بقلم فرانشيسكا فاودري
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
خلال أمسية باردة من شهر ديسمبر في مدينة كامبريدج البريطانية، جلست على مكتبي محاولةً فهم مسألة تؤرقني، وأخذت أكتب في ظلال من الحزن الشخصي والجماعي المريب الذي شهدته وعايشته منذ الهجوم الأخير على غزة.
بينما أجلس في مكتبي المريح، لم يكن هناك ما يزعجني سوى ضجيج حركة المرور خارج النافذة، وأصوات ضحكات الطلبة العائدين إلى منازلهم بعد رحلاتهم الاحتفالية والمرح يغمرهم رغم الأجواء الباردة التي تركت آثارها على وجناتهم وأنوفهم التي احمرت من البرد، بينما كانوا يتمتعون بدفء النبيذ الساخن.
أما صديقي المفضل فإنه ينام في هذه الأثناء على صوت الطائرات الحربية الذي بات مألوفاً الآن.
إنه يشعر بالرهبة، أنا كذلك أشعر بالرهبة أو بالأحرى أحاول قدر الإمكان أن أدرك معنى الشعور بالرهبة التي لن أفهمها تمامًا أبدًا، بغض النظر عن مدى تعاطفي معه، وكما العديد من الفلسطينيين الآخرين، أصبح صديقي الآن معتاداً على ذلك الصوت بعد أن قضى حياته تحت الاحتلال العسكري الوحشي، لكنني أتساءل هل يمكن لأي شخص أن يعتاد على مثل هذا الصوت؟
كيف لي أن أفهم هذا الشعور الغريب؟ شعوري بالذنب المضاعف بسبب الامتياز الذي أحظى به وهو العيش بأمان وتمتعي بفرصة كتابة هذه الكلمات كطالبة في واحدة من أعرق الجامعات في العالم، بينما أشعر بالحزن الهائل والجامح الذي يغمر حياتي كوني امتلك ارتباطاً عميقاً بفلسطين ولدي العديد من الأصدقاء والأحباء هناك، لكنني لست فلسطينية، إذن فمن أنا لأحزن؟
وسط تناقض مشاعري تجاه الألم الذي أعاني منه إلى حد لا يمكن إنكاره، أتعلم أن أدرك أن هذه الاستجابة التي تبدو مفرطةً ومتسامحةً هو في الواقع علامة على إنسانيتي، فوظيفة جسدي الفطرية هي الشعور بالتعاطف العميق مع الذين يعيشون أوضاعاً أكثر قسوة وعنفًا وخطورةً من وضعي، ولكن ذلك لم يكن خارج نطاق دوافعي للحزن.
“حياة لا تستحق الحزن”
في الواقع، إن قدرتنا على الحزن على فقدان حياة أشخاص بعيدين عن عالمنا تكشف الكثير عن هويتنا كأفراد، حيث ترى جوديث بتلر أن ” إحدى الطرق لطرح سؤال حول من نحن في هذه الحرب هي من خلال السؤال عن من تعتبر حياته ذات قيمة، ومن هم أولئك الذين تستحق حياتهم أن نحزن عليها، ومن هم الذين لا تستحق حياتهم ذلك الحزن”.
يظهر مقطع فيديو لخطاب عام ألقته رشيدة طليب، عضوة الكونجرس الفلسطينية الأمريكية، أهمية الحزن على حياة لم نعرفها، فقد روت طليب في حديثها أنها شاهدت مقطع فيديو لأطفال غزة المصابين بصدمات نفسية وهم يبكون بين أنقاض منازلهم، بينما كان يطلب منهم ألا يبكوا.
خلال تلك اللحظة، انفجرت طليب بالبكاء، وصرخت بحزم: “دعوهم يبكون”، ثم قالت “إذا كنت لا تبكي، فهناك خلل ما”.
بقي هذا الشعور عالقًا في ذهني، عندما كنت أحاول أن أفهم حزني وحزن كل من حولي المرتبط بطريقة ما بالمأساة التي نشهدها، فبغض النظر عمن نكون أو من أين أتينا، إذا لم نشعر بالغضب والضيق والحزن، فهذا يعني أن هناك خلل ما، ويجب علينا أن نتساءل لماذا لا نتحرك نحو العمل.
إن من مصلحة القوى العالمية أن تقسم البشر إلى أولئك الذين يمكن الحداد عليهم وأولئك الذين لا يمكن الحداد عليهم، أولئك الذين تبرر المجمعات الصناعية العسكرية حزنهم، وأولئك الذين يقوضون حزنهم، لذلك يجب علينا أن نرفض هذه الرقابة على الحزن.
ما لا يدركه كثير من الناس هو أن هذه المأساة عالمية، وتتسرب إلى كل ركن من أركان المعمورة بينما نشهد الإبادة الجماعية في هذا الوقت، ومع ذلك، يختار العديد منا أن ينظروا بعيداً.
إن الشعور بالرعب لا يوجد في غزة وحدها، بل في الضفة الغربية بأكملها، حيث يتم اعتقال الآلاف من المدنيين الأبرياء بشكل جماعي دون أن يدعمهم أحد، ويمتد تعاطف وسائل الإعلام فقط إلى “النساء والأطفال” وكأن سجن الرجال الفلسطينيين وتعذيبهم وقتلهم أمراً لا مشكلة فيه، وكأن جثث الرجال الفلسطينيين هي مجرد ضمانات.
يمتد الشعور بالرعب أيضاً إلى خارج الضفة الغربية، إلى الفلسطينيين الذين يعيشون في مدينتي حيفا ويافا المعزولتين، فالناس هناك مضطهدون في حدادهم لأن الدولة تعتبر الجثامين التي ينعون أصحابها لا تستحق الرثاء.
دوامة لا نهاية لها من الصدمة
بعد استفسار إدوارد سعيد حول من يملك “إذن رواية” الأحداث العالمية، يجدر بنا أن نتساءل: من يملك إذن الحزن؟
يروي محمود درويش في كتابه “يوميات الحزن العادي”، الذي ترجمه إبراهيم مهاوي إلى الإنجليزية قصة الحزن الخاص الذي يضطر الفلسطينيون الذين يعيشون في فلسطين المحتلة عام 4819 إلى تحمله كل عام في ذكرى “حرب الاستقلال”، حين يُطلب منهم الحداد على أرواح الجنود الإسرائيليين الذين فقدوا في تلك الحرب.
وفي ذات الوقت، يجب على أولئك العرب الفلسطينيين أن “يبكوا من الداخل، أو أن ينفجروا من الضغط”، لأن “إعلان ولادة إسرائيل هو في نفس الوقت إعلان موت فلسطين”، أي أن أحد الحزنين إما أن يُعاقب الفلسطيني على تركه ويُشجع عليه أما الحزن الآخر فهو “ممنوع”.
ما وجدته من ردود فعل على العنف المتكشف، وكذلك على الصور والقصص الصادمة بلا هوادة التي تملأ أذني وذاكرتي وملف الأخبار الخاص بي وما أفكر فيه هو أنه، وعلى النقيض من وصف درويش الساخر للحزن الفلسطيني بأنه “عادي” في عنوان كتابه، فإنه لا يوجد شيء عادي في الحزن الفلسطيني.
لا يوجد شيء عادي فيه لأنه يتحدى النمط التقليدي للحزن، حيث يقع حدث سيء أو سلسلة من الأحداث التي ينجم عنها إحساس بالخسارة الحقيقية أو المتصورة.
يعاني المصابون فرادى أو جماعاتٍ من الصدمة والغضب والخوف والحزن والإنكار وما إلى ذلك، وأحيانًا تطالهم هذه المشاعر بالتناوب وأحيانًا أخرى تتجمع عليهم مرة واحدة، ثم يبدأون بعد ذلك في عملية “المضي قدمًا” وهي عملية بطيئة ومضنية في كثير من الأحيان، كما أنها عملية لا تهدف إلى التغلب على الخسارة، بل الاستمرار فيها.
أما بالنسبة للفلسطينيين، فإن عملية التغلب على الخسارة معقدة للغاية بسبب الدورة التي لا نهاية لها من الأحداث المؤلمة التي يتعرضون لها وطبيعة الحياة تحت الاحتلال، ليس هناك نهاية للحدث الصادم، فالحياة في حد ذاتها صدمة وتشكل عملية حزن متواصل على الماضي وعلى الحاضر وعلى المستقبل.
وقد أُطلق ذات التوصيف على المجتمعات المضطهدة الأخرى مثل الأمريكيين السود، الذين يعيشون وفقًا لكلوديا رانكين، “حياة حداد”، بحكم كونهم سودًا في بلد تستوطن فيه العنصرية حيث “يستوعب الأمريكيون رؤية جثث السود في طريق الذهاب والعودة اليومية بمجتمعاتهم”.
إن هذا الرضا العام عن فقدان حياة السود هو الذي دفع رانكين إلى القول بأن “موتنا داخل نظام العنصرية كان موجودًا قبل ولادتنا”، وهو شعور يبدو صحيحًا في السياق الفلسطيني، سواء في الداخل أو الخارج، حيث يمكن إطلاق النار على الفلسطيني في الشارع لمجرد كونه فلسطينيًا أو لمجرد أنه يبدو فلسطينياً.
هنا أفكر بالفلسطينيين الثلاثة الذين ضُربوا بالرصاص في ولاية فيرمونت بالولايات المتحدة يوم 25 تشرين الثاني/نوفمبر، بينما كانوا يغطون رؤوسهم بالكوفيات الفلسطينية أثناء سيرهم بالقرب من حرم جامعتهم في “أرض الأحرار”.
أتذكر مناقشة رانكين لموضوع السواد هنا في أمريكا لأن فكرة العيش في حالة حداد تنطبق بالمثل على السياق الفلسطيني، حيث العيش يعني الحزن، وهذا لا يعني بالطبع أن الفلسطينيين لا يشعرون بالفرح، ولكن هناك إيقاع ثابت من الحزن يحيط بلحظات سعادتهم.
الحزن كشكل من أشكال العمل السياسي
إذا كان هناك سبب للحزن، فيمكن شرح ذلك بالقول إن الحزن يمثل فرصة للتعامل مع المعاناة كوسيلة لمقاومة الظروف العنيفة التي نشأت منها، إنه الفرصة التي يمكننا من خلالها فتح المجال للحزن الجماعي، فرصة نعترف فيها ونشارك آلام بعضنا البعض ونطالب بمستقبل أفضل، أن تولد فلسطينياً لا يعني أن تولد ميتاً بالفعل.
إذا كان هناك سبب للحزن، فهو هذا: الفرصة لتحويل المعاناة إلى وسيلة لمقاومة الظروف العنيفة التي تنبثق عنها
وبالنسبة لرانكين، فإن الحداد الجماعي هو “أسلوب من التدخل والمقاطعة” يبني التضامن والتعاطف، ويتطلب التعامل البارد مع حقيقة جرائم القتل ذات الدوافع العنصرية والهياكل والظروف التي تسهل الإفلات من العقاب وتسمح بحدوثها.
وبالنسبة للكتّاب الفلسطينيين مثل درويش، تعتبر الكتابة بحد ذاتها شكلاً من أشكال الحزن الذي يحمل احتمالات متعددة، فخلال رثائه للباحث الفلسطيني الشهير المناهض للاستعمار إدوارد سعيد، يشير درويش إلى أن الرثاء يمكنه من أن ” يتحمل الخسارة” ومن تقديم “عزاء” وأنه يمنحه الفرصة كي “يخترع أملًا للكلام، يخترع اتجاهًا وسرابًا لتمديد الأمل”.
وفيما تعد الكتابة ترفًا بالنسبة لكثير من الناس، فإن عدد الكتاب الذين تعرضوا للرقابة أو الاعتقال أو حتى القتل بسبب كلماتهم (مثل الكاتب الفلسطيني المقاوم غسان كنفاني)، يشهد على قدرة الكلمات على التأثير على الفعل.
ورداً على احتفال سعيد “بالجماليات كالحرية” قال درويش ساخراً: ” الحياة التي لا يمكن تعريفها إلا بالموت ليست حياة”.
من الضروري إذن أن نتمم الأقوال بالأفعال، إننا نطالب بظروف تُحترم فيها كرامة الإنسان وتكون فيها حياة الفلسطينيين مهمة ليس فقط عبر الموت، حيث نقوم بقراءة الإحصائيات وحساب الخسائر، ولكن في الحياة، حيث يكون الحق في حياة تستحق العيش غير قابل للتصرف.
إن تأمين هذا المطلب، الحق في حياة كريمة، ليس مجرد حاشية لوقف إطلاق النار، وهو ليس طلباً خاصاً يمكن أن يتم تناوله في وقت لاحق، ربما بعد 75 عاماً من الآن، إنها ليست أمنية أو أمل أو رؤية طوباوية، ولكنها شرط مسبق لبقاء الإنسان، إن حزننا يخبرنا بأمر حيوي وعلينا الآن أن نستمع.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)