بقلم سمية الغنوشي
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
“سامحيني يا أمي، هذا هو الطريق الذي اخترته، أردتُ مساعدة الناس، سامحيني يا أمي، أقسم أنني سلكتُ هذا الطريق فقط لمساعدة الناس”، كانت هذه هي الكلمات الأخيرة لرفعت رضوان، المسعف الفلسطيني الشاب في غزة، وقد نطق بها وهو ينزف حتى الموت بجوار سيارة إسعاف تحمل علامات واضحة بينما كان محاطًا بجنود الاحتلال تحت سماء رفح الباردة.
نعم، لقد خرج مع طاقمه لإنقاذ الجرحى، ولكن لم يعد منهم أحد بعدما فتح جيش الاحتلال النار عليهم دون سابق إنذار، مما أسفر عن استشهاد رضوان و14 عامل طوارئ آخرين، ولاحقاً تم استخراج جثثهم من حفرة غير عميقة، كان بعضهم مقيد الأيدي أو الأرجل، ويبدو أن النار أُطلقت عليهم من مسافة قريبة.
لقد أُعدموهم وهم يرتدون زي الإنقاذ الرسمي، كانوا يحملون أجهزة الراديو والقفازات والحقائب الطبية، ومع ذلك، كذبت دولة الاحتلال بكل فجاجة حين صرّح وزير خارجيتها للعالم بأن سيارات الإسعاف كانت بلا علامات و”مثيرة للشبهة”، ملمّحًا إلى أن هجوم قواته كان مُبررًا.
غير أن مشاهد اللحظات الأخيرة لرضوان أظهرت أن سيارات الإسعاف كانت تحمل علامات واضحة، مع وميض الأضواء وكانت السترات الطبية ظاهرة، ولم يكن هناك أي أثر لأي تهديد، ولا تبادل إطلاق نار، ولا غموض، فقط ما بدا كان مجزرة متعمدة.
محو الحياة نفسها
وفيما كان العالم يحاول استيعاب هول ما جرى في رفح، كان رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو في المجر يحظى بالحفاوة من قِبل إحدى أكثر حكومات أوروبا يمينية وتطرفاً، وقد أعلن وهو مُحاط بالقوميين المتطرفين: “هذا مهم لنا جميعًا، للحضارة جمعاء، ونحن نخوض هذه المعركة ضد البربرية، أعتقد أننا نخوض معركة مماثلة من أجل مستقبل حضارتنا المشتركة حضارتنا اليهودية المسيحية”.
حقاً ليس هناك ما هو أكثر فظاعة من قلب الحقائق، فما تشنه دولة الاحتلال في غزة ليس حربًا، بل هو محوٌّ للحياة نفسها، إنه تدميرٌ ممنهجٌ لكل ما يتنفس أو يحلم.
لقد استشهد أكثر من ألف عاملٍ صحيٍّ وطبيّ منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، من بينهم العشرات من جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني حيث تعرّض المسعفون للقصف وإطلاق النار أثناء قيامهم بأعمال إنقاذ الأرواح.
استشهد أكثر من 400 عامل إغاثة في غزة، من بينهم ما لا يقل عن 280 من موظفي الأونروا، ودُمِّرت المستشفيات وسيارات الإسعاف واعتُقل الأطباء وعُذِّبوا واغتصبوا وأُعدموا وكان من بينهم المسعفون الذين أُرسلوا لإنقاذ الطفلة هند رجب، البالغة من العمر ست سنوات.
لقد نجت من هجومٍ للاحتلال أودى بحياة جميع أفراد عائلتها، وبقيت وحيدة في سيارة، كانت مذعورة، استغاثت طلبًا للمساعدة فاُرسل لها فريق إنقاذ لكنه لم يعد، وقد عُثر على جثة هند في النهاية في سيارة مثقوبة بالرصاص.
أما المسعفون الذين استجابوا للأمر فكانوا أيضاً راقدين في مكان قريب، وقد أُعدموا أثناء محاولتهم إنقاذ طفلة، لا توجد خطوط حمراء لا للأطباء ولا للأطفال ولا حتى للمحتضرين.
يقول المسعفون الفلسطينيون إن زيهم الرسمي لا يحميهم بل إنه يجلب إليهم القتل، أما الرموز التي كانت مقدسة في الماضي مثل سترة الهلال الأحمر والمعطف الأبيض وملابس الجراحة فأصبحت تُعامل الآن كأهداف
فمثلاً، رفضت إحدى الممرضات التخلي عن مريض أثناء إجراء عملية جراحية، عندما اقتحم جنود الاحتلال المستشفى الذي كانت تعمل فيه، فأطلقوا النار على ركبته وحطموا عظامه ثم سحبوه بعيدًا، ووفقًا لرواية طبيب آخر، فقد تعرض هذا المريض للتعذيب، وجرى سحبه وأُلقي في النهاية على جانب الطريق في حالة خطيرة.
وقد اقتيد عدنان البرش، أبرز جراحي العظام في غزة، من مستشفى العودة واختفى في سجون الاحتلال، حيث ورد أنه تعرض للضرب والاغتصاب وترك ليموت.
حرب إبادة
لا يكتفي نتنياهو بتدمير المنازل والمساجد والكنائس والمدارس، بل يُدمر سبل البقاء، إن لم تقتل القنابل، فالعطش والجوع والجروح غير المعالجة ستقتل، ومن يحاول إنقاذ الآخرين يُطارد.
في غزة، الطب تمرد والرحمة خيانة والشفاء تحد للإبادة، فقد استشهد أكثر من 55 ألف فلسطيني، وتمت إبادة أحياء بأكملها وشُرد أكثر من 1.9 مليون شخص، وقُصف الكثيرون لاحقًا في خيامهم.
ومنذ خرق ما يُسمى بوقف إطلاق النار، بلغ الرعب مستوياتٍ جديدة، لقد نفد الطعام، واختفى الوقود، وتوقفت محطات المياه عن العمل وانهارت مخابز غزة وأخذت العائلات تشرب مياه الصرف الصحي وتأكل علف الحيوانات، إنهم ينزفون من جروحٍ لم يبقَ أحدٌ ليعالجها، وهذه هي حرب دولة الاحتلال من أجل “الحضارة”.
نعم، إنها حرب يصفها جوناثان ويتال، القائم بأعمال مدير مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بأنها “حرب بلا حدود”، لقد داست دولة الاحتلال كل حدود القانون والأخلاق واللياقة في عدوانها، لا منطقة آمنة، ولا مستشفى بمنأى عن العقاب، ولا طفل محصن، هذا ليس صراعًا، إنه إبادة بلا حدود.
أما الشماعة فهي الكذبة التي تُصنع منذ عقود، لقد بُثّت صورة “الفلسطيني العنيف” للعالم عبر أسطورة استعمارية حديثة، فهذه دولة الاحتلال تُصوّر نفسها كمنارة للديمقراطية، ومعقل للتحضر تحت الحصار، لقد بنت تل أبيب القصة وسلحتها واشنطن ونشرتها لندن وروجت لها هوليوود، لكنها لم تكن حقيقية قط، لقد كانت دعاية مصقولة تم التدرب عليها وتسليحها.
سياسة الإبادة الجماعية
وفي غزة، انهار الوهم، وحتى داخل دولة الاحتلال بدأ البعض يدرك ذلك، لقد زار عمر بارتوف، المؤرخ الإسرائيلي الأمريكي الشهير في مجال الإبادة الجماعية، البلاد عام 2024 وتحدث مع الطلاب العائدين من الخدمة العسكرية في غزة.
لقد وجدهم غاضبين محبطين يطالبون بحرب شاملة، فحذّرهم من آخر مرة تبنى فيها جيل من الطلاب المهانون النزعة العسكرية، كان يشير بالتحديد إلى ألمانيا النازية في ثلاثينيات القرن الماضي.
وقد كتب بارتوف الصيف الماضي أنه “لم يعد من الممكن إنكار تورط إسرائيل في جرائم حرب ممنهجة، وجرائم ضد الإنسانية، وأعمال إبادة جماعية”.
أما توم سيغيف، أحد أبرز المؤرخين الإسرائيليين فقد لاحظ أنه: “في سن الثمانين، بدأت أعتقد أن الأمر ربما لم يكن صائبًا منذ البداية، في مسألة الصهيونية برمتها، الصهيونية ليست قصة نجاح عظيمة، كما أنها لا توفر الأمن لليهود، من الأسلم لليهود العيش خارج إسرائيل”.
إن الإبادة التي يشرحها هذا الرجل ليست عرضية، وليست نتيجة مأساوية للحرب، إنها سياسة ممنهجة، فمؤخراً مثلاً تم تصوير ضابط من جيش الاحتلال وهو يأمر جنوده في لواء غولاني بمعاملة أي شخص يرونه في غزة كتهديد، وبقتله دون تردد، لا حاجة للتمييز بين مدني ومقاتل، طفل وبالغ، أم أو مسعف فقط أطلق النار، كل حياة فلسطينية مُدانة مسبقًا، الشعور بالذنب افتراضي والنبض استفزاز.
وفي الوقت نفسه، رفضت المحكمة العليا التي أُشيد بها عالميًا كمؤسسة ليبرالية في دولة الاحتلال وبالإجماع التماسات لرفع الحصار عن غزة لأسباب إنسانية، ولم يشكك أي قاضٍ في قانونية تجويع سكان محاصرين، بمن فيهم الأطفال.
لا يقتصر الأمر هنا على نتنياهو ووزراءه الفاشيين، إنه الجيش والمحاكم والدولة نفسها، كل ركيزة من ركائز آلية الإبادة، هذا ما بنته الصهيونية، نظام يُعدم المسعفين، ويدفن الأطباء في مقابر جماعية، ويطلق النار على الأطفال، ويسميه حضارة.
شهادة حية
لكن في وجه ذلك الظلام يقف رفعت رضوان في لحظاته الأخيرة، لم يتحدث عن الانتقام، التفت إلى والدته طالبًا المغفرة، وأكد على المسار الذي اختاره ليس التدمير، بل الشفاء.
حتى مع رحيله، كان رضوان يدلي بالشهادة، كان ينزف حتى الموت وسط قافلة من سيارات الإسعاف، ويسجل المجزرة، لم يكن هناك صحفيون أو مراقبون دوليون، لقد أدرك أنه إن لم يتكلم، ستموت الحقيقة معه، لذلك تكلم.
كان رضوان يعلم ما سيحدث لاحقًا، ستقتل دولة الاحتلال ثم تكذب، ستصدر بيانًا إعلاميًا آخر لإعادة تبرير القتل على أنه دفاع عن النفس، كان يعلم النمط، لكنه رفض أن يُمحى، ومع لفظ أنفاسه الأخيرة، قال الحقيقة.
لقد قام رضوان من القبر ليتحدث، حتى لا يغض العالم الطرف، نهض حتى لا يقول أحد “لم نكن نعلم”.
ارتقى رضوان شهيداً وأُلقي بجسده في حفرة، لكن صوته ارتفع من القبر، لقد نجت شهادته من الرصاص، وحطمت قصته الكذبة، وأخبر العالم بما حاول قاتلوه طمسه، أخبرهم أن الرحمة أصبحت جريمة وأن إنقاذ حياة في غزة هو بمثابة توقيعك على حكم إعدامك.
وبهذا، انتصر رضوان، ولم يستسلم لتعتيم الاحتلال، لقد سقط القناع ولم يعد بوسع العالم أن يقول “لم نكن نعلم”.
لم ينهض رضوان روحياً فحسب، بل نهض متحدياً أيضاً، لقد ارتقى فوق الخوف فوق الدعاية، فوق الموت نفسه، وفي عالمٍ خدرته الأرقام، أعاد الإنسانية إلى القصة، لقد ركض نحو النار، نحو الأنقاض، نحو الجرحى، لم يتراجع بل اختار الحقيقة على الصمت.
والآن، يقف رضوان نصباً تذكارياً لكل ما حاولت دولة الاحتلال سحقه، يقف رمزاً للكرامة وثقلاً موازناً للقسوة.
اسم رفعت هو اسم مشتق من الجذر العربي “رفع” ويعني “ارتقى”، وقد فعل، لقد قام من القبر ليتكلم، حتى لا يطأطئ العالم وجهه، قام حتى لا يقول أحد “لم نكن نعلم”.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)