حكاية 13 جديلة تسللت من سجن إسرائيلي

حكاية 13 جديلة تسللت من سجن إسرائيلي

شابات فلسطينيات في سجون إسرائيلية بادرن بقص جدائل شعورهن تعبيراً عن التضامن ليس فقط ضد سرطان الثدي، وإنما رفضاً لسرطان الاحتلال الذي طال أمده أيضاً، فما حكايتهن؟

 كان عمري 21 عاماً تقريباً ، وكانت سنة تخرجي من قسم التصوير في معهد للفنون والتصميم في القدس المحتلة، كنت ما زلت أتذكر حوادث الطعن المتتالية في المدينة المقدسة إثر قيام الشرطة الإسرائيلية باغتيال مهند الحلبي في أكتوبر من العام 2015 في البلدة القديمة.

لقد كانت عمليات الطعن ردة فعل على تزايد عنف شرطة الاحتلال والمستوطنين بحق الفلسطينيين، والذي بلغ أوجه بعد قيام مستوطنين بحرق منزل عائلة الدوابشة في قرية دوما في الضفة الغربية، مما أودى بحياة الأبوين سعد ورهام إلى جانب طفلهما علي الذي لم يكن قد تجاوز 18 شهراً من عمره، تاركين خلفهم طفلهم أحمد ذو الأربع سنوات مصاباً بحروق.

في ذلك العام، شهدت مناطق شرقي القدس اعتداءات يومية من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي على الشبان الفلسطينيين، من التفتيش المذل إلى الاعتقال العشوائي أو حتى القتل لمجرد الاشتباه! كل من كان يقصد البلدة القديمة بقصد العبادة كان عرضة لإطلاق الرصاص العشوائي وقنابل الغاز المسيلة للدموع والرصاص المطاطي، حتى بات يعرف باب العامود باسم “باب الشهداء”.

لم تكن النساء والفتيات الفلسطينيات بمنأى عن هذه الاعتداءات، فعلى سبيل المثال، قامت قوات الاحتلال بقتل الفلسطينية فاطمة حجيجي (16 سنة) والفلسطينية سهام نمر (49 سنة) بعد ادعاء قيامهما بمحاولات طعن لجنود إسرائيليين عام 2017 قرب باب العامود، ومنذ ذلك الحين، امتلأت السجون الإسرائيلية بالفلسطينيين.

وبعد التخرج، سافرت إلى باريس لأقدم مشروعي للتصوير، ثم بدأت العمل في استديو على ضفاف نهر السين في مدينة الفن، كان قد فتح الباب لمساعدة الفنانين الفلسطينيين عرفاناً لإرث محمود درويش وإدوارد سعيد الثقافي.

اعتداء على أجساد النساء!

عندما غادرت المدينة المقدسة إلى باريس التي تقدس أجساد النساء بطريقتها الخاصة، واقتربت من النساء اللواتي يحترفن المشي على السجادة الحمراء، لم يكن بمقدوري إلا تذكر أجساد نساء فلسطينيات ملقاة على الأرض مصابة أو تحتضر في شوارع القدس، فأقف لأسأل نفسي “كيف لي أن أتمتع بمعالم باريس وجمالها وأنا أعلم أن في وطني نساء وفتيات يتألمن أو محبوسات خلف القضبان، إذا فكرن في صنع الكنافة فلن يجدن إلا بعض الخبز الناشف في محاولة لتخفيف مرارة السجن اليومية.

ظلت مشاهد العنف الإسرائيلي ضد الفلسطينيين التي كنت أشاهدها في الأخبار تلاحقني في الغربة، لم أكن أستطيع التفكير في خطوة جديدة في دراستي أو التخطيط لمستقبلي بينما نساء وفتيات فلسطينيات يحاولن إتمام شهادة ثانوية مؤجلة بسبب التعذيب والإذلال داخل السجون الإسرائيلية، حتى قررت التفكير بطريقة لمقاومة الاحتلال والمساهمة بشكل ما بدلاً من دور المتفرج على تضحيات أهل بلدي.

عندما عدت إلى فلسطين، بدأت بزيارة منازل بعض الأسيرات الفلسطينيات ومقابلة أهاليهن، بالإضافة إلى زيارة أسيرات تم إطلاق سراحن مؤخراً، أبرزهن كانت لينا الجربوني من قرية عرابة في الجليل الأدنى، والتي أطلق سراحها في أبريل 2017 بعد 15 عاماً في السجن حتى سميت “عميدة الأسيرات الفلسطينيات”.

سألت لينا عن ظروف السجن، خاصة بالنسبة للفتيات بعمر المراهقة واللواتي كان يطلق عليهن “الزهرات” في مجلة شهرية كانت تنشرها الأسيرات، سألتها عما كانت تفعله لتعلم الفتيات تدبر أمورهن والاعتناء بأنفسهن داخل السجن، وما الذي كانت تفعله لتخفف عنهن.

نوع من التضامن

 

خلال حوارنا عن ذكريات السجن، استأذنت لينا لتعود بكومة من الجرائد القديمة وقد خبأت بينها شيئاً، طلبت مني أن أفتحها لأجد 13 جديلة شعر ربطت نهاياتها بشريط وردي اللون، لم أتمالك نفسي من البكاء في لحظة لم أكن قد عرفت فيها تفاصيل القصة بعد.

أما لينا فقد كانت قادرة على تذكر صاحبة كل جديلة بوضوح عجيب فهي من قامت بقصها بيدها كما أخبرتني، قالت وهي تشير إلى الجدائل ” هذه لمرح باكيير، وتلك لنورهان عوض، والأخرى لتسنيم حلبي”.

وتبدأ حكاية الجدائل كما أخبرتني بها لينا من يوم عادي في إحدى زنازين سجن الهشارون الإسرائيلي، حيث كانت تتحلق الأسيرات للاستماع إلى برنامج “الأسرى” الإذاعي على تردد راديو فلسطين الذي نجح في اختراق جدران السجن، فالبرنامج كان الوسيلة الأسرع للأسيرات للتواصل مع العالم الخارجي من خلال الاستماع إلى  تسجيلات الرسائل من أهلهن وأصدقائهن مباشرة عبر الأثير، على عكس الرسائل المكتوبة أو الزيارات التي كانت تأخذ زمناً.

وتعود فكرة قص الجدائل إلى إحدى الإعلانات خلال البرنامج الإذاعي عن حملة للتوعية بسرطان الثدي، الأمر الذي دفع عدداً من الأسيرات إلى التعبير عن رغبتهن بالمساهمة بشيء ما، ولم يجدن ما يفعلنه إلا التبرع بجدائلهن لمرضى السرطان بعد ربطها بخيوط وردية من خيطان التطريز التي كانت لديهن، وكانت لينا التي قاربت مدتها على الانتهاء داخل السجن هي المرسال الذي حمل الجدائل إلى خارج الجدران بعد أن أخذت الجدائل ضمن مقتنياتها الشخصية وتعهدت بإيصال مساهمة الأسيرات.

غلفت لينا الجدائل بإحكام مرة أخرى ووضعتها بين يدي وحملتني مسؤولية إيصال التبرع بشكل ما، أخدت الجدائل على مضض حتى أنني خبأتها شهوراً لم أكن أفتحها فيها إلا للاطمئنان أنها في حالة جيدة، وأنا أفكر كيف يمكنني أن أقدمها للعالم من خلال الفن.

فن وحياة ومقاومة

قررت أخيراً تصوير الجدائل وثوثيقها في نسخ ورقية طورتها بيدي في بيتي في كفركفنا، بالإضافة إلى اختيار 3 جدائل وعرضها في إطار لوحة أسود اللون في محاولة لإيصال مشاعر الأسيرات وهن يقدمن جدائلهن، أردت تجاوز عدسات الكاميرا لتقريب الجمهور أكثر من قصة الأسيرات حتى تصبح أكثر تأثيراً.

 حاولت إيصال رسالة الأسيرات عبر اللوحات الثلاث، فمنحنيات الشعر في أطراف الجدائل كانت تعبيراً عن جسد الأسيرة الملقى على أرض السجن بين حياة يمثلها الضوء المشع من طرف اللوحة السفلي، وموت متمثل بأرضية اللوحة السوداء، فيما مثلت الجدائل رمزاً لمقاومة القمع والقهر النفسي والجسدي داخل السجن، في رسالة ثمينة للتمسك بالحياة إلى سيدات يقاومن السرطان الذي يشبه الاحتلال، فهما نوعان من السرطان لا يمكن قهرهما إلا بالمقاومة والتضامن. 

تبرعت بالجدائل لمركز سرطان الثدي في رام الله لاحقاً، بعد أن حاز المعرض الذي أسميته “مقاومة الجدائل” على جائزة من مؤسسة قطان للإبداع الفني عام 2018، ولكن الإنجاز لم يكن لي بل كان هدية الأسيرات التي قدمت بروح الفنان الفلسطيني الراحل حسن الحوراني.

في أكتوبر، شهر التوعية بسرطان الثدي من كل عام، يتضامن الناس حول العالم مع مرضى السرطان، وفي فلسطين يتضامن الناس أيضاً على صعيد آخر ضد سرطان الاحتلال، ففي مخيم شعفاط في القدس المحتلة في أكتوبر 2017، قام شباب من المخيم بحلق رؤوسهم لتضليل الاحتلال عن الوصول إلى شاب حليق كان قد نفذ عملية فدائية وقتل جندياً إسرائيلياً.

منذ أكثر من 7 عقود، يواصل سرطان الاحتلال  قتل النساء والرجال على حد سواء، وفي أي مكان داخل الأراضي الفلسطينية، أما الفلسطينيون فما زالوا يقاومون هذا السرطان الذي يهاجم كل جوانب حياتهم بطرق تزداد إبداعاً وتنوعاً كل يوم معتمدين على مقاومة أجسادهم بالدرجة الأولى.

مقالات ذات صلة