بقلم حميد دباشي
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
فجرت وفاة الشابة الكردية الإيرانية مهسا أميني أثناء احتجازها لدى شرطة طهران في 16 سبتمبر/أيلول 2022 انتفاضة اجتماعية وطنية تحت شعار “زن، زندغي، آزادي” (امرأة، حياة، حرية) قادتها في المقام الأول النساء والفتيات، وأصبحت واحدة من أكثر اللحظات ثورية في تاريخ إيران المعاصر.
وبعد فترة وجيزة، سعت عصابة من الدجالين المغتربين إلى استغلال تلك الانتفاضة لأغراضهم الخبيثة ومعظمهم من المحيطين برضا بهلوي، ابن آخر ملوك بهلوي المخلوع والهارب والمؤيد لدولة الاحتلال والذي فقد مصداقيته.
ولم تتعرض كرامة انتفاضة أميني للتهديد من قبل النظام الحاكم في إيران فحسب، بل، وبشكل أكثر مكرًا، من قبل بهلوي ومسيح علي نجاد ومن هم على شاكلتهما.
وفي أعقاب انتفاضة أميني، بدأت في كتابة سرد مفصل للأحداث، ووضعها ضمن القوس التاريخي الأوسع لقرنين من الانتفاضات الديمقراطية في إيران والمنطقة بالعموم.
كان هدفي من تأليف هذا الكتاب مزدوجًا: أولًا، انتزاع انتفاضة “أميني” من براثن الملكيين المغتربين ومُغيّري الأنظمة المدعومين من الولايات المتحدة، وثانيًا، إبرازها بقوة ضمن القوى التاريخية التي شكّلت التطلعات الثورية المتناقضة لعالم ما بعد ديمقراطي تمامًا.
فيما يلي مقتطف من كتابي الصادر مؤخرًا بعنوان “إيران في ثورة: تطلعات ثورية في عالم ما بعد ديمقراطي” (دار هاي ماركت، 2025).
رحلة ثورية
بدأتُ مسيرتي الأكاديمية في أواخر سبعينيات القرن الماضي، مفتونًا بالثورة الإيرانية بين عامي 1977 و 1979، وبعد عقود وتحديداً عام 2009 نشرتُ كتابًا عن الثورات العربية، حيث يغطي هذا المسار ما يقرب من نصف قرن من التأمل في جدوى أو استخدام أو عواقب كل هذه الثورات، ليس فقط في إيران أو العالمين العربي والإسلامي، بل أيضًا في الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر، والثورة الروسية في القرن العشرين، والثورات الصينية والكوبية والجزائرية التي أطرت إلى حد كبير مصطلحات تفكيرنا النقدي بشأن الانتفاضات الاجتماعية الضخمة.
ما الذي حققناه، وماذا خسرنا، وأين نقف الآن، بعد عقود وأجيال من كل هذه الانتفاضات والاضطرابات؟ ما الذي يُشكل نجاح الثورات، وبأي معايير نقيس إخفاقاتها؟ من أقاصي العالم العربي والإسلامي إلى أقاصيه، تحكم مجتمعاتنا وسياساتنا طغمات عسكرية، وملوك غير منتخبين، ومزاعم زائفة وهشة حول “الديمقراطية”، وفوق كل ذلك، ملايين من المتحدين الذين سئموا من محاولاتهم الفاشلة للظهور كديمقراطيين
تبلورت كل هذه التأملات في خريف عام 2022 عندما ثار وطني مجددًا ضد جمهورية إسلامية تحكمه منذ ما يقرب من نصف قرن.
هل كانت هذه واحدة من بين ثورات أخرى لا تُحصى، ستُقمع بوحشية قريبًا؟ أم كانت ثورة “حقيقية”؟ لإسقاط النظام الحاكم وجلب ماذا تحديدًا إلى السلطة الملكيون المغتربون، ومنظمة مجاهدي خلق الطائفية، و”العلمانيون” المتشددون، كما يسمون أنفسهم، ومغيرو الأنظمة الممولون من قبل مجموعة متنوعة من الجهات الرجعية العاملة داخل الحكومة الأمريكية؟ ولتحقيق ماذا تحديدًا؟ الديمقراطية، وسيادة القانون، والعدالة الاقتصادية والاجتماعية؟
هل يُمكننا أن نتمسك بمثل هذه المُثل والتطلعات بعد الآن، في هذا الوقت المتأخر من القرن الحادي والعشرين؟ لم يكن لديّ أدنى شك في شرعية وعدالة الانتفاضة الجماهيرية في إيران، ولكن كيف يُمكننا أن نثق في إصلاحات جادة داخل الجمهورية الإسلامية المُتمردة، أو في تشكيلة الملكيين الفاشيين الأوائل، أو العلمانيين، أو مُغيري النظام المُدعومين من قِبَل الولايات المتحدة، والذين كانوا يُطالبون بخلافتها؟
كنت قد بدأتُ دراستي العليا في جامعة بنسلفانيا في فيلادلفيا عندما اندلعت الثورة الإيرانية (1977-1979)، وقد احتُجز أعضاء السلك الدبلوماسي الأمريكي رهائن في طهران بين نوفمبر/تشرين الثاني 1979 ويناير/كانون الثاني 1981.
وإلى جانب آلاف الطلاب الإيرانيين الآخرين، تقطعت بي السبل في الولايات المتحدة، ولم أستطع العودة إلى إيران لمواصلة مُشاركتي في الثورة الإيرانية، التي كنتُ أخطط لكتابة أطروحتي للدكتوراه عنها.
لذلك، غيّرتُ موضوع أطروحتي وكتبتُ عن حدث تاريخي نظريّ وبعيد تمامًا، وفي كتابي الصادر عام 1989 بعنوان “السلطة في الإسلام: من ظهور محمد إلى قيام الأمويين” سعيتُ إلى فهم الديناميكيات الداخلية للحظة تأسيس دين عالميّ لطالما طارد التاريخ ودائمًا بعنف.
لكنني لم أستطع الابتعاد عن الثورة، ففي كتابي “لاهوت الانفصال: الأساس الأيديولوجي للثورة الإسلامية في إيران” والصادر عام 1993، أمضيتُ عقدًا من الزمن في إعداد سردٍ مُفصّل للثورة الإيرانية بين عامي 1977 و1979.
وعودٌ خاسرة
وعندما نشرتُ أحدَ أحدثِ كتبي، “الإمبراطورُ عارٍ: حولَ الزوالِ الحتميِّ للدولةِ القومية” (2020)، كنتُ على قناعةٍ تامةٍ بأنَّ وحدةَ “الدولةِ القومية” المصنَّعةَ استعماريًا، والديمقراطياتِ التي يُفترضُ أن تحكمَها، قد استنفدَتْ مسارَها، ولم تعدْ لها شرعيةٌ مؤسسيةٌ، فقد حُوِّلَت إلى هيكلٍ ميتٍ لبقايا استعماريةٍ وُجِدَتْ لتعذيبِ الناسِ بدلًا من تسهيلِ حياتهم، ومصدرًا لحرمانِهم الاقتصاديِّ والسياسيِّ بدلًا من أن تكونَ آليةً للرعايةِ الاجتماعية.
ظننتُ أن أسطورة الدولة ما بعد الاستعمارية قد فقدت بريقها منذ زمن طويل، لكن السؤال البديهي ظلّ قائمًا: إذا كانت وحدة “الدولة القومية” مُستنفدة معرفيًا وعديمة الجدوى، كما هو سراب الديمقراطية، فماذا إذن؟ إلى أين نتجه من هنا؟ إذا كان الزخم الذي نشهده في إيران عام 2022 يحمل بالفعل إمكانات ثورية، فما الغاية التي يتجه نحوها، هل هي دولة أفضل، نظام سياسي أكثر ديمقراطية وتمثيلًا؟ كيف يُمكننا، في عصر دونالد ترامب، وناريندرا مودي، وفيكتور أوربان، وجايير بولسونارو، أو حتى في ظل الجغرافيا السياسية لخامنئي والسيسي وأردوغان والأسد، أن نتمسك بأي أمل في ثورة ناجحة أو ديمقراطية تمثيلية؟
بدأتُ أتابع عن كثب الأحداث في إيران في خريف عام 2022 وأنا أتساءل: أين يمكن أن نجد نموذجاً للديمقراطية، إن وُجد؟ الروس لا يعيشون في ديمقراطية، ولا الصينيون، ولا الكوريون الشماليون، وهم لا يدّعون الديمقراطية، ما الذي يملكه الأمريكيون ولا يملكه الصينيون والروس؟ الحرية، كما يقولون؟
حرية فعل ماذا؟ انتخاب دونالد ترامب، العنصري الأبيض المتعصب الصهيوني الإنجيلي، رئيسًا لهم بنظرية الفاشيين الذي انقلب على نفسه واستغل وأساء استخدام المؤسسات التي أوصلته إلى السلطة ليُدبّر انقلابًا انتخابيًا عنيفًا؟ وماذا تريد شعوب دول مثل مصر أو إيران أو تركيا إذن؟ هل تريد أن تواصل نضالها الديمقراطي حتى تتمكن يومًا ما من انتخاب ترامب مصري أو تركي أو إيراني؟ أو بايدن؟ لماذا قد يرغب أي إنسان نزيه في أن يكون له أي علاقة بهذا الاحتمال؟
لم أكن بالطبع وحدي في طرح مثل هذه الأسئلة الجادة، ففي كتاب صغير نُشر قبل أكثر من عقد، طرح فلاسفة ومنظرون سياسيون أوروبيون وأمريكيون بارزون مثل جورجيو أغامبين، آلان باديو، دانيال بن سعيد، ويندي براون، جان لوك نانسي، جاك رانسيير، كريستيان روس، وسلافوي جيجك أسئلةً متشابهة وعبّروا عن مخاوف متشابهة.
كانت الديمقراطية، ولا تزال، في أزمة، ليس فقط في أماكن مثل إيران أو مصر أو سوريا التي لم تشهدها قط، بل حتى في جوهر الادعاءات التاريخية للبيض بها في أوروبا والولايات المتحدة
إن لم يكن من أجل أفق ديمقراطية في عالم يفتقر إلى أي مثال شرعي عليها، فلماذا تُزيّن هذه الانتفاضات وتُجهّز للانطلاق؟ أين تحديدًا؟ هناك ألم، وسخط، وفساد، وطغيان، وانتهاكات في جميع أنحاء العالم، وإيران تعاني من أكثر من نصيبها منها.
ما وراء الديمقراطية
ولكن كيف سنعالج هذه القضايا، ومن سيتصدى لها؟ الابن الباهت لشاه إيران المخلوع والمتوفى، وحاشيته من الملكيين الفاشيين الأوائل، زعيم منظمة طائفية تُدعى مجاهدي خلق، وهم مجموعة من المجرمين عديمي الجدوى ممولة من الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين؟
ما هو البديل إذن، أو ما يُمكن أن يكون؟ خلصتُ إلى أنه لا يوجد بديل، لقد كان وهم الديمقراطية خدعة استعمارية (خدعة رأسمالية عالمية) انكشفت الآن على حقيقتها، وانتهت، لقد اصطدمنا بحائط من صور ترامب، ومودي، والأسد، والسيسي، وآية الله خامنئي، وبوتين، وغيرهم، مُلصقة في كل مكان.
هذا هو الحال ما لم نُفرّق، كما فعلت هانا أرندت، بين التحرر من الاستبداد والحرية في اختيار نظام سياسي مختلف.
في هذه المرحلة من التاريخ، خلصتُ إلى أننا أكثر حرصًا على التحرر من الاستبداد من أن نتمسك بأي قناعة أو ثقة في الحرية لاختيار دولة بديلة مشروعة.
أنا الآن مقتنع بأننا أفضل حالًا بكثير بفهم ما عذّبنا واحتقاره بدلًا من أن نأمل في تحقيق ما نتمناه والذي أفلت منا تاريخيًا.
لكننا هنا بحاجة إلى تعديل جوهري لموقف أرندت، ففي كتابها “في الثورة” كتبت: “إذا كانت الغاية النهائية للثورة هي الحرية وتأسيس فضاء عام يمكن أن تظهر فيه الحرية، دستور الحرية، فإن جمهوريات الأحياء البدائية، المكان الملموس الوحيد الذي يمكن أن يكون فيه الجميع أحرارًا، كانت في الواقع غاية الجمهورية العظيمة التي كان ينبغي أن يكون هدفها الرئيسي في الشؤون الداخلية توفير هذه المساحات من الحرية للشعب وحمايته”.
ماذا سيحدث إذن إذا تخلينا تمامًا عن هذه الأوهام النشطة حول الديمقراطية الممكنة وسكنا ببساطة في لحظة التحرر من الاستبداد؟ معجزة: لقد تحررنا جميعًا من وهم الديمقراطية، وتوقفنا عن التورط في مشهد المحترفين السياسيين الذين يتظاهرون بأنهم سيمنحوها لنا.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)