بقلم سمية الغنوشي
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
تركع على ركبتيها في التراب، ليست عجوزًا كما قد يبدو لمن ينظر لوجهها المرهق، لكن الجوع شاخ بها، ونَحَت في ملامحها خريطة ألم لا تخطئها العين، عظامها بارزة من ثوبٍ خشنٍ ممزق، جلدها باهت كأن الحياة تراجعت عن أطرافها، تنبش الأرض بأصابع مرتجفة، وكأنها تنقب عن أمل مدفون، عن ذرة دقيق عالقة في شقوق الأسفلت.
حولها، لا يصلي الناس، بل ينقبون مثلها في التراب عن البقايا، عن الفُتات، عن كل ما لم تبتلعه الرياح، أو تسحقه أقدام الهاربين من القصف، أو تدوسه جنازير الدبابات.
فجأة تنهار.. لم تسقط، بل انهارت بكلّيتها، وكأن ثقل الجوع سحبها من الداخل إلى حضن الأرض، وتبكي بشدة تشقّ سكون ذلك الشارع المدمر.. وتصرخ: “أطفالي سيأكلون الدقيق الذي كشطته من الأرض!”
هذا المشهد ليس لحظة عابرة في فيلم خيالي، بل صورة حقيقية تتكرر في شوارع غزة المحاصرة، ليس هذا جوعًا طارئًا، بل عملية خنق متعمدة، منظمة، وممنهجة، ليس فشلاً في الإغاثة، بل سياسة، المجاعة ليست نتيجة الحرب، بل إحدى أدواتها.
حين تصبح المساعدات فخاً
لأسابيع، حُجِب الدقيق، خُزِّن عنوة، ثم أُفرج عنه ببطء، لا كإغاثة، بل كوسيلة إذلال، كانت العائلات تمشي أميالًا، تمرّ على الجثث، والحفر، وبقايا القذائف، نحو مواقع توزيع الغذاء، فقط لتجد نفسها أمام أقفاص وأسلاك شائكة وجنود مدججين وطائرات بدون طيار تراقب من السماء، وعندما يركض الجوعى نحو الطعام، تطلق عليهم النار.
في رفح وحدها، قُتل أكثر من ثلاثين مدنياً، بينهم أطفال ونساء، برصاص جيش الاحتلال عند محاولة الحصول على كيس طحين، لم تكن مصادفة، بل كانت كميناً.
المساعدات اليوم لم تعد إغاثة، بل أداة تحكم، حصة غذاء واحدة مقابل خضوع كامل، وفي حين أن 1750 سعرة حرارية لكل فرد كما تعلن مؤسسة “غزة الإنسانية” المدعومة أمريكياً، ليست كافية حتى لبقاء إنسان على قيد الحياة، إلا أن أغلب سكان غزة لا يحصلون حتى على هذا الحد الأدنى.
شمال غزة يعيش على ما يعادل علبة فاصولياء في اليوم، ما يعادل 245 سعرة حرارية فقط، وفق منظمة أوكسفام، فأما الأطفال يمصّون أوراق الشجر، والكبار يعجنون الدقيق الممزوج بالرمل ليُسكتوا صرخات البطون، الجسد ينهار على مهل، والتنفس يتباطأ، والجلد يلتصق بالعظم، والمعدة تهمس: فارغة، فارغة، فارغة.
درس التاريخ الذي لا يريد العالم أن يتعلمه
ليست هذه هي المرة الأولى التي يُستخدم فيها الجوع كأداة للإبادة، ففي أربعينيات القرن الماضي، وضعت ألمانيا النازية خطة تُعرف بـ”خطة الجوع”، لتجويع المدنيين في الاتحاد السوفييتي وغيتوهات اليهود، مات الملايين، ليس بسبب الحرب، بل كجزء من سياسة إبادة معتمدة.
النازيون كانوا يصنّفون البشر وفق حصص الغذاء: 100٪ للألمان، 70٪ للبولنديين، 20٪ لليهود، المتاجر كانت فارغة ليس لأن الإمدادات شحيحة، بل لأن التجويع كان مقصودًا، حين قال هانز فرانك، حاكم بولندا النازي، بصراحة: “أن نحكم على 1.2 مليون يهودي بالموت جوعاً لا ينبغي أن يُذكر إلا بشكل هامشي.”
واليوم، في غزة، أكثر من مليوني إنسان – كل سكان القطاع بلا استثناء – يُدفعون إلى المجاعة، دون استثناءات، ولا حماية لصغار أو مسنين، فخطة ما يُسمى بـ”صندوق الجوع العالمي”، التي ستشمل مرحلياً 1.2 مليون شخص، تكرّر نفس منطق التقسيم النازي، وتترك النصف الآخر لمصير مجهول.
حتى من يتم شملهم ضمن الخطة، سيحصلون على أقل من 1000 سعرة حرارية يومياً، وهو ما يقارب بشدة ما حصل عليه اليهود في غيتو وارسو.
غزة التي ينهشها الجوع… ويسخر منها العالم
تقول الأمم المتحدة إن غزة اليوم هي أكثر الأماكن جوعاً على وجه الأرض، لا توجد منطقة أخرى يواجه فيها 100٪ من السكان خطر المجاعة، ومع ذلك، يقف العالم متفرجًا، بل ساخرًا أحيانًا.
ووزير المالية في دولة الاحتلال، بتسئليل سموتريتش، صرّح أن “حبة قمح واحدة لا يجب أن تدخل غزة”، بينما نجد جماعة “محامون من أجل دولة الاحتلال” في بريطانيا تقترح أن الحرب قد “تساعد في الحد من السمنة” في القطاع.
حتى المدير التنفيذي لمؤسسة “غزة الإنسانية”، وهو جندي سابق في مشاة البحرية الأمريكية، استقال من منصبه محذرًا من أن المشروع يتناقض مع أبسط المبادئ الأخلاقية.
لكن كيف يمكن لأي مشروع أن ينجح في ظل الحصار؟ فالمساعدات تُنهب على الطرقات، والعصابات المسلحة تتحرك بحرية في المناطق التي يسيطر عليها جيش الاحتلال، فيما حذرت الأمم المتحدة في مذكرة داخلية من أن هذه العصابات ربما تحظى بحماية ضمنية، إن لم تكن علنية.
وعندما حاول سكان غزة حماية الطعام، قُصفوا، ما أدى إلى ارتقاء اثني عشر حارسًا في الغارات، ليس لأنهم سرقوا، بل لأنهم حموا، فهذه ليست فوضى، إنما تصميم وإرادة.
ليسوا جوعى فقط… بل مجردين من الكرامة
في الحروب هناك جوع، وهناك نزوح، وهناك خسائر، لكن لا يوجد مكان آخر على الأرض يُحاصر فيه شعب بأكمله، ويُقصف، ويُجوع ببطء، لا توجد ساحة معركة أخرى تشبه غزة، إنها ليست ساحة قتال، إنها سجن يشهد مجزرة بطيئة.
ثمانون عامًا مضت على توثيق أطباء يهود في غيتو وارسو لمدى تأثير الجوع على الجسد، حيث كتب الطبيب إسرائيل ميليكوفسكي: “أمسك قلمي والموت يحدق في غرفتي… في هذا الصمت السائد تكمن قوة وعمق ألمنا.”
أطباء غزة يكتبون الآن نفس السطور، يعالجون أطفالاً بعينين غائرتين، بصدور نحيلة كأنها نسيت كيف تتنفس، يشاهدون الرضع يموتون لأن زجاجة الحليب غابت، ولأن الكهرباء قُطعت عن الحاضنات، يتحدثون إلى العالم، لكن العالم لا يسمع.
بعد أن فقدوا بيوتهم، ومخابزهم، ومدارسهم، بعد أن حُوّلت عائلات إلى رماد، يُحرم سكان غزة اليوم من الخبز، لا يتضورون جوعًا فقط، بل يُجردون من آخر ما تبقى لهم: الكرامة.
يُطاردون عندما يتجمعون حول شاحنة دقيق، يُطلق عليهم النار عندما يأكلون، تُسحق أرواحهم بعد أن سُحقت أجسادهم، لا لأنهم يشكلون خطرًا، بل لأنهم لا يزالون على قيد الحياة، لأنهم لا يزالون يُصرّون على الحياة.
في زاوية من الأنقاض، تجلس أم على ركبتيها، ما زالت تبحث، ما زالت تبكي، تحاول أن تطعم أطفالها ما تبقى من الحياة… من حفنة دقيق مغطى بالتراب ومبلل بالدم.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)