي شهدت قتالاً عنيفاً في الشوارع خلال اقتحامات الاحتلال، ولا سيما في جنين وبلاطة، يعيش سكان نور شمس الآن في خوف دائم من الغارات الجوية.

وقد غطى البعض أسطح منازلهم بأقمشة سوداء في محاولة للاختباء من الطائرات المسيرة والمروحيات التي تحلق فوق منازلهم.

ويوم الثلاثاء، أفادت التقارير باستشهاد خمسة أشخاص في غارة شنتها طائرة بدون طيار في المخيم.

وقالت وزارة الصحة الفلسطينية أن من بين الشهداء فتاة وامرأة تبلغ من العمر 50 عاماً، وثلاثة من قادة المقاومة الفلسطينية.

وفي الثاني من تموز/يوليو، استشهد أربعة شبان في غارة جوية ضربت الساحة الرئيسية في المخيم، وقبل ثلاثة أيام، قالت قوات الاحتلال أنها اغتالت أحد قادة حركة الجهاد الإسلامي في غارة جوية أخرى.

ويشير بعض السكان إلى أن قوات الاحتلال تستخدم الآن الغارات الجوية لاغتيال المقاتلين، بدلاً من المخاطرة بالانجرار إلى القتال في الشوارع من خلال محاولة اعتقالهم خلال المداهمات.

وينسب القادة السياسيون في دولة الاحتلال الفضل لهذه التكتيكات في مواجهة المقاومين، ويبدو أنهم عازمون على تصعيدها حتى مع ارتفاع حصيلة الشهداء الفلسطينيين في هذه الحرب غير المعلنة على مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية.

فيوم الأحد، هدد وزير دفاع الاحتلال يوآف غالانت بتوسيع استخدام الضربات الجوية في أعقاب اجتماع مع اللواء آفي بلوث، القائد الجديد للقيادة المركزية لجيش الاحتلال، المسؤولة عن العمليات في الضفة الغربية.

وقال غالانت: “قبل أشهر، قمت بإزالة القيود المفروضة على تشغيل طائرات سلاح الجو، بما في ذلك للأغراض الهجومية، من قبل القيادة المركزية من أجل إحباط الإرهاب دون تعريض الجنود للخطر بشكل غير ضروري، وإذا لزم الأمر، فسوف نوسع هذا”.

وأضاف: “لقد أمرت بذلك للتأكد من إحباط جميع عمليات الكتائب الإرهابية داخل مخيمات اللاجئين، سوف نذهب ونسحقهم”.

وفي الساحة الصغيرة التي ضربتها الغارة الجوية في بداية الشهر وسط نور شمس تتولى وكالة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) توزيع الغذاء على السكان.

في وسط الساحة تراكمت أكوام ضخمة من الأنقاض الناجمة عن هدم مبنى مكون من ثلاث طوابق يستخدمه ناد شبابي، وكان الطابق السفلي مخصصاً لحضانة أطفال.

وعلى الجانب البعيد من الساحة كان هناك مبنى آخر تابع لوكالة الأونروا، وقد تضرر إن لم يدمر كلياً، لكن السكان المحليين قالوا أنه لا يزال قيد الاستخدام.

ويبدو أن دولة الاحتلال عازمة على تقويض الأونروا، التي ظلت، منذ إنشائها في عام 1949، تعتبر المزود الرئيسي للمساعدات الإنسانية للاجئين الفلسطينيين، الذين يبلغ عددهم الآن ما يقرب من ستة ملايين شخص، في مختلف أنحاء المنطقة.

لقد اتخذت هجمات الاحتلال على وكالة الأمم المتحدة أشكالاً عديدة، بينها الدبلوماسية والسياسية فضلاً عن استهداف مرافق الأونروا وموظفيها. 

وفي غزة، تقول الوكالة أن ما لا يقل عن 197 من موظفيها قد استشهدوا في تسعة أشهر من الحرب وحتى السابع من تموز/يوليو.

يذكرنا حجم الدمار المذهل في العديد من أجزاء مخيم نور شمس بالرعب الذي شهدته غزة، لكن نادراً ما يزور الصحفيون الغربيون المكان.

وكما حدث في غزة، ألحق عدوان الاحتلال أضراراً جسيمة بالبنية الأساسية المدنية كالمدارس والمساجد وشبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي. 

كما أصبح النشاط التجاري مستحيلاً، وتحول جزء كبير من المخيم، وفقاً لأي معايير طبيعية، إلى مكان غير صالح للسكن.

وعلى طول الشارع الرئيسي المسمى شارع نابلس، والذي كان يشكل في السابق المركز التجاري للمخيم، تحول الطريق نفسه إلى أنقاض، حيث تبطئ السيارات سرعتها إلى سرعة السير على الأقدام لتتمكن من التحرك بين الصخور والحفر.

فعلى جانب الطريق حفرت الجرافات حفراً عميقة في محاولة واضحة لتدمير شبكات الصرف الصحي والمياه، فيما عبقت رائحة كريهة الأجواء صادرة عن برك المياه المالحة النتنة.

“بيتي فارغ”

وبعد يومين من هذه الجولة في مخيم نور شمس، أعلنت محكمة العدل الدولية، أعلى محكمة في الأمم المتحدة، أن احتلال إسرائيل للضفة الغربية غير قانوني وأمرتها بالانسحاب منها.

من الناحية النظرية، من المفترض أن يمنح هذا القرار الأمل للاجئين، لكن قادة الاحتلال أدانوا الحكم، مما يعني أن السكان في نور شمس سيستمرون في مواجهة جحيم هجمات الاحتلال المتواصلة والتي تحملوها بالفعل منذ أشهر.

ورداً على رأي محكمة العدل الدولية، نشر بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية اليميني المتطرف في حكومة الاحتلال على وسائل التواصل الاجتماعي يقول: “الإجابة على لاهاي هي السيادة الآن”.

وفي غرفة المعيشة المتواضعة في بيتها، أخذت أمينة غنّام تتحدث عن افتقادها لصحبة أبنائها الأربعة الذين استشهدوا في هجمات الاحتلال منذ السابع من أكتوبر.

قالت غنّام: “كانوا يأتون لزيارتي في الصباح، ويأتون إلي في المساء في طريق عودتهم من العمل، لكن بيتي أصبح فارغاً الآن، لقد أحبهم الناس وهم لم يسببوا أي مشاكل لأحد”.

تتزاحم الدموع في عيون غنام مع الذكريات التي تكتنف مخيلتها وهي تقول: “قبل أن أفقد أبنائي كنت أشاهد ما يحدث في غزة وأدعو الله أن يساعد الناس هناك”.

وفي التاسع عشر من تشرين الأول/أكتوبر، أودى صاروخ أطلقه الاحتلال بحياة اثنين من أبنائها، أمير وأحمد غنام، اللذين يبلغان من العمر 41 و39 عاماً. 

وقالت الأم: “كانا واقفين مع مجموعة من الأصدقاء بعد الصلاة في أحد المساجد عندما أصاب صاروخ إسرائيلي الجميع”.

والآن أصبح الشقيقان من بين العديد من الفلسطينيين الذين تم تخليد أسمائهم ووجوههم على ملصقات الشهداء التي تحمل شعارات المنظمات المسلحة على جدران المخيم.

وكان شقيقاهما الأصغران، محمود وسليم، من بين الفلسطينيين الذين استشهدوا خلال اقتحام آخر للاحتلال في نيسان/ابريل، وأصيب محمود، 24 عاماً، برصاصة قناص أثناء عودته إلى منزله.

“اليوم فتحت الخزانة ووجدت ملابس أبنائي، فبدأت في احتضانها وشرعت في البكاء” – أمينة غنام، أم فقدت أربعة من أبنائها شهداء

وأضافت أن سليم (29 عاماً) أصيب برصاصة قناص خارج المنزل مباشرة، وشاهدته وهو ينزف حتى الموت على مدى ساعات لأن سيارة الإسعاف لم تتمكن من الوصول إليه.

وقالت عن ذلك: “كان الدم يتدفق من جسده كالماء، أحضروه إلى المنزل ووضعوه في حضني”.

ولم يكن أي من أبناء أمينة فنّام مطلوباً للاحتلال ولم تصدر أي أوامر باعتقال أي منهم وفقاً للأم التي أضافت: “نحن عائلة مسالمة”.

ومؤخراً، فقدت غنام ابنها الخامس أيضاً، فقد كان عبد اللطيف غنام الأكبر بين هؤلاء الإخوة الخمسة، وقد توفي بالسرطان بعد شهر واحد من استشهاد شقيقيه الأصغرين.

وقالت والدته: “من الصعب جداً أن تفقد خمسة أبناء ولا يتبقى لك شيء، لا يمكنك أن تتخيل الألم الذي تشعر به عندما تفقد أبنائك”.

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة