بقلم ديفيد هيرست
ترجمة وتحرير مريم الحمد
لقد أثارت استعادة جثث 6 رهائن آخرين من غزة موجة عارمة من الغضب داخل إسرائيل، فقد ضجت فيها مظاهرات لم تشهدها تل أبيب منذ الاحتجاجات على الإصلاح القضائي، حتى وصفها بعض الإسرائيليين بأنها انتفاضة.
خرج عشرات الآلاف من الإسرائيليين من وظائفهم في إضراب عام، في الوقت الذي بات يقود فيه وزير الدفاع يوآف غالانت والجهاز الأمني صراعاً مفتوحاً مع رئيس وزرائهم نتنياهو، فيما دعا زعيما المعارضة بيني غانتس ويائير لابيد الناس إلى النزول إلى الشوارع وإغلاق الطرق المؤدية إلى مطار بن غوريون.
“علينا أن نختار بين محور فيلادلفيا والرهائن، لا يمكننا الحصول على كليهما، إذا صوتنا، قد نكتشف أن الرهائن سوف يموتون أو سوف يتعين علينا التراجع لإطلاق سراحهم” – يوأف غالانت- وزير الدفاع الإسرائيلي
أما الرهائن فقد ماتوا، حيث أعلنت حماس أنهم قد قُتلوا بنيران إسرائيلية، فيما صرح الجيش الإسرائيلي بأنهم أُعدموا من مسافة قريبة قبيل محاولة إطلاق سراحهم، وألقي اللوم في مقتلهم على بنيامين نتنياهو واليمين المتطرف.
لقد كان 4 من الرهائن الستة مدرجين على قائمة الأسرى “الإنسانيين” التي وضعتها حماس، وكان من الممكن إطلاق سراحهم في المرحلة الأولى من صفقة الرهائن لو لم يرفض نتنياهو الانسحاب من ممر فيلادلفيا الذي يفصل مصر عن غزة!
تقويض صفقة كانت محتملة
هذا ما قاله قادة الأمن الإسرائيليين، الذين حذروا نتنياهو مراراً وتكراراً حول ما قد يحدث للرهائن المتبقين إذا ما استمر الأخير في إفشال الصفقة، فقبل 3 أيام، تحول اجتماع أمني لمجلس الوزراء إلى صراخ بين غالانت ونتنياهو، حسبما أفاد موقع أكسيوس.
وفقاً لأكسيوس، فقد قال غالانت خلال الاجتماع: “علينا أن نختار بين محور فيلادلفيا والرهائن، لا يمكننا الحصول على كليهما، إذا صوتنا، قد نكتشف أن الرهائن سوف يموتون أو سوف يتعين علينا التراجع لإطلاق سراحهم”.
خلال الاجتماع، واجه غالانت ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي الجنرال هرتسي هاليفي ومدير الموساد ديفيد بارنيا رئيس فريق التفاوض الإسرائيلي، نتنياهو واقتراحه بالتصويت على قرار للحفاظ على السيطرة الإسرائيلية الكاملة على طول الحدود مع مصر، معتبرين أن ذلك يقوض صفقة محتملة مع حماس.
نتنياهو ما زال متعنتاً، فهو يعلم أن النتيجة إن كانت انسحاباً إسرائيلياً مرحلياً من ممر فيلادلفيا ورضوخاً للضغوطات الدولية، فهذا يعني أنه سيواجه أزمة أخرى
وفي تصريحه لموقع اكسيوس، قال مسؤول إسرائيلي كبير: “لقد حذرنا نتنياهو ووزراء الحكومة من هذا السيناريو بالتحديد لكنهم لم يستمعوا”، ومضى التصويت قدماً مع الأغلبية لصالحه.
وعلى الأرض، لقي الرهائن حتفهم، بعد أن كانوا على قيد الحياة قبل وقت قصير من محاولة الجيش إنقاذهم، فقد “كانت صفقة عودة الرهائن مطروحة على الطاولة منذ أكثر من شهرين، لولا نتنياهو والأعذار والتلفيقات التي جاء بها، لكان الرهائن الذين علمنا بوفاتهم على قيد الحياة”، وفقاً لبيان منتدى الرهائن وأسر المفقودين.
ترددت أيضاً أصداء مقتل الرهائن في مختلف أنحاء الولايات المتحدة، وذلك لأسباب ليس أقلها أن أهل أحد القتلى وهو المواطن الأمريكي هيرش جولدبرج بولين، كانوا قد تحدثوا عن ابنهم على خشبة المسرح في المؤتمر الوطني الديمقراطي بينما هتف الآلاف من الجمهور “أعيدوهم”.
لقد كان ذلك الخطاب سبباً في تعهد بايدن “بجعل حماس تدفع” ثمن هذه الوفيات، كما أشارت المرشحة الرئاسية للحزب كامالا هاريس إلى أنه “يجب القضاء على حماس”، وكلاهما يعلم أن المسؤولية عن مقتل الرهائن تقع على عاتقهما أيضاً.
الحقيقة القاسية
لقد دعا بايدن بوضوح إلى وقف دائم لإطلاق النار قبل 4 أشهر، وفي يونيو الماضي، أصدرت الأمم المتحدة قراراً بوقف شامل لإطلاق النار على 3 مراحل.
إن واجب بايدن الأول كقائد أعلى هو التأكد من أن الحليف الأمني الرئيسي في الشرق الأوسط يلتزم بالسياسة الأمريكية، وخاصة الحليف الذي يعتمد على توريد الأسلحة الأمريكية مثل إسرائيل، ولكن الحقيقة القاسية هي أنه لو كان بايدن مستعداً لفرض سياسته الخاصة بحظر الأسلحة، لكان وقف إطلاق النار قائماً الآن ولتم إطلاق سراح العديد من الرهائن.
من ناحية أخرى، فإن من الحماقة أن تتبع هاريس هذه الخطوات أيضاً، فعليها أن تتذكر ما قاله جنرالاتها حول استحالة هزيمة حماس في غزة، ومع ذلك، فقد تكون هذه الوفيات هي نقطة التحول التي تجبر نتنياهو على التراجع وقبول صفقة لوقف إطلاق النار.
ينبغي لبايدن أيضاً أن ينظر إلى نفسه في المرآة ويرى ما يحدث في الضفة الغربية المحتلة، بعد أن حول نتنياهو انتباهه إلى 3 مدن في شمال الضفة الغربية، وذلك من خلال عملية عسكرية واسعة النطاق تسمى “عملية المخيمات الصيفية” يريد من ورائها تهجير السكان
في وقت سابق، صرح مستشار الأمن القومي الأمريكي، جيك سوليفان، موجهاً حديثه إلى عائلات الرهائن الأمريكيين المحتجزين في غزة، بأن الولايات المتحدة سوف تقدم لإسرائيل وحماس عرضاً نهائياً حول اتفاق وقف إطلاق النار ولهما أن يقبلا أو يرفضا.
لقد قيل هذا عدة مرات من قبل، وهذا أحد الأسباب التي جعلت المسؤولين الأمريكيين يفقدون كل مصداقيتهم لدى المفاوضين مصر وقطر، ولكن نتنياهو ما زال متعنتاً، فهو يعلم أن النتيجة إن كانت انسحاباً إسرائيلياً مرحلياً من ممر فيلادلفيا ورضوخاً للضغوطات الدولية، فهذا يعني أنه سيواجه أزمة أخرى.
نهاية سيطرة الأشكناز
لا تتعلق الأزمة فقط باحتمال انسحاب بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، وهما من أكثر الشخصيات تطرفاً في حكومة نتنياهو، لكنه يعرف أن إسرائيل منقسمة إلى نصفين، فأكثر من نصف الإسرائيليين يطالبونه “بإنهاء المهمة” التي فشل ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، في إكمالها.
تعد هذه المظاهرات الحالية، كما كانت المظاهرات ضد الإصلاحات القضائية في العام الماضي، إحدى رميات النرد الأخيرة في سيطرة النخبة الأشكنازية الليبرالية.
باتت تلك النخبة تشعر بفقدان السيطرة على البلد الذي بنوه، فقد فقدوا بالفعل السيطرة على الجيش وقوات الشرطة لصالح المستوطنين، ولم يبقَ الكثير في أيديهم، بعد أن أصبح هناك نزوح جماعي للإسرائيليين وأموالهم إلى أوروبا خلال العام الماضي.
ولا تنبع تصرفات نتنياهو من منطلق البقاء السياسي الشخصي فحسب، فهو أيضاً يشعر بأن إسرائيل على أعتاب ثورة يمينية، ولهذا السبب، فإن غريزته السياسية تشير إلى ظهور مخاطر كبيرة للغاية، وإذا ما حدث ذلك، فإنه سوف يكون متعارضاً تماماً مع رئاسة أمريكية ديمقراطية.
تكشف الحقائق مع مرور الوقت
ينبغي لبايدن أيضاً أن ينظر إلى نفسه في المرآة ويرى ما يحدث في الضفة الغربية المحتلة، بعد أن حول نتنياهو انتباهه إلى 3 مدن في شمال الضفة الغربية، وذلك من خلال عملية عسكرية واسعة النطاق تسمى “عملية المخيمات الصيفية” يريد من ورائها تهجير السكان.
وتأتي هذه العملية الإسرائيلية في وقت يبدو فيه نتنياهو غير قادر، لعدة أسباب، ليس أقلها الاستعداد العسكري، على فتح جبهة ثانية ضد حزب الله في لبنان.
وبمجرد بدء العملية الإسرائيلية في الضفة، بدأت الهجمات على القوات الإسرائيلية في جميع أنحاء الضفة الغربية وخاصة في منطقة جنوب الخليل.
ينبغي على بايدن وهاريس أن يأخذا في الاعتبار من أطلق النار على 3 من رجال الشرطة الإسرائيليين، رداً على العملية العسكرية في الشمال، حيث كان مطلق النار عضواً في فتح وحارساً أمنياً سابقاً في الرئاسة الفلسطينية، كما أن مهند الأسود، من سكان إذنا في الخليل، من مواليد الأردن وهو مواطن أردني عاد إلى موطنه الأصلي في الضفة الغربية عام 1998 مع عائلته بعد حصوله على لم شمل الأسرة.
يحمل هذا التاريخ الشخصي للأسود تحذيراً واضحاً حول عواقب رد فعل الفلسطينيين في الضفة الغربية، منذراً بفتح جبهة ثانية لهذه الحرب في الأراضي المحتلة، باستخدام نفس الأسلحة والتقنيات التي استخدموها في غزة في كل من جنين وطولكرم وطوباس.
علاوة على ذلك، لم يكن الأسود عضواً في حماس أو الجهاد الإسلامي أو جزءاً من أي جماعة مقاومة محلية معروفة، بل اتخذ قراراً فردياً بأن المقاومة هي الرد الوحيد على الهجوم العسكري الإسرائيلي، وهناك مئات الآلاف من الفلسطينيين المسلحين وغير المنتمين إلى أي حزب مثله في الضفة الغربية والأردن والذين يحملون نفس التفكير.
على صعيد آخر، فقد تصاعدت التوترات بين الأردن وإسرائيل بشكل كبير، حيث رافق إطلاق الهجوم حرب كلامية بين وزير الخارجية الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، ونظيره الأردني أيمن الصفدي، فكاتس لم يطلب فقط من سكان جنين المغادرة في عملية إخلاء “مؤقتة”، بل اتهم الأردن مراراً وتكراراً بتكديس الأسلحة في المعسكرات، مدعياً أنها غير قادرة على السيطرة على أراضيها.
قال كاتس: “تقوم إيران ببناء بنية تحتية للإرهاب الإسلامي في يهودا والسامرة، وتغمر مخيمات اللاجئين بالأموال والأسلحة المهربة عبر الأردن، بهدف إنشاء جبهة إرهابية شرقية ضد إسرائيل، وهذه العملية تهدد استقرار النظام الأردني أيضاً، ولذلك يجب على العالم أن يستيقظ ويتحرك، أوقفوا الأخطبوط الإيراني قبل فوات الأوان”.
رد نظيره الأردني، الصفدي، قائلاً: “كل هذا كذب، نرفض ادعاءات الوزراء العنصريين المتطرفين الذين يفتعلون التهديدات لتبرير قتل الفلسطينيين وتدمير مقدراتهم، فالاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والجرائم الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني والتصعيد الإسرائيلي في الضفة الغربية هو أكبر تهديد للأمن والسلام في المنطقة”، وأضاف: “سنعارض بكل إمكانياتنا أي محاولة لتهجير الشعب الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة أو خارجها”.
حريق أكبر
لقد أصبح المسرح مهيأً مرة أخرى لعملية يمكن أن تستمر لمدة طويلة مثل غزة في الضفة الغربية المحتلة، ولن يستطيع الرئيس الفلسطيني محمود عباس إيقافها، فالمراهقون الفلسطينيون يقاومون، فشباب مثل وائل مشاح وطارق داود ولدوا بعد أوسلو، ولم يشهدوا الانتفاضة الأولى ولا الثانية.
لقد تم إطلاق سراحهما خلال عملية تبادل أسرى بين إسرائيل وحماس في نوفمبر عام 2023، حيث صرح وائل وقتها عن محنة الأطفال الذين يتعرضون للضرب والإساءة داخل السجون الإسرائيلية، فكانت رحلته القصيرة محددة النهاية سلفاً، حيث قالت والدته: “لقد تحول من أسير إلى مطلوب في مواجهة الاحتلال ثم شهيداً”.
قُتل وائل بطائرة بدون طيار فجر يوم 15 أغسطس أثناء اشتباكه خلال غارة إسرائيلية على نابلس، وهناك الآلاف مثله الذين يتم دفعهم إلى المعركة!
من بين المقاتلين الآخرين الذين قتلتهم إسرائيل، قائد كتيبة طولكرم محمد جابر، المعروف باسم أبو شجاع، والذي وصفته إسرائيل بأنه أكثر المسلحين المطلوبين لديها، وقد كان يبلغ من العمر 26 عاماً فقط، حيث ولد بعد 4 سنوات من أوسلو.
كان أبو شجاع لاجئاً في مخيم نور شمس، وأصله من مدينة حيفا، وقد أدى اغتياله إلى إلهام الكثيرين للانضمام للمسلحين
رغم التردد الواضح لحزب الله وإيران للتورط في الحرب، إلا أن جميع الأسباب باتت موجودة لإشعال حريق أكبر بكثير، فإسرائيل في قبضة التمرد اليميني الديني الاستيطاني، ورئيس الولايات المتحدة يتم انتهاك سياسته من قبل حليفه الرئيسي، والمقاومة في غزة لن تستسلم، أما الفلسطينيون في غزة فلن يهربوا، والفلسطينيون في الضفة الغربية مستعدون الآن لتصعيد خط المواجهة، في ظل انقسام كبير مع الأردن، الدولة الثانية التي تعترف بإسرائيل.
باتت الرسالة واضحة بالنسبة لبايدن أو هاريس، فالتكلفة الإقليمية لعدم الوقوف في وجه نتنياهو يمكن أن تفوق الفوائد المحلية الناجمة عن جره إليه!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)