حارات القدس التسعة وأسرار البلدة القديمة!

بقلم كيرون مونكس

ترجمة وتحرير مريم الحمد

لقد أصبح تقسيم البلدة القديمة في القدس إلى أحياء مسلمة ومسيحية ويهودية وأرمنية واقعاً على الأرض، مثبتاً في خريطة يتناقلها ملايين الزوار في كل عام، إلا أن التقسيمات مرتبطة بالحالة الاستعمارية وحديثة نسبياً، ولا تشبه ما كانت عليه البلدة حين وصلها وقسمها رجل دين بريطاني عام 1849.

بحسب ما كشف الكاتب ماثيو تايلر في كتابه الجديد “الأحياء التسعة في القدس”، فقد طُبعت أول خريطة تظهر البريطانيين المستعمرين في المدينة المقدسة على يد الكاهن جورج ويليامز، ومنذ ذلك الوقت، أصبحت القسمة الرباعية عنصراً أساسياً.

ويؤكد تايلر في كتابه على أن التقسيم يثبت أن من قام بالتقسيم لديه فهم محدود للتضاريس الحقيقية للمكان، مثلاً، ترسيم حارة المسلمين باعتبارها مدينة غالبيتها من المسلمين يعد أمراً منطقياً كما لو أننا نتحدث عن “الحي الكاثوليكي في روما”.

عاش المسلمون مع اليهود والمسيحيين والعديد من الجماعات العرقية والدينية الأخرى في القدس، فهم جميعاً يشكلون السكان المحليين الذين يعيشون في مدينتهم باعتبارها خليطاً من الأحياء المتنوعة.

لم يكن نشر البريطانيين أمراً اعتباطياً أو محض مصادفة، فقد تم نشر خريطة ويليامز في الوقت الذي كان فيه البريطانيون يعززون قوتهم في فلسطين قبل الانتداب الرسمي عام 1920، وذلك خدمة لهدف “فرق تسد”، بالإضافة إلى توجيه عمل المبشرين الذين يسعون لتحويل الناس إلى المسيحية.

توثيق القصص هو هدف الكتاب، ولا سيما “حياة الفلسطينيين والأصوات التي يتم تجاهلها”، وكأن الكتاب يرد على إنكار التاريخ الفلسطيني، الذي لخصه الكاتب الأمريكي مارك توين بأن فلسطين “أرض بلا شعب”

ذهب البريطانيون إلى أبعد من ذلك في فرض رؤيتهم للقدس، رؤية مستوحاة بشكل أساسي من الأساطير الصليبية والغربية والتخطيط الحضري لمدينة جلوسيسترشاير جنوب انجلترا، فقاموا بهدم المتاجر والمقاهي التي تعود للعصور الوسطى، من أجل إعادة تخطيط وفصل المدينة القديمة، فقام المهندسون المستعمرون بحظر المنطقة وإرساء قواعد صارمة للبناء فيها، ومع ذلك فالأسوأ لم يكن قد أتى بعد!

علاقة القمع بالأساطير!

يستشهد تايلر في كتابه بقسمة الأحياء باعتبارها العامل المحفز للصدمة والقمع الذي عانى منه سكان القدس منذ ذلك الحين، الأمر الذي أسس لـ “سردية قائمة على الانقسام والإقصاء”، فقد أصبحت الأحياء وسيلة بريطانيا ثم إسرائيل لفرض مطالبها الإقليمية، ونموذجاً للتقسيم الذي مزق المدينة والبلد.

لطالما أثرت الطموحات الإمبراطورية والرمزية الدينية المفروضة على القدس بشدة على أولئك الذين يحاولون العيش في المدينة على مدار تاريخها البالغ 5 آلاف عام، لكن تايلر يشير في كتابه إلى وجود فترات من التعايش السلمي، مما يتعارض مع الفكرة المبتذلة القائلة بأن الصراع هو النتيجة الحتمية بسبب “الكراهية القديمة بين الأديان”.

يرى تايلر أنه لا يوجد شيء طبيعي حول شكل المدينة القديمة اليوم، فقد وضعت بريطانيا نموذجاً للاضطهاد الذي استمر واشتد في ظل الحكم الإسرائيلي، فقد تم تدمير الأحياء ووضعت القيود التي تحد من قدرة الفلسطينيين على العيش والعمل والسفر داخل الجدران، وأصبحت الحواجز بين الأحياء حقيقة واقعة من خلال تواجد الشرطة والقوانين القاسية مثل حظر امتلاك غير اليهود للممتلكات في الحي اليهودي مثلاً.

عندما بدأ مسلمو غرب إفريقيا بالوصول إليها بعد الانتهاء من موسم الحج في القرن 15، أسسوا مجتمعاً قريباً من الأقصى، فصار لسان حالهم “نحن نعتبر أنفسنا فلسطينيين من أصل إفريقي” كما قال الصحفي في جريدة القدس، موسى قوص الذي تعود جذوره إلى تشاد

من خلال كتابه، يهدف تايلر إلى كسر الحدود والكشف عن التعقيد الذي تفاقم في المدينة المقدسة، فتوثيق القصص هو هدف الكتاب، ولا سيما “حياة الفلسطينيين والأصوات التي يتم تجاهلها”، وكأن الكتاب يرد على إنكار التاريخ الفلسطيني، الذي لخصه الكاتب الأمريكي مارك توين بأن فلسطين “أرض بلا شعب”.

يساهم سرد تاريخ القدس في تسليط الضوء على الشخصيات والمجتمعات والمؤسسات التي أعطت المدينة القديمة نبضاً وحياة بما تركت من أثر وعظمة.

حياة الشوارع 

تايلر، كاتب رحلات بريطاني ملحد وصانع أفلام ومقيم سابق في القدس الشرقية، ولذلك يكتب قصصه حول أبواب البلدة القديمة بأسلوب الحكواتي إلى حد كبير، فهو يهتم بنقل التجربة الحسية من صرخات تجار السوق إلى جدالهم مع السياح ورائحة الزعتر، يقف عند رواد القهوة شركة “بن ازحيمان” التي تأسست عام 1921 وأنشأت فروعاً لها في جميع أنحاء الضفة، والأردن، بالإضافة إلى الحمصاني أبو شكري والذي ليس له سوى فرع وحيد في البلدة القديمة.

يواجه العديد من التجار صعوبات بسبب القمع الذي يقوم به الشرطة، يضاف إليها صعوبات استصدار التصاريح والخدمات غير الملائمة وتضييقات الاحتلال، صعوبات أدت لإجبار مطعم زلاطيمو الشهير على الإغلاق بعد 160 عاماً!

يلتقي تايلر بمجتمعات متنوعة لا تتناسب مع خطة القس ويليامز في تقسيم المدينة، فالدوماري أو “غجر القدس” يخوضون صراعاً للحفاظ على لغتهم وأسلوب حياتهم في الوقت الذي يعانون فيه من التمييز العنصري من الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء.

اليهود القرائيون، المعروفون بالسجود في صلاتهم مثل المسلمين، لا يتم الاعتراف بهم كيهود من قبل السلطات الدينية الإسرائيلية بسبب تفسيرهم الجديد للتوراة، بالإضافة إلى الصوفيون، الذين يعانون من النبذ رغم وجودهم في القدس منذ قرون حتى أنهم أنشأوا نُزُلاً في جميع أنحاء المدينة.

يؤكد تايلر، في كتابه، على الجذور العالمية التي جعلت القدس بوتقة انصهار أصيلة، فعندما بدأ مسلمو غرب إفريقيا بالوصول إليها بعد الانتهاء من موسم الحج في القرن 15، أسسوا مجتمعاً قريباً من الأقصى، فصار لسان حالهم “نحن نعتبر أنفسنا فلسطينيين من أصل إفريقي” كما قال الصحفي في جريدة القدس، موسى قوص الذي تعود جذوره إلى تشاد.

أما الوجود الهندي، فيعود إلى زمن أبعد من ذلك، كما يظهر من دار العجزة الهندية في القدس التي تعود إلى 800 عام والتي نجت من القصف عام 1967.

المقدسات في صراعات الأساطير المحلية

يروي كتاب “الأحياء التسعة” قصص المعالم الدينية الرئيسية في القدس من خلال الحكايات الدرامية، ففي مرة أرسل نابليون جاسوساً متنكراً بزي إسلامي إلى المسجد الأقصى، وأخذ رسومات لمقاسات المكان المقدس لدى المسلمين، كما روى عن تصاعد الخلاف بين الكنائس الروسية الارثودكسية والكاثوليكية حول إدارة كنيسة القيامة إلى حرب في القرم.

يتحدث تايلر في كتابه أيضاً عن قصص أو جهات ربما أقل شهرة، مثل مركز برج اللقلق الاجتماعي في القدس والذي يقدم خدمات للأطفال حيث لا تستطيع السلطة الفلسطينية القيام بذلك، أو أقدم مطبخ للحساء في العالم، والذي يقدم وجبات مجانية كل يوم منذ عام 1552، وصالون رزوق تاتو الذي شكل نقطة محورية للثقافة المسيحية القبطية منذ القرن 13، بسبب إحيائه للحج المسيحي. 

يستخلص تايلور مما قام به القس ويليامز من تقسيم المدينة درساً يمكن تطبيقه على العديد من الأمثلة في الإرث الاستعماري البريطاني من الهند حتى إيرلندا، وهو أن “التقسيم كان القاسم المشترك دوماً”

تطرق الكتاب أيضاً إلى شخصيات غير معروفة على نطاق واسع، لكنها ساهمت في تشكيل المدينة على طريقتها الخاصة، مثل فنان الخزف الأرمني تافيت أوهانسيان الذي ابتكر لافتات شوارع القدس القديمة، بالإضافة إلى تأثير المعلم والكاتب الفلسطيني خليل السكاكيني من خلال المركز الثقافي الذي يحمل اسمه، وديفيد دور، أول أمريكي من أصل إفريقي عُرف أنه زار القدس، بعد أن هرب من العبودية وكتب يوميات فريدة عن سفرته.

يروي تايلر قصصه بأسلوب المحقق الاستقصائي، فقد كشف عن تزوير موسى فيلهلم شابيرا، الذي سبب فضيحة للمتاحف التي حاولت بيع مخطوطات مزيفة للبحر الميت، كما تحدث في كتابه عن الظروف التي أدت إلى هدم إسرائيل لحي المغاربة.

ويرى تايلور أن النبي سليمان بريء من إعدام اثنين من مهندسيه كما ورد في التوراة، وأن “دعامات الصليب” كانت من صنع الإنسان وليس لها أساس تاريخي، كما تحدث عن موقع دفن رابعة العدوية.

ويرى تايلور أن القصص الحقيقية في كثير من الحالات أفضل من الأساطير، فالأساطير تشكل خطورة عند إعطائها قيمة أعلى من حياة سكان القدس، بدءاً من الغزو الصليبي في القرن 11 إلى الحفريات الإسرائيلية بحثاً عن التاريخ التوراتي.

رغم كون الكتاب قصصياً بامتياز، إلا أنه يحمل رسالة مهمة، وهي أن القدس كانت مكاناً أفضل عندما تم احتضان تنوعها الفريد بدلاٌ من القمع والتقسيم، وأنه يمكن لجميع الأديان التعايش فيها من أجل الإثراء المتبادل.

يستخلص تايلور مما قام به القس ويليامز من تقسيم المدينة درساً يمكن تطبيقه على العديد من الأمثلة في الإرث الاستعماري البريطاني من الهند حتى إيرلندا، وهو أن “التقسيم كان القاسم المشترك دوماً”.

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة