بقلم بيترو ستيفانيني
ترجمة وتحرير مريم الحمد
في خضم عمليات القتل الجماعي والمجاعة والسلب المتواصلة فوق أنقاض غزة، تصر إسرائيل على ربط هجماتها بالخطاب الإنساني الذي يدعي الاهتمام بمعاناة المدنيين!
وتعد مؤسسة غزة الإنسانية (GHF) أحدث إصدار لهذه الإستراتيجية المتمثلة في إخفاء نية الإبادة الجماعية، فهي خطة إسرائيلية أمريكية مشتركة يتم تسويقها لجمهور ليبرالي دولي كبادرة للامتثال للمعايير الإنسانية أثناء العمليات العسكرية، فمن الناحية العملية، تعتبر المؤسسة مثالاً آخر على سعي إسرائيل للعنف الإقصائي بحجة الأعمال الإنسانية.
يتلقى المستلمون رسائل نصية على هواتفهم المحمولة لإعلامهم بموعد ومكان استلام حزم المساعدات الخاصة بهم، ولكن فقط بعد التحقق من الهوية عبر برنامج التعرف على الوجه، وذلك بحجة منع حماس من سرقة المساعدات!
في 16 مايو الماضي، شنت إسرائيل غزواً برياً أطلق عليه اسم “عملية عربات جدعون”، في إشارة إلى ما يبدو أنه المرحلة الأخيرة في حملة الإبادة الجماعية لإعادة استعمار غزة بشكل دائم.
قبل أسبوع واحد فقط، أصدر التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي تحذيراً شديداً بأن 1 من كل 5 فلسطينيين في غزة يواجه الآن المجاعة، كما حذر مسؤول في الأمم المتحدة من أنه في ظل الحصار المشدد، يمكن أن يموت ما يصل إلى 14 ألف طفل فلسطيني.
مع إعادة تركيز الاهتمام الدولي على استخدام المجاعة كسلاح في الحرب، كانت مؤسسة غزة الإنسانية قد بدأت بتأدية وظيفتها بالفعل، حيث تحولت وسائل الإعلام إلى مناقشة شرعية مبادرة صندوق الإغاثة الإنسانية، مما أدى فعلياً إلى تحويل التركيز عن المذابح اليومية المستمرة!
غطاء إنساني مشبوه
لقد بدأت مؤسسة GHF التي يحفها الغموض فقد تأسست في سويسرا، مؤخراً بتوزيع المساعدات من مراكز يؤمنها الجيش الإسرائيلي ومقاولو القطاع الخاص الأجانب، وبذلك فإن أي توزيع للمساعدات من قبل الأمم المتحدة أو المنظمات الأخرى سوف يكون من خلال هذه المواقع المخصصة.
كانت الأخبار الصادرة عن اليوم الأول لعمليات التوزيع صادمة رغم أنها كانت متوقعة، فقد حُبست حشود كبيرة من الفلسطينيين اليائسين الجائعين في أقفاص في ظروف غير إنسانية داخل منطقة عسكرية بينما كانوا ينتظرون طروداً صغيرة من الطعام من غير المرجح أن تعيل أسرهم لفترة طويلة.
لاحقاً، عندما فقدت السلطات عند نقطة توزيع المساعدات السيطرة على العملية واندلعت الفوضى، فتح الجيش الإسرائيلي النار على الحشد مما أدى إلى مقتل شخص واحد على الأقل وإصابة 48 آخرين.
الحقيقة أنه في قلب خطة GHF، هناك نية تقديم مساعدات غذائية محدودة للسكان الذين يعانون من الجوع بشرط أن يقبلوا التهجير الجماعي من جزء من أراضي غزة إلى آخر!
على حد تعبير توم فليتشر، وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، فإن هذا يشكل “ورقة التوت لمزيد من العنف والنزوح”، فحتى رئيس GHF الذي استقال مؤخراً، جيك وود، وهو جندي سابق في مشاة البحرية الأمريكية خدم في الحروب في العراق وأفغانستان، رفض الاستمرار في هذه الخطط.
يستحضر هذا النظام الأخير بوضوح ممارسات متجذرة في التاريخ الاستعماري للإبادة الجماعية بشكل عام وجزء من ظاهرة معسكرات الاعتقال بشكل خاص، فقد أدى ظهور معسكرات الاعتقال في أواخر القرن 19 وأوائل القرن 20 إلى عزل السكان الأصليين في محميات وطرد السكان غير المرغوب فيهم من أماكن إقامتهم الأصلية إلى أماكن غير صالحة للسكن لإفساح المجال أمام تطوير الأراضي للمستوطنين.
لقد قامت إسرائيل بتجربة هذا النوع من مناطق الاعتقال منذ المراحل الأولى للإبادة الجماعية، ففي أعقاب فشل “الفقاعات الإنسانية” التي قادها الجيش الإسرائيلي والتي تم تجربتها في يناير عام 2024، وهي المناطق التي كان من المفترض أن تدار من قبل شخصيات محلية لا علاقة لها بحماس، قررت إسرائيل الاستعانة بمصادر خارجية لتسليم المساعدات إلى مقاولين أمنيين من القطاع الخاص.
لقد حدثت نقطة تحول في قرار إسرائيل بالتعاقد على توزيع المساعدات بعد ما أصبح يعرف باسم “مذبحة الدقيق” في 29 فبراير عام 2024، عندما أطلق الجنود الإسرائيليون النار بشكل عشوائي على حشود من الفلسطينيين الذين تجمعوا لجمع الدقيق في جنوب غرب مدينة غزة، مما أدى إلى مقتل ما لا يقل عن 112 شخصاً وإصابة حوالي 760 آخرين.
تعكس العملية ذات الغطاء الإنساني أيضاً فكرة الاستيلاء الإسرائيلي على الممارسات المتجذرة في النظام الإنساني العالمي المعاصر خاصة تقديم المساعدات وإعادة توطين اللاجئين، الأمر الذي ينطوي على تفعيل سياسة الأرض المحروقة للتدمير بالتعاون مع منظمات الإغاثة ومقاولي الأمن الخاص والجيوش الراغبة في تقديم المساعدات الإنسانية
رداً على ذلك، بدأت الولايات المتحدة بإسقاط المواد الغذائية من الجو فوق غزة، وسرعان ما تبين عدم فعالية هذه التدابير، ففي إحدى المناسبات، أدى إسقاط منصة مساعدات من طائرة عسكرية أمريكية إلى مقتل 5 فلسطينيين وإصابة 10 آخرين بعد فشل المظلات في الانتشار بشكل صحيح.
وبالتنسيق مع الولايات المتحدة، أشرفت القوات الإسرائيلية أيضاً على بناء رصيف عائم مؤقت قبالة ساحل غزة، كان يهدف ظاهرياً إلى تسهيل إيصال المساعدات الإنسانية عن طريق البحر.
خطة جديدة
من ناحية أخرى، توفر نقاط توزيع المساعدات التي أنشأتها مؤسسة GHF غطاءً لعمليات إسرائيلية داخل غزة، ويبدو أن هذا ما حدث في يونيو عام 2024، عندما ظهرت صور تظهر قوات خاصة إسرائيلية تعمل قرب الرصيف أثناء مهمة لاستعادة الرهائن المحتجزين لدى حماس، حيث أسفرت العملية عن مقتل أكثر من 200 فلسطيني، مما دفع العديد من المراقبين المحليين والدوليين إلى استنتاج أن الرصيف كان يستخدم كتمويه للعمل العسكري.
خلال العملية نفسها، استخدمت القوات الإسرائيلية متنكرة في زي مدنيين، شاحنات المساعدات الإنسانية للتسلل إلى مخيم النصيرات للاجئين في غزة وتنفيذ الهجوم المميت.
واليوم، بالتعاون مع مؤسسة غزة الإنسانية GHF، تسعى إسرائيل إلى تقديم خطة جديدة لتوزيع المساعدات يتم من خلالها توفير الإمدادات الأساسية للأفراد الذين تم فحصهم مسبقاً، حيث يتلقى المستلمون رسائل نصية على هواتفهم المحمولة لإعلامهم بموعد ومكان استلام حزم المساعدات الخاصة بهم، ولكن فقط بعد التحقق من الهوية عبر برنامج التعرف على الوجه، وذلك بحجة منع حماس من سرقة المساعدات!
من الجدير بالذكر أن هذا الوجه الإنساني العدواني المستخدم لإخفاء الرعب والدمار الناجم عن العنف الاستعماري هو سائد أيضاً داخل المعسكر الصهيوني اليميني المتطرف والمتدين في إسرائيل، فشخصيات بارزة في هذا المعسكر مثل بتسلئيل سموتريتش، تعتبر عملية الطرد الجماعي للفلسطينيين إلى مصر وخارجها “حلاً إنسانياً”.
إضفاء الشرعية على الإبادة الجماعية
ما نشهده إذن هو نمط من الإبادة الجماعية بطابع إنساني، حيث يتداخل هذا المفهوم جزئياً مع مفهومي “التمويه الإنساني” و”العنف الإنساني”، فهذه المفاهيم تساعد في الكشف عن الكيفية التي تشوه بها إسرائيل القواعد التي يفرضها القانون الإنساني الدولي فيما يتعلق بعمليات الإجلاء والمناطق الآمنة والدروع البشرية من أجل إضفاء الشرعية على عنف الإبادة الجماعية الذي تمارسه.
تعكس العملية ذات الغطاء الإنساني أيضاً فكرة الاستيلاء الإسرائيلي على الممارسات المتجذرة في النظام الإنساني العالمي المعاصر خاصة تقديم المساعدات وإعادة توطين اللاجئين، الأمر الذي ينطوي على تفعيل سياسة الأرض المحروقة للتدمير بالتعاون مع منظمات الإغاثة ومقاولي الأمن الخاص والجيوش الراغبة في تقديم المساعدات الإنسانية، فضلاً عن تأطير عمليات الطرد بسبب الإبادة الجماعية باعتبارها شكلاً حميداً من أشكال إعادة التوطين الإنساني.
ترفض منظمات الإغاثة الدولية العاملة في غزة التعامل حتى الآن مع مؤسسة GHF، وهذا مهم باعتباره لحظة حساب لقطاع الإغاثة الإنسانية الدولي الذي عانى لفترة طويلة من التواطؤ مع القوى المهيمنة من خلال مفاهيم فردية للحياد.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)