بقلم جوزيف مسعد
ترجمة وتحرير مريم الحمد
لم نشهد ما شهدناه خلال الأشهر القليلة الماضية من الانهيار المدوي لحرية التعبير والحرية الأكاديمية في الولايات المتحدة منذ حقبة المكارثية في الخمسينيات والقمع العنيف لاحتجاجات حرب فيتنام في أواخر الستينيات.
لقد كان هناك حملات قمعية أيضاً في أعقاب أحداث 11 سبتمبر والغزو الأمريكي للعراق وأفغانستان، وغالبًا ما كانت تُشن في الجامعات، حتى أني أذكر أنه تم في ذلك الوقت استهدافي لأول مرة لقمع أفكاري حول حول فلسطين وإسرائيل.
“يفضل أن يكون الحاكم خليطاً من كليهما، ولكن بما أنهما لا يجتمعان بسهولة، فإذا كان عليك الاختيار، فالأكثر أماناً أن يهابك الناس أكثر من أن يحبوك” – نيكولو مكيافيلي
لم يتوقع الليبراليون الغربيون أن الحجم الحالي للقمع قد يتكرر أبداً في جمهورية مثل الولايات المتحدة، فالحالة القائمة اليوم تشبه إلى حد كبير حال الجامعات في الستينيات، وقد أجبر الحراك آنذاك النظم الليبرالية على إلزام نفسها بالمثل الليبرالية التي كثيراً ما تلوح بها بصوت عالٍ.
ورغم ذلك، وباعتباري أحد ضحايا المضايقات المستمرة لأكثر من عقدين من الزمن من قِبَل جامعتي، التي تعاونت مع قوى خارجية للحد من حريتي في التعبير وحريتي الأكاديمية من خلال تهديدات صريحة وضمنية، لم أقتنع يوماً بأن هناك التزاماً حقيقياً بالمثل الليبرالية، فالالتزامات المؤسسية بهذه المبادئ في المجتمعات الليبرالية لا يتأتى إلا بمجرد الحكم عليها بأنها فعالة في مساءلة وتهديد العقيدة السياسية السائدة!
ربما يجب أن نفهم أداء الدولة الليبرالية ومؤسساتها الليبرالية أولاً كنظام لنستطيع تحليل واقع الحراك الجامعي اليوم وتأثيره.
نفس النظام
في سياق نظرياته سيئة السمعة حول ما إذا كان ينبغي للحكام أن يسعوا ليكونوا محبوبين أو أن تخاف منهم مجتمعاتهم، يرى نيكولو مكيافيلي بأنه “يفضل أن يكون الحاكم خليطاً من كليهما، ولكن بما أنهما لا يجتمعان بسهولة، فإذا كان عليك الاختيار، فالأكثر أماناً أن يهابك الناس أكثر من أن يحبوك”.
يمكننا أن نرى تطبيق هذه النظرية اليوم في كثير من الزعماء الاستبداديين والديمقراطيين على حد سواء، ففي حالة الديمقراطيين تعتبر ملاذهم الأخير الذي يعملون إلى جانبه على إنشاء آليات يمكنهم من خلالها ضمان أنهم محبوبون أيضاً!
لقد فهم كارل ماركس فعالية تلك الآليات التي تهدف إلى إنتاج “الحب” والطاعة المطلوبة غير القسرية لنظام الحكم باعتباره “أيديولوجية”، فبدلاً من النظر إلى أنظمة الحكم الاستبدادية والديمقراطية المعاصرة باعتبارها متضادة، فعلينا أن نفهمها باعتبارها نفس نظام الحكم.
وفقاً للمنظر السياسي الإيطالي، أنطونيو جرامشي، وهو قارئ ذكي لمكيافيلي، فإن هذا النظام يستخدم كميات متفاوتة من الهيمنة والإكراه لتكوين أجواء موافقة شعبية.
غالبًا ما يشار إلى النظام الذي يرجح استخدام أساليب الهيمنة على الوسائل القسرية التقليدية، التي تتمثل بالعنف، على أنه نظام “ديمقراطي”، في حين أن النظام الذي يستخدم أساليب قسرية أكثر من الأساليب المهيمنة هو نظام “استبدادي”، وكلاهما مصمم لإنتاج الخوف من النظام الحاكم من جهة ومحبته من جهة أخرى، ولكن بكميات متفاوتة.
يقصد غرامشي بالهيمنة القواعد الفكرية والمؤسسية والأخلاقية الحاكمة في المجتمع ، أو ما نسميه باختصار “الثقافة” الحاكمة، وهي ما أسماها الفيلسوف الفرنسي لويس ألتوسير بأنها “أجهزة الدولة الأيديولوجية” فيما أطلق على الآليات القسرية اسم “أجهزة الدولة القمعية”.
بدأ تداول تلك الاستراتيجيات والحديث عنها على ألسنة البراغماتيين الناطقين باللغة الإنجليزية منذ الحرب العالمية الثانية تحت مسمى فلسفة “العصا والجزرة”، ولذلك فإن فهم هذه الآليات يساعدنا على تحليل الوضع المستمر في الجامعات الأمريكية.
هيمنة مستمرة
عندما لا تعود الهيمنة كافية لتحقيق موافقة الشعب على مسار تلك الهيمنة في ما يسمى بأنظمة الحكم “الديمقراطية”، فإن ذلك يؤدي إلى أزمة السلطة، وهنا تتدخل فكرة الإكراه وفقاً لنظرية ميكافيلي، بأن “يهابك الناس أكثر أماناً من أن يحبوك”.
النظام الذي يرجح استخدام أساليب الهيمنة على الوسائل القسرية التقليدية، التي تتمثل بالعنف، على أنه نظام “ديمقراطي”، في حين أن النظام الذي يستخدم أساليب قسرية أكثر من الأساليب المهيمنة هو نظام “استبدادي”، وكلاهما مصمم لإنتاج الخوف من النظام الحاكم من جهة ومحبته من جهة أخرى، ولكن بكميات متفاوتة
لقد استخدمت هذه الاستراتيجية في كل من الأنظمة “الاستبدادية” و”الديمقراطية” خلال القرنين الماضيين، حيث استخدمتها الولايات المتحدة بشكل دوري كل 10 سنوات منذ الحرب العالمية الأولى، حتى بلغت ذروتها في قانون باتريوت وخليج غوانتانامو والاغتيالات وغير ذلك من التدابير القمعية التي تستهدف المواطنين وغير المواطنين منذ عام 2001.
في تلك الحالات، وفي الوقت الذي لا يزال فيه النظام يتمتع بمحبة الناس وبالتالي الشرعية، فإن استخدامه المفرط للإكراه قد يهدد الاستقرار ويؤدي إلى المزيد من التعبئة الشعبية ضده بدلاً من المطلوب وهو توقف التصعيد.
تعد جامعة كولومبيا معقلاً رئيسياً للحفاظ على أيديولوجية النخبة الحاكمة، ولذلك فإن الهيمنة ضرورية فيها للحفاظ على الاستقرار الأيديولوجي، وهنا تكمن العلة في الخوف من ما يعتبر انحراف طلابها وأعضاء هيئة التدريس فيها عن النص الليبرالي
في حال تحرك التعبئة الشعبية ضده، فإن النظام يخاطر بخسارة حب شعبه وتخويفه في ذات الوقت، لذا تكون التوصية أحياناً بالتقليل من الإكراه والمزيد من الهيمنة لاستعادة الاستقرار، وهنا أخطأت رئيسة جامعة كولومبيا نعمت مينوش شفيق وآخرون ممن ساروا على خطاها في حساباتهم، حيث تظهر آثار تلك الأخطاء جلياً في الحملة الضخمة ضد أعضاء هيئة التدريس والطلاب في الجامعات الأمريكية.
لقد سبقت حراك الجامعات بروفا قبل 10 سنوات خلال حرب إسرائيل على غزة عام 2014، عندما فقد ستيفن سالايتا منصبه كأستاذ في جامعة إلينوي بسبب إحدى تغريداته ضد قتل الفلسطينيين، فقد كشفت تلك الحادثة عن حدود المعارضة المسموح بها في الولايات المتحدة لإسرائيل ضمن ما يعتبر ثقافة سياسية سائدة.
يتم تطبيق نظام القواعد الليبرالية فقط عندما لا تؤدي الحرية الأكاديمية وحرية التعبير إلى الانشقاق عن الأفكار المهيمنة، إلا بقدر لا يعتبر مهدداً لتلك الثقافة المهيمنة، مما يعني أن الدفاع عن هذه الحريات لا يمكن ضمانه إلا عندما لا يتم اختبارها في الواقع، بمجرد أن تهدد المعارضة سلطة الأيديولوجية المهيمنة الحاكمة، يتدخل القمع بأشكال مختلفة ومن قبل قوى خارجية، خاصة وعامة.
تعد جامعة كولومبيا معقلاً رئيسياً للحفاظ على أيديولوجية النخبة الحاكمة، ولذلك فإن الهيمنة ضرورية فيها للحفاظ على الاستقرار الأيديولوجي، وهنا تكمن العلة في الخوف من ما يعتبر انحراف طلابها وأعضاء هيئة التدريس فيها عن النص الليبرالي، لأن ذلك سوف يؤدي إلى تأثير الدومينو على النظام الجامعي ككل في جميع أنحاء الولايات المتحدة، بل وحتى خارجها في أنظمة ليبرالية أخرى، في أوروبا وكندا وأستراليا.
التحول من هامشي إلى سائد
لقد امتد حراك الطلاب وأعضاء هيئة التدريس ضد الإبادة الجماعية الإسرائيلية المستمرة إلى عشرات الجامعات، بما في ذلك جامعة نيويورك وييل وكورنيل وهارفارد و برينستون ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وجامعة إيموري وجامعة تكساس في أوستن وجامعة كاليفورنيا في بيركلي وجامعة جنوب كاليفورنيا، بالإضافة إلى المزيد من الأماكن والتي تم ممارسة القمع فيها جميعاً تقريباً أو التهديد به على أقل تقدير.
لقد تمت إدانة الطلاب وأعضاء هيئة التدريس في جامعة كولومبيا من قبل كل من الكونغرس والبيت الأبيض ورجال الأعمال الأثرياء والمنظمات الخاصة ومدراء الشركات والصحافة المحافظة والليبرالية على حد سواء، وحتى أمناء الجامعة ورئيستها شفيق، التي قامت باستدعاء شرطة نيويورك لقمع الطلاب وحرمانهم من حرياتهم الليبرالية التي تدعيها كل الجهات السابقة.
إن القمع الذي قوبل به الطلاب وأعضاء هيئة التدريس صادم لدرجة تجعل المشهد وكأن هؤلاء الطلاب وأعضاء هيئة التدريس يدعمون الإبادة الجماعية بدلاً من معارضتها، وكأنهم يدعمون قمع شعب آخر بدلاً من الدعوة لوقف الإبادة الجماعية لشعب اضطهدته إسرائيل منذ عام 1948 بدعم الليبرالي والمحافظ الغربي على حد سواء!
إن قلب الأدوار في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في جميع أنحاء العالم الغربي هو توجه أورويلى واضح للغاية، بحيث يُنظر للفلسطينيين، الذين تم إخضاعهم بأعنف الطرق الممكنة من قبل مستعمرة استيطانية، كمعادين للسامية من قبل من يؤيدون الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل من مسيحيين أوروبيين وأمريكيين بيض، ممن قام أسلافهم السياسيون بالمشاركة أو التواطؤ أو التزام الصمت إزاء المحرقة التي وقعت باليهود على يد النازية في يوم من الأيام!
في المناخ النيوليبرالي السائد اليوم، أصبح القمع الذي يتزايد يوماً بعد يوم داخل الولايات المتحدة ضرورياً للحفاظ على الوضع الراهن المؤيد للإبادة الجماعية، فهذه المهمة لم يتم تفعيلها منذ 11 سبتمبر، من خلال التشريعات القمعية والمراقبة البوليسية فحسب، بل أيضاً من خلال عسكرة قوات الشرطة في جميع أنحاء البلاد.
لقد نشأت عقلية جديدة تماماً حول كيفية قمعهم، فعلى عكس قدرة الشرطة العسكرية التي تم نشرها على التعامل مع حركات مثل حركة “احتلوا وول ستريت” أو انتفاضة حركة “حياة السود مهمة”، فإنها لم تتمكن من القيام بذلك بسهولة مع الحراك الذي خرج من داخل جدران المؤسسات الأكاديمية.
لن يكون تحقيق السيطرة القمعية على النظام الجامعي على المدى الطويل سهلاً في ظل ثقافة جامعية لطالما ادعت وما زالت تدعي تقدير الحرية الأكاديمية وحرية الرأي، فكان لا بد من العثور على حلقة ضعيفة في سلسلة الحرية الأكاديمية، يمكن للناس أن يلتفوا حولها بسهولة أكبر، وفي هذه الحالة فهي الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
لسنوات طويلة، ظل هناك إجماع قوي حول الموقف من إسرائيل بين النخبة الأمريكية، مصحوباً بدعم شعبي واسع منذ عام 1948، فرغم وجود معارضة لهذا الإجماع دائماً، إلا أنها كانت مقتصرة على الجماعات السياسية والأفراد المهمشين أو الذين يصبحون مهمشين بسبب معارضتهم بطبيعة الحال.
أما في السنوات الخمس والعشرين الماضية، فقد انتقلت المعارضة حول قضية فلسطين من الهامش إلى التيار السائد في الولايات المتحدة، بما فيها أوساط الفنانين والعلماء والصحفيين والأكاديميين والطلاب، الذين برز منهم عدد من اليهود.
بعد أن كان نعوم تشومسكي ذات يوم الأكاديمي اليهودي الوحيد الذي انشق عن إسرائيل وتم تهميشه من قبل الرأي العام السائد عقاباً له على معارضته، تزايدت أعداد الأكاديميين والطلاب اليهود الذين أصبحوا اليوم منشقين!
قمع المعارضة
إن الإجماع السائد حول الموقف من إسرائيل هو ما يجعل القوى الليبرالية المهيمنة تعتقد بأن المدخل الأنجح لقمع المعارضة في الجامعات هو عبر الموقف من فلسطين وإسرائيل، حيث تعتقد أنه يمكنها من خلال القيام بذلك، إعادة توجيه التركيز نحو الأسئلة التي يوجد إجماع حولها، خاصة مسألة معاداة السامية وتاريخ المحرقة اليهودية وكيف أن إسرائيل هي “الديمقراطية” الوحيدة في الشرق الأوسط.
إن استخدام الموقف من إسرائيل وفلسطين كمدخل للتطبيع وقمع المعارضة داخل أسوار الأكاديمية هو أمر تكتيكي واستراتيجي على حد سواء، فهو تكتيكي لأنه، بمجرد نجاحه، سيؤدي إلى تركيز السلطة في يد إدارات الجامعات النيوليبرالية بدلاً من الكليات ولك ما حصل في جامعة كولومبيا، وسوف يكون له تأثير سلبي على مؤسسات أخرى.
دعونا نتذكر هنا أن مؤسسة فورد استخدمت الموقف من إسرائيل وفلسطين عام 2003 ، لمطالبة الحاصلين على المنح بالتوقيع على بيان يتعهدون فيه بمعارضة “العنف والإرهاب والتعصب “، خطوة أثارت إدانة في ذلك الوقت من قبل رؤساء جامعات برينستون وستانفورد وهارفارد وجامعة شيكاغو وجامعة بنسلفانيا ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وييل وكورنيل وجامعة كولومبيا وغيرها!
أعتقد أن ما أظهره الطلاب وأعضاء هيئة التدريس في الأشهر السبعة الماضية من خلال احتجاجهم هو أن فلسفة ومنهجية إعادة ترسيخ الهيمنة الأيديولوجية قد ذهبت أدراج الرياح
قام رؤساء تلك الجامعات بكتابة خطاب موجه لمؤسسة فورد في إبريل عام 2004 ، أعربوا فيه عن “مخاوف” من اللغة الجديدة في الخطاب وأضافوا: “من الصعب أن نرى كيف لا يتعارض هذا البند مع المبدأ الأساسي المتمثل في حماية التعبير في جامعاتنا”.
يعد استخدام قضية فلسطين وإسرائيل بهذه الطريقة أيضأً أمراً استراتيجياً يهدف إلى وقف توسع المعارضة الأكاديمية ضد إسرائيل، خاصة المقاطعة وسحب الاستثمارات التي تؤثر على أشكال الاستثمار النيوليبرالية والسياسة الأمريكية الشاملة تجاه الشرق الأوسط.
أذكر في هذا السياق، المعركة التي اشتدت ضدي في الفترة من 2002 إلى 2009 في جامعة كولومبيا، من أجل عرقلة فترة ولايتي، واليوم، نجد أنفسنا مرة أخرى متأثرين بهذه الحرب المستمرة، فوفقاً للفلسفة الأورويلية، تتم حالياً ترجمة معارضة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين على أنها بالضرورة تعني دعم إبادة جماعية لليهود من قبل الفلسطينيين، كما أنها تحول معارضة التفوق اليهودي الإسرائيلي والفصل العنصري الاستعماري إلى شكل من أشكال معاداة السامية، وعليه يصبح قمع الحرية الأكاديمية وحرية التعبير المحمية في الجامعات شكلاً من أشكال الدفاع عنها!
يتوهم كبار المسؤولين النيوليبراليين في الجامعات ومموليهم من القطاعين العام والخاص وحلفائهم في الحكومة بأنهم قادرون على قمع معارضة الإبادة الجماعية وتهدئة الوضع مع الاستمرار في دعم ثابت للإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل.
على النقيض من ذلك، فأنا أعتقد أن ما أظهره الطلاب وأعضاء هيئة التدريس في الأشهر السبعة الماضية من خلال احتجاجهم هو أن فلسفة ومنهجية إعادة ترسيخ الهيمنة الأيديولوجية قد ذهبت أدراج الرياح، وأنه كلما زاد استخدام الحكومة وإدارات الجامعات للإكراه، زاد تآكل هذه الهيمنة وليس العكس كما كتب ميكافيلي.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)