حرب إسرائيل الطويلة بين جنرالاتها ومتطرفيها ستبقى إلى حين

بقلم جوناثان كوك

ترجمة وتحرير مريم الحمد

بعد أحداث مارس 2023، باتت إسرائيل أقرب إلى الحرب الأهلية أكثر من أي وقت مضى منذ نشأتها، فقد توقفت مراكز المدن بسبب الاحتجاجات الجماهيرية الغاضبة، وصرح المدعي العام بأن نتنياهو لا يتصرف بشكل قانوني، كما حاصرت حشود مبنى البرلمان في القدس، وتم إغلاق عدد من المؤسسات العامة بما في ذلك مطار بن غوريون، سبق كل ذلك بأسابيع أيضاً تمرد عدد من الضباط والطيارين المقاتلين وجنود الاحتياط.

أزمة بلغت ذروتها بعد قيام نتنياهو بإقالة وزير دفاعه، يوآف غالانت، وذلك بعد أن حذر الأخير من أن التشريع يمزق الجيش ويهدد الاستعداد القتالي للدولة، مما زاد غضب الشارع، خاصة بعد تمكن نتنياهو من تمرير إجراء أول يحميه من إعلان عدم أهليته للمنصب، وهي مسألة مهمة بالنظر إلى أن نتنياهو يواجه تهماً بالفساد، والتصديق على أحكام تمنح حكومته سيطرة مطلقة على تعيين كبار القضاة وسلطة إلغاء أحكام المحكمة العليا.

وصلت احتجاجات الشارع إلى مرحلة خطرة، الأمر الذي أجبر نتنياهو بالموافقة على وقف مؤقت لخططه إخماداً للفوضى، ولكن المأزق أعمق من ذلك، فمع انحناء نتنياهو، بدأ الضغط يتصاعد من الطرف الآخر، فقد شنت مجموعات اليمين المتطرف موجة من المظاهرات المضادة الغاضبة، مهددة بالعنف ضد معارضي نتنياهو.

لم يحاول نتنياهو  تدمير “الديمقراطية الإسرائيلية” لكنه كان يستغل النقص الموجود فيها بدهاء

أما وزير الشرطة، إيتمار بن غفير، فقد هدد بإسقاط الحكومة إذا لم يمضِ نتنياهو قدماً في خطته، إلا أنه سرعان ما تم شراء موافقته على التأخير بثمن باهظ، إنشاء حرس وطني تحت سلطة بن غفير، مما يعني أن المستوطن المتطرف سوف يدير ميليشياته ضد الفلسطينيين، وسيدفع ثمنها دافع الضرائب الإسرائيلي!

نقص في الديمقراطية

لقد تم تغطية الاحتجاجات على أنها معركة لإنقاذ “الديمقراطية الإسرائيلية” و”سيادة القانون”، فإن كانت كذلك بالفعل، فإن وجود الأقلية الفلسطينية، خمس السكان، في الشارع كان أولى، فهم الذين يعانون من غياب حقوق المواطنة ولديهم حقوق أدنى من اليهود، لكنهم لم يخرجوا إلى الشارع ولم يشاركوا بالاحتجاجات لأنها لم تقدم أي مفهوم للديمقراطية يشمل المساواة بالنسبة لهم.

مع مرور السنوات، بدأت مجموعات حقوق الإنسان بإدراك هذا النقص الموجود في الديمقراطية الإسرائيلية وإن كان ببطء، حتى بات بعضها يصف إسرائيل بوصفها الحقيقي، أنها دولة فصل عنصري، فإسرائيل تفتقر إلى ضوابط ديمقراطية مدمجة وضمانات لحقوق الإنسان.

يسمح النظام الأساسي الإسرائيلي بالحكم الاستبدادي للحكومة، ولا يوجد في إسرائيل ميثاق حقوق أو مجلس ثان، أو نص خاص بالمساواة، ويمكن للحكومة دائما المطالبة بأغلبية برلمانية، الأمر الذي يجعله نظاماً يفتقر إلى الرقابة والمساءلة، ولكنه لم يكن خطأ بل كان مقصوداً كسمة في النظام من أجل حماية المسؤولين الإسرائيليين جراء اضطهادهم للفلسطينيين وسرقة أراضيهم دون الحاجة إلى تبرير قرارات تتجاوز ادعاء “الأمن القومي”.

بات مجتمع المستوطنين الثيوقراطي يعتقد أن لديه أخيرًا ما يكفي من القوة لتحل محل السلطة المؤسسية للنخبة العسكرية والأمنية

ولذلك لم نتنياهو، باستغلاله لثغرات النظام، يحاول تدمير “الديمقراطية الإسرائيلية”، ولكنه كان يستغل النقص الموجود فيها بدهاء، فالمحكمة العليا هي الثقل الوحيد الذي يوازي استبداد الحكومة، وكان الوقت قد حان من أجل إضعافها وتقويض سلطتها كما يرى نتنياهو.

حرب ثقافية

تشير القراءة السطحية للأحداث إلى أن الاحتجاجات هي رد فعل على استخدام نتنياهو للقانون كسلاح لمصلحته الشخصية، من أجل التنصل من قضايا الفساد التي تلاحقه من سنوات، هذا ربما يكون صحيحاً وأساسياً بالنسبة له، ولكن الدافع الرئيسي لشركائه المتطرفين غير ذلك، فهم يريدون التعديلات القضائية وبشدة.

ما حصل في الشارع هو تتويج لحرب ثقافية طويلة الأمد وتهدد بالانزلاق نحو حرب أهلية على جبهتين مترابطتين ولكن منفصلتين، الجبهة الأولى تتعلق بنزاع السلطة على إدارة الاحتلال ضد الفلسطينيين، والجبهة الثانية تتعلق بماهية القوانين التي يجب أن تحكم إسرائيل، القوانين الإلهية أم القوانين البشرية!

كل طرف يرى أنه من يمثل إسرائيل ولذلك يحمل علمها، فالصراع في حقيقته يدور حول أي مجموعة يهودية ستلغب دور الطاغية، قانون الجنرالات أم قانون البلطجية المستوطنين؟!

على مدى عقود، كانت المؤسسة العسكرية والأمنية هي التي تضع السياسات الوحشية ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة وتديرها، ولذلك يعرف الجنرالات جيداً كيف يسوقون لجرائمهم على أنها “أمن قومي”.

أما مجتمع المستوطنين الثيوقراطي، فهو يعتقد أنه بات لديه أخيراً ما يكفي من القوة لتحل محل سلطة المؤسسة العسكرية والأمنية، لكنه بحاجة إلى إبعاد المحكمة العليا عن طريقه، فالمستوطنون يرون أن المؤسسة القضائية ضعيفة وتعتمد على محاباة الغرب كثيراً فيما يتعلق بالتطهير العرقي للفلسطينيين، كما أنه من المؤكد أن المحكمة سوف تعيق خطوات اليمين الرامية لحظر الوجود العربي في الكنيست.

عمل لم يكتمل

للاضطرابات الأخيرة أصداء ترجع إلى منتصف التسعينيات، وتحديداً خلال فترة رئاسة وزراء إسحق رابين، حين أخذ يحاول تمرير تشريعات داعمة لاتفاقية أوسلو مع السلطة الفلسطينية، والتي قامت فكرة البيع فيها على أن الفلسطينيين إن حصلوا على شيء يوماً فسيحصلون على دولة صغيرة منزوعة السلاح ومقسمة تسيطر إسرائيل على حدودها ومجالها الجوي، ولكنها لم تتحقق في نهاية المطاف.

في ذلك السياق، يمكن النظر إلى الاضطرابات الحالية على أنها امتداد لتلك الحقبة وكأنها عمل لم يكتمل حتى اليوم، فأزمة أوسلو المتعلقة بالسلام لا تختلف عن أزمة اليوم التي رفعت شعار الديمقراطية، باعتباره موقفاً أخلاقياً لكنه يخفي وراءه لعبة صراع على القوة.

لقد أدت الحرب الثقافية العنيفة التي أثارتها أوسلو في النهاية إلى مقتل رابين، في الوقت الذي كان فيه نتنياهو معارضاً سياسياً شرساً، حيث كان يدعي أن اليمين ضحية رابين الاستبدادي، خطاب جعل الريح السياسية تهب لصالح اليمين الديني آنذاك.

لقد أدى اغتيال رابين إلى تقوية معارضيه، وسرعان ما وصل نتنياهو إلى السلطة، وضرب بأوسلو عرض الحائط، لكن اليمين الديني الناشئ آنذاك لم يتمكن من توجيه ضربة قاضية رغم ذلك، فبعد عقد من الزمان في عام 2005، أجبرهم أرئيل شارون، الجنرال الذي اعتبروه حليفاً، على الانسحاب من غزة، وقاموا بتصعيد قتالهم منذ ذلك الحين.

سنوات الانتظار

خلال العقد الأول من القرن 21، أكدت المؤسسة العسكرية والأمنية، مجدداً على أولويتها، الفلسطينيون، الذي يشكلون “تهديداً أمنياً”، فكان التدخل والسيطرة دائماً للجيش، فهو حكم الجنرالات الذي لا يمكن تحديه، لكن الظروف اليوم اختلفت.

في سنوات حكمه التي بلغ مجموعها 14 عاماً، كان لدى نتنياهو حافزاً لتجنب تأجيج الحرب الثقافية بشكل كبير، لأن قمعها يخدم مصالحه الشخصية، فكانت حكومته مزيجاً غير مريح من العلمانيين أو الجنرالات السابقين إلى جانب المتطرفين الدينيين، وكان نتنياهو هو الصمغ الذي سيطر على الفوضى، أما اليوم، فبعد سنوات من الحكم وتلوث بالفساد، لم يعد نتنياهو قادراً على السيطرة.

لو كان الفلسطينيون هم الضحايا الوحيدون للإصلاح القضائي، في الغالب لن تكون هناك حركة احتجاجية

بعد إقالة غالانت، لم يعد في الحكومة شخص من المؤسسة الأمنية للاعتماد عليه، لم يعد أمام نتنياهو إلا الاعتماد على المستوطن الثيوقراطي اليميني كحليف موثوق به، شخصيات مثل بن غفير وسموتريتش.

للمرة الأولى يصل المستوطنون الدينيون إلى تحدي سلطة المؤسسة الأمنية للاحتلال، ، كوزير للشرطة، يدير بن غفير وحدة حرس الحدود، وهي وحدة عسكرية منتشرة في الأراضي المحتلة، وخلال أيام سيبدأ ببناء ميليشياته “الحرس الوطني” ضد الأقلية الفلسطينية التي تعيش في إسرائيل وضد المتظاهرين اليهود، وما من شك في أنه سوف يحرص على تجنيد أعنف بلطجية المستوطنين.

في الوقت نفسه، يتمتع سموتريتش بالسيطرة العملية على ما يسمى بالإدارة المدنية، وهي الحكومة العسكرية التي تفرض امتيازات الفصل العنصري للمستوطنين اليهود على الفلسطينيين، كما أنه يمول المستوطنات من خلال دوره كوزير للمالية.

لن يهدأ سموتريتش وبن غفير حتى ينجحا في إزالة العقبة الوحيدة الهامة أمام حقبة جديدة من الاستبداد غير المقيد من قبل المستوطنين، وهي المحكمة العليا.

الحكم الثيوقراطي

لو كان الفلسطينيون هم الضحايا الوحيدون للإصلاح القضائي، في الغالب لن تكون هناك حركة احتجاجية، فالمتظاهرون الغاضبون حالياً من “وحشية” نتنياهو واعتدائه على الديمقراطية كانوا سيبقون في المنزل غالباً.

يواجه نتنياهو ظرفاً صعباً اليوم من أجل تعزيز مصالحه الشخصية، لم يعد لديه حل إلا الدفع بأجندة أوسع لليمين الديني ضد المحكمة العليا، لا يتعلق الأمر بالأراضي المحتلة أو بحظر الأحزاب العربية في إسرائيل فقط، بل بالمسائل الاجتماعية اليهودية الداخلية الأكثر تشدداً في إسرائيل.

خطأ نتنياهو في سعيه لإضعاف المحكمة يتمثل في دفعه لعدد كبير جداً من للاعبين اليهود الأقوياء في وقت واحد إلى تحدٍ علني، الجيش ومجتمع التكنولوجيا الفائقة وقطاع الأعمال والأوساط الأكاديمية والطبقات الوسطى، لكن قوة التطرف الديني آخذة بالتزايد ولن تتلاشى، كما لن تتلاشى معركة المحكمة العليا، سيعيد اليمين الديني تنظيم صفوفه في انتظار لحظة أكثر ملاءمة.

أما مصير نتنياهو، فهي مسألة أخرى، عليه أن يجد طريقة لإحياء خطته للتعديل القضائي قبل انهيار حكومته، وإذا لم ينجح بذلك، فإن السبيل الوحيد أمامه هو البحث عن تسوية جديدة مع الجنرالات، تحت إطار تجنب الحرب الأهلية، وفي كلتا الحالتين فلن يكون للديمقراطية مكان.

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة