بقلم دينا مطر
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
شاركتُ مؤخراً في تحرير كتاب يحمل عنوان “أرشفة غزة في الزمن الحاضر” إلى جانب القيّمة السابقة على الفن الإسلامي والفن المعاصر في الشرق الأوسط فينيتسيا بورتر، لقد كان ذلك في ظل إبادة جماعية تُبثّ على الهواء مباشرة، ولا تزال فصولها تتكشف يومًا بعد يوم في غزة؟
فما الذي يعنيه عنوان هذا الكتاب؟ وكيف يمكن التعامل مع هذا الجهد بوصفه عملية منتِجة، من دون الوقوع في السجالات التي تروّج لها مؤسسات المعرفة الاستعمارية، والتي لا تكفّ عن طرح سؤال “من يملك حق الأرشفة؟” أو “ما الذي ينبغي أرشفته؟”.
في كتاب “أرشفة غزة في الزمن الحاضر”، أقترب من هذه الأسئلة بوصفي باحثة بدأت مسيرتها المهنية صحفية قبل الانتقال إلى الأكاديميا، أي كشخص ظلّ طويلًا منخرطًا في السرد وتسجيل التاريخ وهو يتكوّن في لحظته.
وأكتب أيضًا بوصفي باحثة فلسطينية تقيم في الغرب، ما يعني أن ممارساتي تبقى إلى حدّ ما محكومة ومُقَيَّمة عبر مقاربات استعمارية وعنصرية لما يُسمح للشعوب الأصلية وغير البيضاء، وفي مقدمتها الفلسطينيون، بإنتاجه معرفيًا وثقافيًا.
فالاستعمار، والعِرق، والنزعة الأبوية، كلها عناصر تشكّل الإطار الذي يُسمح من خلاله لشعوب الجنوب العالمي بأن تروي ذاتها، وتتخيّل نفسها، وتفكّر في مصائرها، ولا شكّ في أن الفلسطينيين، على وجه الخصوص، يواجهون رقابة مشدّدة وتدقيقًا مفرطًا وأحيانًا تشكيكًا صريحًا حتى وهم يكتبون عن أنفسهم.
وأنا أكتب هذه التأملات حول الأرشفة، تكون الإبادة الجماعية التي ترتكبها دولة الاحتلال في غزة قد تجاوزت عامها الثاني، وما زالت تحظى بدعم قوى إمبريالية، في مقدمتها الولايات المتحدة ودول أوروبية كبرى.
وقد بات واضحًا أن هذه الإبادة لا تقتصر على القتل المادي، بل تشمل “إبادات” متعددة، في مقدمتها الإبادة الثقافية وإبادة الذاكرة، في إشارة إلى التدمير المنهجي للمؤسسات الثقافية، والتاريخ المحلي، والأفراد الذين يحملون المعرفة وينتجونها وينقلونها.
إن محو الأرواح والأماكن والتواريخ والبشر ليس ممارسة جديدة في سجلّ الكيان الصهيوني وحربه المفتوحة على الشعب الفلسطيني، بل هو نهج طويل الأمد من الاستعمار الاستيطاني، يهدف إلى السيطرة ودفع الفلسطينيين خارج بيوتهم وأرضهم.
لغة جديدة
يشكّل إنكار دولة الاحتلال للإبادة الجماعية ولمكوّناتها المختلفة تحديًا بالغ الصعوبة أمام المنتجين في المجالات الثقافية والفنية والبحثية وهم يحاولون شرح معنى العيش داخل إبادة جماعية، أو حتى مجرّد مشاهدة إبادة تُبثّ مباشرة عبر الشاشات.
وبالنسبة لباحثين مثلي، يبدو هذا الجهد في أحيان كثيرة طاغيًا، ويتطلّب ابتكار لغة جديدة لمواجهة ثقافات القسوة التي تحاصرنا، أما الفنانون والمنتجون الثقافيون، فيجدون أنفسهم مضطرين إلى التوازن بين الحاجة إلى الإبداع والابتكار، وبين تطوير لغة تخييلية جديدة تجعل التجربة الفلسطينية مرئية وقابلة للفهم بطرائق مختلفة.
في “أرشفة غزة في الزمن الحاضر”، كنا أنا وبورتر محظوظتين بمساهمات فنانين ومنتجين ثقافيين، كانت مخيّلتهم وتمثيلاتهم البصرية أساسية في توثيق الإبادة في غزة، بل في أرشفتها، مع تقديم تأمل نقدي رصين في إنتاج الفن والثقافة وسط معركة منهجية ضدّهما.
وبالنسبة لنا وللمساهمين معنا، تبدو الأرشفة أيضًا ممارسة جماعية للرعاية، ممارسة لا تهدف فقط إلى إبراز الأهمية الثقافية والتاريخية الهائلة لغزة، بل إلى كسر الصمت العالمي حيال تدمير تراثها الثقافي والفني، ومؤسسات المعرفة فيها، ونسيج الحياة والذاكرة والتذكّر ذاته.
وينبغي النظر إلى الأرشفة بوصفها ممارسة مناهِضة للاستعمار، تجمع بين الإبداع الفني والسرد والتخيّل في مواجهة سعي دولة الاحتلال المتعمّد إلى محو الفلسطينيين وثقافتهم.
ويخبرنا التاريخ الفلسطيني أن هذه الممارسات الأرشيفية المناهضة للاستعمار سواء تجلّت في شهادات شفوية، أو ملصقات، أو أفلام، أو أعمال فنية، أو نُصُب تذكارية كانت دومًا “أرشيفًا داخل الأرشيف”، أو “تاريخًا داخل التاريخ”، ذلك أن الأرشفة في جوهرها، فعل رعاية ومثابرة، وكما أوضح الفيلسوف فرانز فانون، فهي فعل أمل.
كما أن الأرشفة تقاوم سياسات دولة الاحتلال المتمثلة في قطع الإنترنت، واستهداف منتجي المعرفة من باحثين وصحفيين، وفرض رقابة جماعية تطال الضحايا أنفسهم، فضلًا عن كثير من الأصوات المناهضة للإبادة.
ممارسة تفكيك الاستعمار
يكشف تحكّم دولة الاحتلال بفضاءات الاتصال والمعلومات الفلسطينية كيف يمكن للتقنيات الجديدة أن تعيد إنتاج عنصريات قديمة، وتفرض لا مساواة عالمية جديدة، فهذه الآليات التكنولوجية “عديمة الاحتكاك” ظاهريًا، بحسب توصيف الباحثة في الاتصال هيلغا تويل سوري، توسّع تقنيات المراقبة والاستهداف والسيطرة المكانية والحرب السيبرانية، التي وثّقها باحثو “الاحتلال الرقمي” منذ عقود.
في ظل هذه الظروف، تصبح الأرشفة ممارسة وجودية لتفكيك الاستعمار، في مواجهة محو المعرفة التي ينتجها الفلسطينيون، فسياسة “إبادة الذاكرة” التي تنتهجها دولة الاحتلال تتلازم مع عنف معرفي، يقوم على محو أو تحقير منظومة معرفية بأكملها، إلى جانب صانعيها وناقليها.
كما تشكّل الأرشفة معركة ضدّ النسيان، سواء كان نسيانًا مقصودًا أم مفروضًا، ففي نصّه الشعري النثري الشهير “ذاكرة للنسيان”، كتب محمود درويش عن حصار بيروت عام 1982، متناولًا الذاكرة بوصفها مقاومة للمحو، ومفارقاته المؤلمة، واستخدم درويش الكتابة لاستعادة السرد من نزع الإنسانية الذي تفرضه الحرب، مقابل نسيان جماعي مفروض.
يعبّر هذا عن الصراع بين الحفاظ على الهوية عبر الذاكرة، والحاجة إلى نسيان الصدمة من أجل البقاء، وهو مفهوم مركزي في التجربة الفلسطينية وفي المنفى، حيث تغدو الذاكرة عبئًا وأداة نجاة ومقاومة في آن واحد.
وفي سياق الإبادة المتواصلة، بات من الصعب أحيانًا العثور على لغة للحديث عن الصدمة، والمنفى، ونزع الملكية، وثقافات القسوة الهائلة التي تتكرّر أمام أعيننا على الشاشات، إنه هجوم متواصل على أجسادنا، ونفسياتنا، وبُنانا التحتية، وطرائق عيشنا، وتواريخنا، ومستقبلاتنا.
وإلى جانب من يقفون معنا، نواجه عنفًا يسعى إلى إسكات أصواتنا، وفرض الرقابة علينا، وتجريم وجودنا ذاته وتجريم ما يعنيه أن تكون فلسطينيًا.
وفي مثل هذه اللحظات، لا تنبع الرغبة في التوثيق، والتسجيل، والأداء، والتعبير أي في الأرشفة فقط كردّ فعل على العنف أو نزع الإنسانية أو الإسكات، ولا تستمدّ ضرورتها من نقاط تاريخية يحدّدها الصهيونية أو دولة الاحتلال أو غيرهما.
فالأرشفة تتتبّع الجذور، وتتقاطع مع ممارسات خارج القيود المهيمنة بطرائق شتى، إنها الممارسة التفكيكية الأقصى للاستعمار: في الأرشفة، يمتلك الفلسطينيون القدرة على الفعل وصناعة المعنى.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)







