حين يستفيق العالم على الإبادة: متى تُحاسب دولة الاحتلال؟

بقلم عبد أبو شحادة

ترجمة وتحرير نجاح خاطر

بصفتي أباً لطفلة تبلغ من العمر أربع سنوات ورضيع حديث الولادة، يتملكني سؤال مرير وأنا أتابع ردود الفعل الدولية على ما يجري في غزة من إبادة جماعية: هل سيتوقف العالم في يوم ما عن النظر إلى أطفالي باعتبارهم أطفالاً؟ وهل ستبدأ حياتهم في فقدان قيمتها وأهميتها في عيون العالم؟ 

يعيش العالم صدمة عميقة من أعداد الأطفال الذين يُقتلون ويُجوعون في غزة، إلا أن الانتقادات الجوهرية لما ترتكبه دولة الاحتلال من جرائم لم تتجاوز بعد سقف المطالب الإنسانية المؤقتة، في حين تسير دولة الاحتلال بخطى ثابتة نحو تدمير كل مقومات الحياة في القطاع المحاصر.

لقد نجحت دولة الاحتلال في تدمير البنية التحتية في غزة، وشلت نظام الرعاية الصحية، وهدّدت البلديات وشبكات التعليم، وعطلت حياة الأسر وألحقت الضرر بالمساجد والكنائس، باختصار، لقد دمّرت كل إطار ينظم حياة الفلسطينيين في غزة.

لكن مع نفاد ما يمكن قصفه من أهداف محددة تصاعدت وحشية دولة الاحتلال لتشمل استهداف مخيمات اللاجئين وإحراق الناس أحياءً، ما أثار موجة من الغضب والرفض الدولي وحتى داخل دولة الاحتلال رغم الدعم غير المشروط من قبل رئيسي الولايات المتحدة السابقين لحكومة تل أبيب والتوافق شبه الكامل بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري على منحها حرية التصرف.

لقد فشل رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو في تحقيق نصر على حركة حماس، كما عجز عن تأمين إطلاق سراح الرهائن المحتجزين، ولم تكن المشكلة في عدم قدرة دولته على استعادة الرهائن أو نزع سلاح حماس، إذ كانت هناك فرص حقيقية لاتفاقات في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 لإطلاق الرهائن ووقف القتال بمشاركة أطراف أخرى، بينها السلطة الفلسطينية.

لكن الهدف الحقيقي واضح ومعلن، كما أظهره وزير المالية في حكومة الاحتلال بتسلئيل سموتريتش حين صرح بأن الهدف من الحرب هو إخلاء قطاع غزة من سكانه، واحتلاله بشكل كامل، وهو الهدف الذي كان قائماً منذ البداية.

وقد أدى هذا التوجه إلى إخفاقين استراتيجيين لدولة الاحتلال، الأول فشلها في فرض مشاركة مصر والأردن في استقبال اللاجئين الفلسطينيين، والثاني فشل أخلاقي تمثل في تطبيع رواية الإبادة الجماعية والتطهير العرقي من قبل حكومة الاحتلال وجزء من المجتمع الإسرائيلي، حيث دُفعت هذه الجرائم تحت مسميات مخففة مثل ”الهجرة الطوعية“ و”تشجيع الترحيل”.

ومع تصاعد الضغوط الدولية، بدأت علامات انشقاق تتجلى داخل مجتمع الاحتلال، حيث أصر آلاف النشطاء والشخصيات الإعلامية الفلسطينية وغير الفلسطينية على مواصلة الحديث عن معاناة غزة، ما أدى إلى ضغط عالمي دفع وزارة خارجية الاحتلال إلى تحذير مواطنيها من التعبير عن رموز وطنية في الخارج، ما أسفر عن مقاطعات صامتة لأكاديميين وشخصيات ثقافية إسرائيلية.

أما على الصعيد الدولي، فقد شهدنا تحولاً متأخراً لكنه حاسم في لهجة السياسات الغربية تجاه دولة الاحتلال، حيث عززت الإدارة الأمريكية من مباحثاتها مع حركة حماس لتأمين الإفراج عن الرهائن مزدوجي الجنسية، وهو ما أظهر انزعاجاً أمريكياً واضحاً من سياسة حكومة الاحتلال التي تبدو غير معنية فعلياً بإبرام اتفاق.

في الوقت نفسه، تراجع الدعم الغربي المتحمس لدولة الاحتلال تزامناً مع تحرك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نحو انتقاد صريح لها، مطالباً بتشديد الموقف الأوروبي تجاه جرائم الاحتلال في غزة، كما أعلنت المستشارة الألمانية الجديدة رفضها تصدير أسلحة قد تستخدم في انتهاك القانون الدولي الإنساني، بعد 19 شهراً من الدعم الذي لم يكن ينقطع.

وفي الداخل الإسرائيلي، كان تصريح يائير غولان، زعيم حزب الديمقراطيين، بمثابة علامة على الانقسام المتصاعد، حين أكد أن ”الدولة العاقلة لا تحارب المدنيين، ولا تقتل الأطفال كهواية، ولا تضع نصب عينيها طرد السكان“.

غولان، الذي شغل سابقاً منصب نائب رئيس أركان جيش الاحتلال، كان قد تعرض لعقوبات تأديبية بسبب تبنيه لأساليب عسكرية محظورة، لكنه اليوم يبدو أكثر إدراكاً لوضع دولة الاحتلال المنعزل والمتجه نحو عزلة دولية متزايدة، إذ بات عدد من الإسرائيليين الذين كانوا يدعمون الحرب يعتبرون الإبادة الجماعية في غزة مناورة سياسية لاستمرار حكم نتنياهو.

وفي ظل هذا المشهد، يتأرجح الخطاب العام الإسرائيلي بين اتجاه يدعو إلى استمرار الإبادة الجماعية وآخر يشعر بالقلق من تداعياتها المستقبلية، وهذا الانقسام ليس سوى انعكاساً لإخفاق الاحتلال في تطهير غزة عرقياً، وتهيئة الأرض لمقاومة مسلحة طويلة الأمد.

أما شركاء نتنياهو في الائتلاف اليميني المتطرف فهم يواصلون الحديث عن إعادة المستوطنات إلى غزة، مما يعزز احتمالية إدراج دولة الاحتلال على قوائم الدول المنبوذة دولياً.

رغم ذلك، لا توجد مؤشرات على أن أياً من السياسيين أو الفاعلين في مجتمع الاحتلال مستعدون للاعتراف بأن دولتهم ارتكبت إبادة جماعية، فبعد أيام من تصريحات غولان عاد في مقابلة تلفزيونية لينفي ارتكاب تل أبيب أي جرائم حرب في غزة.

وفيما تواجه هذه التصريحات هتافات الغضب من أنصار الاحتلال في مدن مثل بئر السبع، يُطرح غولان كبديل محتمل لنتنياهو رغم عدم تقديمه أي رؤية أخلاقية أو سياسية بديلة.

المستقبل المرجح هو أن يستمر الغرب في البحث عن شخصيات أو حركات إسرائيلية تنتقد الحرب دون تقديم حلول أخلاقية جذرية، وعلى غرار مراحل سابقة ستتدفق الأموال إلى ”صناعة السلام“ التي تروج للعيش المشترك دون معالجة جذور الصراع ومآلاته.

في ظل هذا الواقع، يبقى الأهم دعم كل بيان ومبادرة تسعى لإنهاء الحرب والاهتمام بما يجري في غزة، ليس فقط من أجل الأطفال، بل من أجل النساء والشباب والرجال وكبار السن الذين يعانون تحت وطأة الحصار والدمار.

ولمنع وقوع كارثة إنسانية جديدة، يجب مطالبة دولة الاحتلال بالاعتراف الكامل بحجم الجرائم التي ارتكبتها على مدى 600 يوم من العدوان المتواصل، وعدم السماح بتكرار هذه المأساة.

للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة