حين تُمحى الوجوه وتبقى الأرقام: غزة وذاكرة العالم المنهكة

بقلم أسيل البجه

ترجمة وتحرير مريم الحمد

بعد مرور أكثر من 18 شهراً على الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، لم يعد العالم يبالي ببؤس الفلسطينيين، فلم تعد صور الأطفال مقطوعة الرؤوس أو الجثث الممزقة في الشوارع أو رؤية أحياء بأكملها وقد تحولت إلى أنقاض تثير غضباً عالمياً. 

لا أدري كيف أصبحنا بلا إحساس هكذا تجاه الإبادة الممنهجة التي نراها؟ وكيف يمكن لنا مشاهدة محو حياة الفلسطينيين ومستقبلهم بمثل هذه البلادة المخيفة؟!

الإبادة الجماعية لا تتجلى في المقابر الجماعية وحرق المنازل فحسب، بل في العنف البطيء والخفي الذي شكل التجربة الفلسطينية لأجيال أيضاً

يمكن القول أن رد الفعل هذا إنما يرتبط  بشكل غريزي بالتطبيع مع النظام الاستعماري الاستيطاني الصهيوني خلال القرن الماضي، فهو تطبيع عميق لدرجة أن وجود نظام الفصل العنصري في القرن 21 وأطول احتلال حربي في التاريخ الحديث لا يتم التعامل معه سوى ببعض الإدانات وتدخلات خجولة معيبة لبناء السلام وتغطية إعلامية متحيزة. 

حتى الإبادة الجماعية في غزة، والتي تعد واحدة من أكثر الفصول وحشية في التاريخ الفلسطيني، للأسف، لم تكن سبباً كافياً لإحداث تحول في الاستجابة الدولية!

هذه الظاهرة مدفوعة أيضاً بالعنصرية الراسخة وفكرة تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم، فقد تم اختزال وفياتهم إلى مجرد إحصائيات، وتم التعامل مع اضطهادهم وإذلالهم اليومي على أنه أمر روتيني.

يمكنك مقارنة ذلك برد الفعل الشعبي على الغزو الروسي لأوكرانيا، كما علقت وسائل الإعلام الغربية على اللاجئين “المتحضرين” ذوي العيون الزرقاء، فهذا التعليق العنصري إنما يعكس كيف أن تطبيع العنف لا يقتصر على الفلسطينيين فحسب، بل يمتد إلى جميع الأشخاص الملونين.

التطبيع مع الرعب

تهدف هذه العنصرية إلى تكييف العالم، بما في ذلك أولئك الذين يتعرضون للاضطهاد، للاعتقاد بأن هذا العنف هو أمر طبيعي، فهو يشير إلى أن الفلسطينيين قد “اعتادوا على ذلك”، أي أننا نعرف كيف نتحمل الحروب والعنف والبؤس لأننا نعرف كيفية إعادة البناء والبقاء على قيد الحياة والمقاومة.

وعلى الوجه الآخر، عندما تمر بهم فظائع “لم يعتادوا عليها”، فإنها تتطلب فجأة الغضب والتحرك، فخلال الانتفاضة الفلسطينية في مايو عام 2021، نشرت صحيفة نيويورك تايمز في عنوان رئيسي “بعد سنوات من الهدوء… انفجر الصراع الإسرائيلي الفلسطيني… لماذا الآن؟”.

هذا العنوان يلخص فلسفة تواطؤ المؤسسة السياسية والإعلامية في التطبيع مع العنف الإسرائيلي والمعاناة الفلسطينية، ويظهر كيف أن الاهتمام بالنضال الفلسطيني لا يتم الاعتراف به إلا في ظل ظروف معينة، كما هو الحال عندما يكون العنف الإسرائيلي متطرفاً إلى درجة أنه يكسر مؤقتاً اللامبالاة العالمية. 

وسط الإبادة الجماعية في غزة، فقد انهارت حتى تلك العتبة، فالأهوال يتم بثها مباشرة، والعالم يشاهد بلا إحساس، فالإبادة الجماعية لا تتجلى في المقابر الجماعية وحرق المنازل فحسب، بل في العنف البطيء والخفي الذي شكل التجربة الفلسطينية لأجيال أيضاً، فهناك ملايين اللاجئين المحرومين من حقهم في العودة، بعضهم عديمي الجنسية ومحاصرون في الفقر، وجميعهم يعانون من ثقل المنفى.

يتجلى التطبيع مع العنف ضد الفلسطينيين في مشاهدة الإكراه اليومي الذي يدفع الفلسطينيين نحو التهجير، مثل العائلات التي تضطر إلى تناوب نوبات النوم، ولا تعرف أبداً متى يمكن أن يأتي الهجوم التالي من قبل المستوطنين المسلحين. 

ويتجلى ذلك التطبيع مع الساعات التي يقضيها الفلسطينيون عند نقاط التفتيش، بينما يستمتع الجنود الإسرائيليون بإذلالهم، خوفاً من قطع الطريق الطويل إلى المنزل، وإدراكاً لخطر التعرض لإطلاق النار في أي لحظة.

يتجلى أيضاً في تفكك الأسر والسجن وفي العائلات التي تُحرم من الدفن الكريم لأحبائها الذين تُحتجز جثثهم في ثلاجات المستعمر و”مقابر الأرقام” في مشهد مجرد من الإنسانية حتى في الموت.

إن قبول هذه الحقائق باعتبارها أمراً روتينياً هو جزء من “صراع دوري”، يعني التطبيع مع هذا النوع من التجريد من الإنسانية، وهذا يجعل الجمهور يرى القمع الفلسطيني أمراً عادياً لا مفر منه ولا يستحق العمل، خاصة أنه قد يحمل خطورة.

“الخدر في مواجهة الأهوال هو بمثابة كابوس بالنسبة لي، يجب أن أشعر بالناس وأن أشعر بألم الإنسانية، فهذا هو جوهر الحضارة” – الأسير الفلسطيني الشهيد وليد دقة

من ناحية أخرى، فإن التطبيع مع المعاناة الفلسطينية يغذي ظاهرة أخرى، وهي الصعود والهبوط المستمر للتضامن العالمي، ففي حين لعب التضامن الدولي دوراً حاسماً في تحدي الصهيونية، فقد اتسم بنوبات متفرقة، غالباً ما كانت مرتبطة بإراقة الدماء بشكل فج، وهذا لا يغني تجاهل القمع الحاصل ضد حركة التضامن ولكن ذلك كان السبب الرئيسي أيضاً في حصول هذا التذبذب والتناقض فيها.

علينا أن نأخذ موقفاً

هناك شيء أكثر خطورة، ففي الوقت الذي نستيقظ فيه على أخبار استشهاد عشرات الأطفال الفلسطينيين، يمر الكثيرون ببساطة على هذه الأخبار وكأن المذبحة مجرد عنوان رئيسي آخر في النشرة، وهذا ما يسميه العلماء “إرهاق الرحمة”، وهي استجابة نفسية تقلل من ردود الفعل العاطفية بسبب التعرض للمعاناة لفترات طويلة. 

لقد درس الباحثون أيضاً ظاهرة “الإرهاق الناتج عن الأخبار”، حيث ينشغل الناس بالتدفق المستمر للمعلومات المؤلمة، و”الخدر النفسي”، الذي يعني أنه كلما زاد التعرض لأعداد أكبر من الضحايا كلما قل الإحساس!

هذا ونحن نشاهد فقط، فما بال الفلسطينيين الذين تتزاحم لديهم الأهوال  بطريقة لا يمكن تصورها، فواقعهم الأليم لا يتوقف ولا حتى للحزن والحداد!

يجب علينا أن نسعى جاهدين لإيجاد توازن بين الحفاظ على رفاهيتنا و الاعتراف بمعاناة الآخرين، حتى لو اعتبرنا أن خدرنا النفسي هو آلية دفاع طبيعية ولا تعكس فشلاً أخلاقياً من قبلنا، إلا أن من واجبك أن تستحضر تلك اللحظة التي صدمتك وتتمسك بها لتبقي على إنسانيتك.

عليك أن تتذكر أنها لم تكن حالة شاذة، بل كانت واحدة من مئات الآلاف من اللحظات، كل منها مدمرة، ولتكن هذه بوصلتك لتدفعك إلى ما هو أبعد من التعاطف العابر وإلى التعبئة المتواصلة.

إن المعاناة الفلسطينية ليست حتمية، فهو بناء متعمد يجب تفكيكه، ولذلك يجب أن يذهب نشاطنا إلى ما هو أبعد من الدعوة إلى وقف إطلاق النار، وسواء تم احترام الهدنات أو انتهاكها، فإنها لم تعالج بالتأكيد الأسباب الجذرية للعدوان الاستعماري، ولذلك يجب أن تركز معركتنا على تفكيك الاستعمار الاستيطاني الصهيوني والأنظمة التي تدعم وحشيته.

إن الشعور بالخدر يعني التخلي عن الفلسطينيين في ظل معاناتهم، لكن التصرف يعني اتخاذ موقف من أجل إنسانيتنا المشتركة، ورفض السماح لأنظمة الاستعمار والإمبريالية والرأسمالية بالمرور دون منازع، فمن خلال دفاعنا عن فلسطين، نحن ندافع عن عالم لا يمكن فيه الاستغناء عن حرية أحد. 

وأود أن أستذكر هنا كلمات الأسير الفلسطيني الشهيد وليد دقة، الذي توفي في الاعتقال لدى الاحتلال الإسرائيلي نتيجة التعذيب الممنهج والإهمال الطبي بعد 4 عقود خلف القضبان، حين قال: “الخدر في مواجهة الأهوال هو بمثابة كابوس بالنسبة لي، يجب أن أشعر بالناس وأن أشعر بألم الإنسانية، فهذا هو جوهر الحضارة”.

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة