بقلم عوض عبد الفتاح
ترجمة وتحرير مريم الحمد
لو توقفنا عند منطق دولة استعمارية استيطانية تم تأسيسها على أرض مأهولة بالسكان بعد تطهيرهم عرقياً، في محاولة لإضفاء الشرعية على حروبها ضد الضحايا الأصليين الذين ما زالوا يقاومونها، فسنرى أنها بطبيعة الحال ستعمل على تصوير أعمالها الإجرامية باستمرار على أنها حرب من أجل البقاء.
سعياً لتبرير جرائمهم المروعة في غزة، لم يعمل الإسرائيليون على شيطنة الحركة الفلسطينية المسؤولة عن هجوم 7 أكتوبر وفصل العملية عن سياقاتها التاريخية والسياسية فحسب، بل قاموا بتحميل كافة السكان المدنيين الفلسطينيين المسؤولية لتبرير الرغبة في محوهم
تعد حرب إسرائيل الحالية ضد غزة مثالاً دقيقاً على هذا التوصيف،
فمنذ اليوم الأول لهجوم حماس في 7 أكتوبر، صوَّر المسؤولون الإسرائيليون الهجوم على أنه حرب وجود، أو على حد تعبير رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنها “الحرب الثانية من أجل الاستقلال” منذ عام 1948!
لهذا السبب ذاته، تكاتفت الإدارة الإسرائيلية بأكملها على خطاه مع تنحية الخلافات السابقة مؤقتاً على الأقل، حيث أوضح مسؤولون أن الأمر يتعلق ببقاء “الشعب اليهودي” في جميع أنحاء العالم، فبهذا التصريح، تمكن نتنياهو من تشكيل مزاج عام موحد وتوجيه الجمهور الإسرائيلي وحلفائه الغربيين لخطة الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة.
يمكن القول أن نتنياهو نفسه ربما لم يكن يتوقع نجاحه لتلك الدرجة، فقد جر معه الحلفاء الاستعماريين السابقين إلى مستنقع الإنحطاط الأخلاقي في الإبادة الجماعية، مما يؤكد مرة أخرى على العقلية التي يحملها الإسرائيليون تجاه الشعب الفلسطيني.
استعمار داخلي
ظل نتنياهو مصراً لسنوات طويلة على إجهاض حل الدولتين، والآن يرفض إقامة أي شكل من أشكال السلطة للفلسطينيين في قطاع غزة بعد انتهاء الحرب، وبدلاً من ذلك، فقد فرضت الحركة الصهيونية دولتين يهوديتين، واحدة في إسرائيل نفسها والثانية في الضفة الغربية والقدس، وعلى مستويين من الفصل العنصري.
المستوى الأول يتعلق بالمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، أحفاد المطرودين أول ضحايا النكبة، فقد هم ما زالوا يتعرضون لاستعمار داخلي وتمييز ممنهج بنيوي.
المستوى الثاني هو فكرة الحرب التي تتكرر وتتجدد لتثبت هدفاً واحداً، وهو أنها تهدف في الواقع إلى إدامة الفصل العنصري الاستعماري الاستيطاني على كامل فلسطين التاريخية ولا علاقة لها ببقاء اليهود.
لقد بات واضحاً أن الفلسطينيين هم الذين يواصلون النضال من أجل البقاء في وطنهم، حتى أنهم وافقوا على مقترحات متواضعة تتضمن رؤيتهم للتعايش السلمي مع الإسرائيليين، إما في نطاق حل الدولتين أو دولة وحدوية واحدة من النهر إلى البحر، ولا يخفى على أحد أن إسرائيل هي من ترفض المقترحات هذه، مهما بلغ تواضعها، أو حتى شكلها المهين للفلسطينيين، مثل الحكم الذاتي للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة كما نص اتفاق أوسلو.
سعياً لتبرير جرائمهم المروعة في غزة، لم يعمل الإسرائيليون على شيطنة الحركة الفلسطينية المسؤولة عن هجوم 7 أكتوبر وفصل العملية عن سياقاتها التاريخية والسياسية فحسب، بل قاموا بتحميل كافة السكان المدنيين الفلسطينيين المسؤولية لتبرير الرغبة في محوهم.
مسكون بالمخاوف
بعد مرور أكثر من 60 يوماً على الحرب، ما زال ما يسمى بالمجتمع الدولي يقف مكتوف الأيدي يراقب أبشع الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية منذ المحرقة النازية، بل يزيد في بشاعتها الدعم الكامل والشرعية التي منحتها لها أعظم إمبراطورية عسكرية في العالم، الولايات المتحدة، التي تعتبر نفسها زعيمة العالم الحر.
يرى المحللون أن هذا السلوك غير الأخلاقي المشين سوف تكون له عواقب وخيمة على العلاقات الدولية والقانون الدولي وعلى مكانة إسرائيل العالمية وسلامة يهود العالم، وكأن المجتمع الدولي بعد العملية بات مسكوناً بالمخاوف التي تهدد وجوده، والتي في غالبيتها مخاوف خيالية.
لقد ظل النظام الإسرائيلي يحفر قبره بيديه على مدى سنوات، من خلال القمع والاستيلاء على الأراضي وبناء المستوطنات والقتل الجماعي وحرمان السكان الأصليين من حقوقهم في تقرير المصير
بسبب الدعم الأميركي والأوروبي الغربي المستمر، تمكنت إسرائيل من التهام كل فلسطين وبتكلفة زهيدة، كما استطاعت إقناع المجتمع الإسرائيلي بأن فلسطين كلها مملوكة لليهود فقط، وأن أي شكل من أشكال المقاومة من قبل السكان الأصليين هو عمل إرهابي وتهديد لوجودهم.
من جانب آخر، فقد قام بعض منتقدي إسرائيل بتأليف كتب وروايات تنبأت بزوال إسرائيل بسبب الانقسامات الاجتماعية والعرقية والأيديولوجية الداخلية من ناحية، وبسبب سياسة التوسعية العنصرية والاستعمارية من ناحية ثانية، وهو صراع توقف مؤقتاً في الحرب فقط لكنه لابد أن يعود.
من هنا، فإن مزاعم التهديد الوجودي من جانب الفلسطينيين غير صحيحة، فالمشكلة لدى الفلسطينيين ليست مع اليهود كشعب أو كديانة، بدليل أن الحرب لم تقم أبداً قبل المشروع الاستعماري التوسعي الصهيوني.
صراع من أجل العدالة
اضطر الفلسطينيون للنضال الشاق من أجل التحرير واستعادة وطنه المسلوب، فهو نضال من أجل العدالة والمساواة والسلام المستدام والتنمية، فلم يكن الفلسطينيون هم من خلقوا معاداة السامية كما أنهم لم يكونوا مسؤولين عن المحرقة النازية، فهذه جرائم أوروبية غربية الصنع!
ليس الشعب اليهودي من يواجه تهديدًا وجوديًا اليوم، بل هو نظام الفصل العنصري الاستعماري الاستيطاني، والحقيقة أن تفكيكه يجب أن يكون نتيجة إيجابية ليس للفلسطينيين فحسب بل لليهود أيضًا، وللإنسانية جمعاء.
لقد ظل النظام الإسرائيلي يحفر قبره بيديه على مدى سنوات، من خلال القمع والاستيلاء على الأراضي وبناء المستوطنات والقتل الجماعي وحرمان السكان الأصليين من حقوقهم في تقرير المصير، والآن، مع حرب الإبادة الجماعية في غزة، فإن هذا النظام القمعي والإبادة الجماعية سوف يحظى بالمزيد من المقت والكراهية من قبل شعوب العالم، بما في ذلك الشعب اليهودي.
إن تاريخ النضال الفلسطيني يؤكد أنه طالما استمرت المظالم، فإن جيلاً بعد جيل سوف ينهض ويقاتل ضد محو شعب بأكمله!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)