بقلم حميد دباشي
ترجمة وتحرير مريم الحمد
في الوقت الذي كان فيه الفلسطينيون المحاصرين في غزة يواجهون المجاعة والقتل الجماعي، كان جنود الجيش الإسرائيلي حريصين على تصوير أنفسهم وهم يستمتعون بـ “الحفلات الموسيقية، وكراسي التدليك، والبوفيهات، وأكثر من ذلك”، في مشهد سريالي نرى فيه الإسرائيليين يتم تدليلهم فيما يذبح الفلسطينيون في وطنهم.
هذا ما يسمى بالإبادة الجماعية للاستعمار الاستيطاني، وهي ممارسة قديمة يعود تاريخ توثيقها إلى عام 1552، حين كتب الإسباني بارتولومي دي لاس كاساس كتاب “سرد قصير لتدمير جزر الهند”، والذي وثق فيه وحشية الإسبان للأجيال القادمة، حين ذبحوا “الهنود المتوحشين” في أجواء من عربدة العنف، تماماً كما يفعل الإسرائيليون مع الفلسطينيين.
التاريخ الكامل للغزو الصهيوني لفلسطين بمساعدة الأوروبيين والأمريكيين فيتم محوه باستمرار، باعتبار أن الفلسطينيين ليس لديهم تاريخ ولا إنسانية ولا ثقافة، وأن الإسرائيليين موجودون في فلسطين منذ خلق السماء والأرض، وأن الصهيونية الإنجيلية هي القصة الأهم في العالم بأسره!
أما في أمريكا الشمالية والجنوبية وأستراليا وآسيا وأفريقيا، فقد ترك المستعمرون الأوروبيون وراءهم أدلة على ممارستهم الإبادة الجماعية، ويعتقد بعض المؤرخين أن تجارة الرقيق الأوروبية عبر المحيط الأطلسي ربما أدت إلى خفض عدد سكان أفريقيا إلى النصف، في الوقت الذي تم فيه بناء الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا والعديد من المستعمرات الأفريقية على الإبادة المنهجية والتهجير والاعتقال للسكان الأصليين.
والآن، في ظل الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي الذي وصل لأعلى درجات عنفه في غزة وبقية فلسطين، عاد الاستعمار الأوروبي بسمعته المقيتة إلى الساحة العالمية بقوة!
على مدى عقود، جرى توثيق وأرشفة وربط حلقات القتل الجماعي المتعمد للسكان الأصليين في جميع أنحاء العالم من قبل متخصصين في دراسة تاريخ الاستعمار الأوروبي، وهو أمر لا تحتاجه الحالة الإسرائيلية، فقد ظهرت وحشية الجيش الإسرائيلي والمستوطنين بشكل كامل على وسائل التواصل الاجتماعي وفي وسائل الإعلام الرئيسية في الجنوب العالمي.
لقد عرضت إسرائيل بجرائمها تاريخ الاستعمار الاستيطاني الأوروبي الأميركي كاملاً بما فيه من نزعة الإبادة الجماعية،
ووسائل الإعلام الغربية أصرت بلا كلل ولا خجل على تبييض جرائم إسرائيل بتقديم “حقائق بديلة” وشيطنة الفلسطينيين وتعقيم الصهيونية والهدف تلبيش الجيش الإسرائيلي طاقية “الجيش الأكثر أخلاقية” في العالم!
الاستعمار الاستيطاني والإبادة الجماعية
في الوقت الذي كانت فيه إسرائيل تواصل ارتكاب الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، كان الكونجرس الأمريكي منشغلاً باضطهاد من ينتقد إسرائيل وملاحقة التهديدات الوهمية لليهود، وذلك بدعم من أصحاب رؤوس الأموال الذين يخيفون رؤساء الجامعات ويقتربون من فقدان عقولهم.
لطالما كان كبار المفكرين المناهضين للاستعمار وما بعد الاستعمار يقدمون الحقائق والتحليلات الناقدة والتي تعمل على تغيير تصوراتنا عن الأعمال الوحشية التي كان يرتكبها الأوروبيون والأمريكيون في جميع أنحاء العالم بشكل جذري، ومن ذلك ما قام به منظرو المساواة بين الأعراق والنسويات في الولايات المتحدة.
مثل النسخة الأمريكية، يعتقد الصهاينة أن فلسطين هي أرضهم الموعودة وأن إلههم قد وعدهم بها وأن السكان الأصليين كانوا مصدر إزعاج يجب القضاء عليه بوحشية
واليوم، تعد إسرائيل نموذجاً مصغراً لذلك التاريخ الاستعماري في داخل قشرة تسمى “الصهيونية”، ففي وصفه لهول المشهد، يقول الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، أنه “في غضون أسابيع، قُتل في غزة من الأطفال ما يفوق عدد من قتل خلال أي سنة على يد أي طرف في أي نزاع منذ أن أصبحت أميناً عاماً”.
رغم ذلك، تم تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم وتصوير الإسرائيليين كضحايا بغرض الانتقام، أما التاريخ الكامل للغزو الصهيوني لفلسطين بمساعدة الأوروبيين والأمريكيين فيتم محوه باستمرار، باعتبار أن الفلسطينيين ليس لديهم تاريخ ولا إنسانية ولا ثقافة، وأن الإسرائيليين موجودون في فلسطين منذ خلق السماء والأرض، وأن الصهيونية الإنجيلية هي القصة الأهم في العالم بأسره!
الحقيقة أن ما يفعله الإسرائيليون في فلسطين لا يختلف عما فعله الفرنسيون في الجزائر وما فعله البريطانيون في الهند و البلجيكيون في الكونغو والأمريكيون في فيتنام والإسبان في أمريكا اللاتينية والإيطاليون في أفريقيا والألمان في ناميبيا، فكلها فصول من تاريخ الإبادة الجماعية الأوروبية.
في مقالة كتبها عام 2006 بعنوان “الاستعمار الاستيطاني والقضاء على السكان الأصليين”، أوضح الكاتب باتريك وولف كيف “أن كلاً من الإبادة الجماعية والاستعمار الاستيطاني لطالما استخدما القواعد المتعلقة بالتفرقة على أساس العرق”، من أجل استعباد السكان الأصليين وتجريدهم من إنسانيتهم في الوقت الذي يسرقون فيه أراضيهم ويخربون مواردهم.
قدرنا المحتوم
قد نتساءل هنا، كيف يجرؤ شعب على أن يفعل هذا بشعب آخر؟ إلا إذا كانوا يرون أنهم مقدرون من قبل الألوهية، فالصهيونية هي النسخة اليهودية من العقيدة الأمريكية العنصرية المتمثلة في “القدر المحتوم”، وهو الإيمان بالتفوق العنصري للأشخاص البيض وشكل نهائي للغزو الاستعماري الأمريكي للأمريكيين الأصليين.
مثل النسخة الأمريكية، يعتقد الصهاينة أن فلسطين هي أرضهم الموعودة وأن إلههم قد وعدهم بها وأن السكان الأصليين كانوا مصدر إزعاج يجب القضاء عليه بوحشية، ولذلك فإن ما يفعله الجيش الإسرائيلي في غزة بعد النسخة الصهيونية من نظرية “الاستبدال العظيم”، التي ترى أن الأشخاص الملونين يحلون محل الأشخاص البيض وأن هذه العملية يجب عكسها.
الحقيقة أن الأمور ليست معقدة في فلسطين، بل هي بسيطة للدرجة التي بات فيها جنون الاستعمار الاستيطاني الأوروبي الخبيث يتكشف أمام أعيننا مباشرة، بدعم غير مشروط للصهاينة، ولهذا السبب فإن العالم بأسره، الذي عانى تاريخياً من وحشية الوحشية الأوروبية، أصبح فلسطينياً
يرفض كتاب الأعمدة الجادون والمفكرون في الولايات المتحدة هذه النظريات بل ويسخرون منها باعتبارها نظرية مؤامرة، إلا إذا كانت تلك النظريات متعلقة بإسرائيل، فتتحول تلك الأقلام والعقول إلى دعم إسرائيل وتأييدها وتسليحها أيديولوجياً.
التعصب المسيحي هو السبب الجذري لإيديولوجية “القدر المحتوم” الأمريكية، والتي تحولت الآن إلى الصهيونية الإنجيلية، فهي نظرية تسعى لغزو “الأرض المقدسة” والاستعداد للمجيء الثاني لمسيحهم، وهنا لا نتحدث عن يسوع المسيح الفلسطيني.
“أبيدوا كل المتوحشين”
في مقالة كتبها عام 1893 عن أهمية الحدود في التاريخ الأمريكي، افترض المؤرخ فريدريك جاكسون تورنر أن المستعمرين الأمريكيين رأوا ظلوا يرون أنفسهم جزءاً من الحضارة الأوروبية التي تركوها وراءهم مقابل “الهمجية التي واجهوها في العالم الجديد”، حيث يعتقد تورنر أن الشخصية الأمريكية تتشكل من خلال تلك المعتقدات، ولذلك تأصل الصهيونية الإنجيلية لمحاربة “البربرية”، وهو الدافع الأساسي الذي يحرك المشروع الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي ضد المقاومة الفلسطينية اليوم.
في رواية الكاتب جوزيف كونراد “قلب الظلام” والتي كتبها عام 1899، يهمس كورتز، تاجر العاج الذي أرسلته شركة بلجيكية غامضة إلى قلب مكان غير مسمى في أفريقيا، يُعتقد أنه دولة الكونغو الحرة، فيقول “أبدوا جميع المتوحشين”، وهي العبارة التي استعارها المؤلف السويدي سفين ليندكفيست لعنوان كتابه الصادر عام 1992، والذي ينظر في أخلاقيات جذور الاستعمار الأوروبي والعنصرية والإبادة الجماعية في أفريقيا.
هذه العبارة كانت أيضاً عنوان مسلسل وثائقي قصير تم إنتاجه عام 2021 على شبكة HBO، من إخراج الهايتي راؤول بيك، والذي يستند جزئيًا إلى كتاب ليندكفيست، الذي جاب العالم لتوثيق همجية الاستعمار الأوروبي، لكنه لم يجرؤ على الاقتراب من فلسطين، باستثناء عبارة غير كافية في إشارة إلى كيف كانت الأمور “معقدة”.
الحقيقة أن الأمور ليست معقدة في فلسطين، بل هي بسيطة للدرجة التي بات فيها جنون الاستعمار الاستيطاني الأوروبي الخبيث يتكشف أمام أعيننا مباشرة، بدعم غير مشروط للصهاينة، ولهذا السبب فإن العالم بأسره، الذي عانى تاريخياً من وحشية الوحشية الأوروبية، أصبح فلسطينياً.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)