حين يصبح الألم كلمات: كتاب يوثق حكايات الناجين من الإبادة في غزة

بقلم آزاد عيسى 

ترجمة وتحرير نجاح خاطر

في خضم الإبادة الجماعية التي تشنّها دولة الاحتلال على قطاع غزة، عثرت عائلة فلسطينية نازحة على منزل شبه مهدّم لكنه يحميها من المطر، بدا المكان المهجور بحديقته الصغيرة التي لا تزال تنبت فيها براعم الحياة وكأنه ملاذ آمن للعائلة وسط عالمٍ يتهاوى من حولهم.

غير أن هذا الأمل لم يدم طويلًا، فما هي إلا لحظات حتى وضع قنّاص من جيش الاحتلال نهاية مأساوية لفترة الهدوء القصيرة.

راحت الأم تطهو العدس على نارٍ بسيطة فيما كان طفلها الرضيع ذو الستة أشهر ينام على حجرها، حين اخترقت رصاصة صدرها، حاول زوجها إسعافها ونقلها إلى المستشفى، لكن رصاص القناصة حاصره مجددًا، فلم يستطع المغادرة، ونزفت الزوجة حتى فارقت الحياة.

وحين حاول الزوج دفنها في حديقة المنزل، أمطرتهم رصاصات جديدة من جنود الاحتلال، ومع انسداد كل سبل الدفن، لجأ إلى ثلاجة كانت في المطبخ، فلفّ جثمان زوجته بكيسٍ أسود، وثبته بالحبال، ووضعه واقفًا داخل الثلاجة.

أما الأطفال، الذين لم يستوعبوا الكارثة، فكانوا يخاطبون والدتهم كل يوم قائلين: “لماذا لا تتكلمين يا أمي؟”، وبعد عشرة أيام، حين خفتت أصوات الرصاص، أخرج الأب جسدها المتجمّد، ولفّه ببطانية، وبدأ يبحث عن بقعة ليواريها الثرى.

هذه القصة ليست سوى فصلٍ واحد من كتابٍ جديد بعنوان “شاهد على جحيم الإبادة: شهادة من غزة” للكاتب وسيم سعيد، يوثّق فيه سلسلةً من الفظائع التي ارتكبها جيش الاحتلال ضد المدنيين الفلسطينيين.

ويورد الكتاب الصادر عن دار 1804 Books مجموعة من الشهادات والقصص المروّعة من قلب الإبادة التي عاشها قطاع غزة.

الكتابة في العتمة

وسيم سعيد، شاب فلسطيني يبلغ من العمر 24 عامًا، يدرس الفيزياء ومن سكان بلدة بيت حانون شمالي غزة، بدأ يخط كتابه هذا في محاولة لتدوين ما عاشه ورآه بين أكتوبر/تشرين الأول 2023 ويناير/كانون الثاني 2025، حين أُعلن عن وقفٍ لإطلاق النار لأول مرة، فظنّ كثيرون أنه قد يضع حدًّا للإبادة.

لكن سعيد وكما يروي في مقدمته لم يكن قد أنهى الفصل الأول من الكتاب بعد، حتى خرق جيش الاحتلال الهدنة مجددًا، وعادت المجازر لتصبح “الواقع اليومي الذي لا يُحتمل”.

لقد انهار عالم سعيد في دوّامة من النزوح المستمر والدمار الشامل، وغدت حياته سلسلةً من العطش والجوع والصدمة، فقد دمّر جيش الاحتلال مصادر المياه، ومنع دخول الغذاء والمساعدات والاحتياجات الأساسية.

ويقول سعيد إن يومه كان يبدأ بالبحث عن الماء والطعام، وبينما كان يتجوّل في الشوارع المدمّرة، كان يصادف جثثًا مبعثرة على الطرقات، أما في الليل، فقد كان يجلس في الظلام بينما تحوم الطائرات المسيّرة فوق رأسه وتهتز الأرض تحت القصف، لكنه رغم ذلك كان يجد وقتًا ليكتب ويوثّق الجنون من حوله.

كتب سعيد وهو يشعر أن الموت بات وشيكًا، وأن الكتابة هي وسيلته الوحيدة ليترك أثرًا يدل على أنه “كان هنا” يومًا ما.

شاهد على جحيم الإبادة 

يقع الكتاب الذي ألفه سعيد في 113 صفحة، ويجمع بين السيرة الشخصية والتوثيق الميداني في مزيجٍ مؤلم من الشهادة والمساءلة، إنه عمل أدبي وإنساني مروّع يعرّي التكلفة البشرية للإبادة المستمرة في غزة، ويُدين فشل العالم في وقف المجازر.

صاغ وسيم سعيد في مقدمته: “فلتقرأ هذا الكتاب لا كما تقرأ رواية، بل كما تقرأ شاهد قبر، كأن صوتًا من تحت الأرض يقول لك: كنت هنا، وكان يمكن أن أعيش لو أنك قلت شيئًا”.

يبدأ الكتاب من فوضى يوم 7 أكتوبر/تشرين الاول، حين شرع جيش الاحتلال في قصف قطاع غزة بلا توقف، ثم يتابع توثيق طبقات المهانة والمعاناة التي أنزلت بسكان القطاع خلال عامين من الجحيم.

ومع اندفاع أكثر من ثلاثين فردًا من عائلة سعيد في سياراتهم بحثًا عن مأوى، كانت المشاهد التي تواجههم على الطرقات تشبه “يوم القيامة”، فالسوق المركزي في بيت حانون كان مليئًا بأشلاء الجثث، والبيوت تحولت إلى ركام.

انتهى الأمر بوسيم سعيد وأسرته داخل فصل دراسي لا تتجاوز أبعاده خمسة في عشرة أمتار، مع واحدٍ وخمسين نازحًا آخر، وسرعان ما تحوّلت المدرسة إلى مأوى لعشرين ألف شخصٍ آخرين لجؤوا إليها طلبًا للنجاة أو على الأقل لوهم الحماية من القصف.

وبوجود عشرة مراحيض فقط لخدمة عشرات الآلاف من النازحين، صار سعيد يضبط حاجته إلى الحمّام عند الساعة الواحدة فجرًا لتجنّب الطوابير الطويلة.

رواية الألم الجماعي

خلال الأيام التي تلت، وجد سعيد نفسه وسط بحر من الموت والمعاناة، انتقل إلى خيمةٍ صغيرة، ومن هناك بدأ يساعد الغرباء الذين يصادفهم، ومن بينهم رجل يطلب المساعدة لدفن قريبٍ له، ومسعفون يبحثون عمّن يحمل الجثث من سيارات الإسعاف إلى المشرحة.

يقول سعيد أن حواسه هناك كانت تتعرض لتعذيبٍ يوميّ، رؤوس مقطوعة، جماجم مسحوقة، أطراف أطفال متناثرة، وجثث متفحمة كالفحم، وحين كانت الجثث الممزقة تصل إلى المشرحة، كان العاملون يقومون بوزن الأشلاء لتحديد ما إذا كان الشهيد طفلًا أم بالغًا.

وفي أحد فصول الكتاب يقول سعيد، مخاطبًا القارئ بلهجةٍ تمزج الوعي بالغضب: “هل يمكنك أن تتخيل ما أقول؟ هذا يحدث لبشر مثلك، يعيشون على الكوكب ذاته”.

ويضيف محذرًا من الجمود الأخلاقي: “لم أكتب هذا لتبكي أو لتقول لي: مسكين أنت، بل كتبت هذا لأعلّق هذه الكلمات في عنقك، لتتحمل مسؤولية المعرفة، مسؤولية الشهادة”، ويتابع: “أنا بحاجة إلى قارئ لا يغلق الكتاب ثم يتنهد ويذهب ليحتسي قهوته”.

وفي الثلث الثاني من الكتاب، يتخلى سعيد عن مركزية تجربته الشخصية ليفتح الصفحات أمام قصص آخرين عاشوا المأساة نفسها، قائلاً: “من الإجحاف أن أحصر الحكاية في ما رأيته أنا وحدي، سأفتح الصفحات القادمة لأصواتٍ لم تصلها الكاميرات، ولأوجاعٍ لم تُروَ، ولتفاصيل تهزّ القلب أكثر من الانفجارات”.

بهذه الطريقة، يتحوّل الكتاب من شهادة شخصية إلى أرشيفٍ جماعي للذاكرة الفلسطينية تحت القصف، ومن مذكرات النجاة إلى وثيقةٍ إنسانية ضد النسيان.

شاهد على جحيم الإبادة

من بين أكثر فصول الكتاب قسوةً وألماً، ما رواه وسيم سعيد عن مجزرة الطحين في 29 فبراير/شباط 2024، حين أطلق جنود جيش الاحتلال ومرتزقة أمريكيون النار على الفلسطينيين الذين تجمّعوا للحصول على حصص غذائية من شاحنات المساعدات في ميدان النابلسي بمدينة غزة.

في دقائق معدودة، سقط أكثر من 109 شهيداً وأُصيب آلاف آخرون، وأغلب الضحايا، من رجال ونساء وأطفال، أصيبوا برصاصات مباشرة في الرأس والعنق والصدر.

يكتب سعيد أن صديقه أبو مالك، وهو رجل في الأربعين من عمره، نجا من المجزرة، لكنه قال له لاحقاً: “أفضل أن أموت جوعاً على أن أذهب إلى شاحنات المساعدات مجدداً”.

أما صديقه الآخر موسى، فقصّ عليه أنه في أحد الأيام، وبعد مجزرة مشابهة على طريق صلاح الدين، وجد قطعة من اللحم البشري عالقة في شعره، لقد كانت المنطقة قد امتلأت بالجثث بعد أن فتحت الطائرات المسيّرة نيرانها على الحشود.

قال موسى إنه ساعد في دفن تلك القطعة، بعد أن عرف أنها جزء من حنجرة رجل، ثم صلّى عليه ودعا له بالرحمة قبل أن يركض نحو الشاحنة التالية التي ظهرت في الأفق.

يروي سعيد على لسان موسى قوله: “يا وسيم، كان الطحين مغطى بالدماء، ممتزجاً بالطين وأشلاء الناس، وبينما كنا نملأ الأكياس بالطحين، كانت الشاحنات تتحرك فوق بقايا الجثث على الطريق”.

أما المساعدات الجوية التي أسقطتها الطائرات، فكانت أحياناً تودي بحياة الناس بدلاً من إنقاذهم، ذلك أن الصناديق الثقيلة كانت تسقط فوق الحشود، أو تسقط في البحر فيغرق من يحاول الوصول إليها، وقال موسى إن المشهد كان كابوساً: “طيور الجنة تحوّلت إلى تنانين الشر”.

الخبز المغمّس بالدم

وإلى جانب قصص الموت المروعة، يوثق سعيد مظاهر التضامن التي أبقاها الفلسطينيون حية رغم الجوع والموت، فهو يتحدث عن الشجاعة، عن الشبان الذين خاطروا بالذهاب إلى جنوب القطاع للبحث في البيوت المهدمة عن بقايا الطحين، وعن المظلات التي كانت تسقط مع المساعدات فحوّلوها إلى خيامٍ تأويهم.

لكنه لا يغفل التناقض المؤلم بين “الكرامة في الجوع” و”المهانة في البقاء”، ففي أحد المخابز القليلة التي بقيت تعمل في دير البلح، اندلعت مشاجرات بين المنتظرين في الطابور حيث يصف سعيد المشهد قائلاً: “كان صراخ الناس يتعالى، والأقدام تدوس على الأجساد، وكل واحدٍ منهم يحتضن حصته من الخبز كما لو كانت روحه”.

وبينما كان يتدافع في الطابور، ظل يسمع في رأسه صوت أنين أخيه الجائع في الخيمة على بُعد ساعة من المكان، “كان صوت معدته الخاوية في رأسي مثل الرعد”.

هكذا، يضع الكاتب القارئ أمام الصورة المزدوجة للنجاة: مقاومة الجوع، والتشبث بالحياة مهما كان الثمن، وهو يقول: “أجساد نحيلة تتدافع، وكل شخص يحتضن نصيبه بكلتا يديه، كأنه يحتضن روحه”.

حتى الأطفال، الذين خرجوا بحثاً عن الطعام، وجدوا أنفسهم تحت الأقدام، يركضون فقط للهرب لا للعثور على الخبز.

ورغم الفوضى، ورغم أن الجوع حوّل الناس إلى أسرى للغريزة، يؤكد سعيد أن النسيج الأخلاقي للمجتمع الفلسطيني لم يصب بالانهيار، فحتى في ذروة القسوة، بقيت قيم التكافل والرحمة حاضرة.

وفي مقدمة الكتاب، يصف الكاتب موسى السعدة عمل وسيم سعيد بأنه “رسالة من أعماق وادي الموت، من جحيم الإبادة، إلى العرب وإلى الإنسانية جمعاء”.

فبينما كنا نرى مشاهد الدمار على شاشات هواتفنا، بين وجبة العشاء ومشوار العمل، كان وسيم يكتب كلماته تحت القصف، محاطاً بالموت من كل جانب، يحاول أن يوصل إلينا ما يتجاوز حدود الصورة العابرة.

إن ما فعله وسيم سعيد هو ما عجزت عنه الكاميرات والبيانات السياسية، أن يجعل الألم الفلسطيني يتكلم بلغته الخاصة، فالكتابة عنده ليست فقط توثيقاً، بل فعل مقاومةٍ في وجه المحو.

“حين تقرأ، لا تتجاهل صوت الطائرات الحربية، ولا دويّ الانفجارات، ولا صفارات الإنذار، فكلها ما زالت تخترق كل سطر، وتنزلق بين الكلمات، لأنها ببساطة جزء من النص ذاته”

بهذه العبارة يختم موسى السعده تقديمه للكتاب، مؤكداً أن القارئ لا يستطيع الانفصال عن الألم حين يقرأ، لأن النص نفسه مكتوب من بين الركام وتحت النار.

الأدب في مواجهة المحو

يصف الناشر لويس ألداي، من دار Liberated Texts التي ترجمت الكتاب، عمل وسيم سعيد بأنه فعل مقاومةٍ وتحدٍ ضد الإبادة والنسيان، فهو لا يعبّر فقط عن الحزن والفقد، بل يدعو إلى الوعي والمسؤولية والتغيير.

ويقول ألداي: “هذا الكتاب لا يرثي ما حدث فحسب، بل يدعونا لأن نلتزم بما لم يحدث بعد، أن نحاول، بقدر ما تسمح ظروفنا، أن نمنع تكرار ما جرى”.

ولأن وسيم صاغ كتابه أثناء نزوحه من القصف، كما يروي السعده، فقد خرجت لغته مشبعة بصوت الطائرات والدماء والجوع، وملتحمة بتجربة البقاء على قيد الحياة في ممر ضيّق بين الموت والموت، مضيفاً: “لقد كتب من داخل ذلك الممر الضيّق للحياة، وسط سحق المجازر والجوع والظلام”.

شهادة من قلب الجحيم

الكتابة هنا ليست ترفاً أدبياً، بل صرخة وجود، إذ لم يحاول وسيمأن يجمّل المأساة أو أن يصوغها بلغةٍ منمّقة، بل كتبها كما رآها، كما عاشها، وكما رواها له الذين نجا بعضهم وفُقد بعضهم الآخر، “كتبت لأُثبت أنني كنت هنا، وأنني كنت أستحق الحياة”.

ومن بين الكتب الكثيرة التي ستُكتب عن إبادة غزة، ربما سيكون هذا العمل واحداً من أهمها، لا لأنه الأكثر تفصيلاً فحسب، بل لأنه كُتب من قلب الجحيم نفسه.

لقد صاغ وسيم سعيد من رماد مدينته ومن دماء أحبّته وثيقةً للذاكرة الفلسطينية، تذكّر العالم بما فعله صمته، وتحمّله مسؤولية المعرفة التي لا يمكن التراجع عنها، “هذه ليست رواية، إنها شاهد قبرٍ مفتوح، مكتوب بدمٍ لم يجفّ بعد”.

للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة