بقلم أميل الكالاي
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
في مشهد بالغ الفجاجة والهذيان، ظهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو في مؤتمر صحفي بالبيت الأبيض، بعد سلسلة من “المحادثات” التي ضمت إلى جانبهما مجموعة من المتواطئين، ليكشف ذلك عن حقيقة لا لبس فيها: قضية فلسطين لم تكن يوماً مرتبطة “بالشعب اليهودي” أو بفكرة “الوطن الآمن” بعد الحرب العالمية الثانية.
لقد بدأت المسألة منذ وعد بلفور كمحاولة بريطانية أخيرة لإنعاش إمبراطوريتها المتداعية عبر تثبيت موطئ قدم في الشرق الأوسط، أما اليوم، فقد أصبحت مشروعاً إمبريالياً ـ استعمارياً أميركي الطابع، يسعى لفرض نظام جديد يمتد من “إسرائيل الكبرى” كقوة هجومية، وصولاً إلى لبنان وسوريا وإيران، ولا يستثني الأردن والعراق واليمن وسواها من بلدان المنطقة.
يتم تسويق الخطة الأميركية ـ الإسرائيلية الجديدة على أنها محاولة لـ”إعادة تأهيل” الفلسطينيين و”نزع التطرف” عنهم، في حين أنهم الشعب الذي تعرض للتهجير والاحتلال والتعذيب والمجازر المتكررة، ومع ذلك، يستمر قادة دولة الاحتلال في التمترس وراء صورة “الضحايا”.
وكما هو متوقع، تكرر الحديث عن هجمات السابع من أكتوبر 2023، من دون أن يُذكر ولو بكلمة واحدة خلال المؤتمر الصحفي شيء عن المجازر الجارية في غزة، أو عن تدمير واحدة من أعرق مدن العالم، أو عن استهداف فرق الإنقاذ بالقصف المباشر.
“ضحايا” على مقاس الاحتلال
هذه الصورة المقلوبة ليست جديدة، فضحايا الاحتلال ليسوا مجرد اولئك الذين يعانون بسبب”المتطرفين”، بل هم جزء من إجماع عام على الطاعة العمياء مهما كانت الجريمة، من اغتصاب الأسيرات وخطف وتعذيب الأطباء واغتيال الصحفيين، إلى استخدام الأطفال الجوعى الباحثين عن الغذاء كأهداف للرماية.
ورغم أن جرائم الاحتلال باتت موثقة بشكل يومي، فإن العالم سيحتاج لسنوات طويلة لتوثيق حجم الفظائع بالكامل، وهنا يستحضر الكاتب تعبير المؤرخ دانييل غولدهاغن عن “الجلادين الطوعيين”، الذي أثار الجدل حين استخدم لوصف بعض الألمان في الحقبة النازية.
خطاب هزلي وواقع دموي
بدأ ترامب المؤتمر الصحفي بأسلوب ساخر، محاولاً تقمص “أصالة زائفة”، حين نطق اسم اتفاقيات أبراهام على طريقته الخاصة قائلاً “Ahh-braham” بدلاً من “Ay-braham”. ثم راح يهذي بين الماضي والمستقبل، من العقود إلى القرون، متحدثاً عن “حروب لا تنتهي” في الشرق الأوسط، وكأننا في نسخة ديزني ـ توراتية للخيال الأميركي عن “إسرائيل”.
أما توقيت الإعلان فلم يكن عفوياً، فقبل أيام فقط كان نتنياهو يخاطب قاعة شبه فارغة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، مستخدماً مجسماته المعتادة، بينما خرج مئات الآلاف في مظاهرات عالمية دعماً لفلسطين، وفي الوقت نفسه، شلّ إضراب عام إيطاليا، وانطلقت سفن “أسطول الصمود” إلى غزة محمية بقطع بحرية وطائرات من إيطاليا وإسبانيا وتركيا.
ومع كشف إيران مؤخراً عن وثائق تتعلق بالبرنامج النووي للاحتلال، كان لا بد من إعادة ضبط السردية سريعاً، وكما قال محمد فرح، عضو المكتب السياسي للحوثيين في اليمن، في تصريحات لقناة الميادين: “خطة ترامب تهدف إلى امتصاص الغضب العالمي من دولة الاحتلال وإضعاف التضامن الدولي مع فلسطين”.
أما زياد النخالة، الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي، فقد وصف الخطة بأنها “تعكس الموقف الإسرائيلي بأدق تفاصيله” واعتبرها “وصفة لاستمرار العدوان على الشعب الفلسطيني”، مضيفاً أنها “محاولة لفرض وقائع جديدة عبر الولايات المتحدة بعدما فشلت دولة الاحتلال في تحقيقها بالحروب المتعاقبة”، محذراً من أنها “وصفة جاهزة لإشعال المنطقة كلها وإذكاء مزيد من الصراعات”.
غزة حقل تجارب
لقد بدا واضحاً أن الخطة ليست سوى امتداد لذات السياسات حيث تتحول غزة إلى حقل تجارب لوسائل السيطرة على الشعوب.
فبدلاً من الحصار والإبادة، أو استخدام منصات الذكاء الاصطناعي مثل “لافندر” لإنتاج قوائم استهداف طويلة، ستُستخدم عبارات مثل “إعادة التأهيل” و”الاختبارات الأمنية” لفرز الفلسطينيين وتحويلهم إلى قوة عمل رخيصة في “مناطق خاصة”.
وهكذا يُراد لشعب بأكمله أن يعيش شكلاً جديداً من العبودية، عبر “تسليعه” وتحويله إلى مادة بشرية تديرها الشركات الكبرى والبنك الدولي وصندوق النقد، تحت وصاية شخصيات مثل توني بلير، دون أي استقلال سياسي أو سيطرة على الأرض أو الموارد أو المصير.
وإذا نجحت هذه التجربة، سيتحوّل المزيد من البشر قريباً إلى مادة قابلة للتسويق ومجرد أرقام تُرعى داخل منظومة تقودها مؤسسات عملاقة وأثرياء لا يكترثون إلا لمعدلات الانتاج والربح.
وهذا ليس تخيلاً علمياً محضاً، فأصوات رجال الأعمال مثل بيتر ثيل وأليكس كارپ تُسمع بوضوح، ولا أحد يخفي نيّته، فما تريده القوى الغربية في هذه المرحلة من انحدار حضاري واضح وهو مزيد من الاستخراج ومزيد من السيطرة، وما خلا ذلك قابل للتجاهل.
من شأن كل ذلك أن يجعل النتيجة الحتمية طبقة بشرية جديدة تُعامل كقوة عمل رخيصة، تدخل في أنظمة عمل وسكن منفصلة، وتُدار بواسطة شركات خاصة وبنوك دولية ومؤسسات مالية، وكل ذلك تحت غطاء إعادة الإعمار أو التطوير أو “التأهيل”، ولن تكون هذه الشعوب سوى عبيداً لأنظمة تمارس سيطرة تقنية واقتصادية وسياسية على نطاق لم يسبق له مثيل.
اعتذار وتمجيد للقاتل
وعلى مستوى آخر، هبط رئيس حكومة الاحتلال إلى مستويات لا توصف، فاعتذاره لقطر بعد الهجوم الأخير على الدوحة جاء بمعنىٍ عملي مفجع: “عذراً ضربنا مواطِنكم بدلاً من مسح كامل فريق التفاوض التابع لحماس”، إن عبارة من هذا النوع، إن صحت رواياتها، تكشف عن عقلية لا ترى في الدم البشري شيئاً سوى متغير إحصائي.
والأسوأ من ذلك أنه مدح “شجاعة” جنود جيش الاحتلال، شجاعة تُصوَّر عبر مشاهد بربرية من القناصة والتقنيات الآلية التي تقتل في البيوت والمستشفيات، وتستهدف الأطباء، وتستبيح رؤوس الأطفال القاصرين، وتفوهات المديح هذه تأتي بينما يشاهد العالم باستمرار ما تشهده غزة من تدمير ممنهج واستخدام تقنيات قاتلة ببرود لا يمكن استيعابه.
ولكن روح التمرد لم تختفِ، فكما شهدنا في الولايات المتحدة أعمال احتجاجية جريئة من شخصيات دفعت حياتها ثمناً للرفض، مثل آرون بوشنيل الذي أضرم النار في نفسه احتجاجاً على ما يجري في غزة، إلى اعتقالات لناشطين وناشطات مثل جوزيفين غيليبيو التي أوقفتها الشرطة أثناء تعطيل جلسة استماع في الكونغرس، فإن هناك أيضاً من يفضحون الانتهاكات من داخل المؤسسة العسكرية، كما فعل الضابط السابق أنتوني أغيولار، الذي كشف عن تجاوزات وهَدمِ أخلاقيات مؤسساتية في دعم جرائم بحق الإنسانية.
في عصرٍ لم تعد تُقاس فيه الشجاعة بموازين الدولة فقط، برزت مواقف تجعل من رفض الطاعة الفعل الوحيد الذي يستحق الثناء على نحو يذكرنا بجنود أميركيين في حقبة فيتنام رفضوا أوامر ارتكاب القتل، وهؤلاء الخارجون عن الطاعة هم الذين يستحقون لقب “الإنسانيين” بحق.
من التضليل إلى استمرار القمع
عموماً فإن الخطة الأميركية لا تسعى لحل الصراع بل لإعادة تشكيله لصالح منظومةٍ إمبريالية جديدة، وهذه ليست عملية سلام بل هندسة اجتماعية واقتصادية وسياسية تهدف إلى إخضاع شعب عقب آخر عبر ما قد يوصف بـ “التحديث السلطوي” الذي يمحو أي إمكانية للسيادة أو القرار الذاتي.
المشهد برمته يشي بأنّ أيّ “حل” يُعرض الآن في غياب مساءلة حقيقية عن الفظائع المرتكبة وعن حقوق الضحايا لن يكون سوى غطاء لمزيدٍ من الهيمنة، وفي غياب ضمانات دولية حقيقية تضع حقوق الشعب الفلسطيني في المقدمة، ستبقى هذه المقترحات وصفاتٍ للهيمنة الخفية والمعلنة على حد سواء.
ختاماً، ما طرحه مؤتمر البيت الأبيض لم يكن سوى إعادة توزيعٍ لآليات القمع باسم “الاستقرار” و”الإعمار”، وفي مقابل الكلام الكبير عن خطط لإعادة الإعمار وإعادة تأهيل المجتمع، ثمة خشية حقيقية من أن تتحول هذه الخطط إلى أدوات لنهب الموارد، وتحويل المحاصرين إلى قوة عمل رخيصة تُدار وتُستغل باسم التطوير.
لكل من لا يزال يراهن على خطاب الإعلام الغربي ونواياه، تذكّروا أن التاريخ يفضح من يختار التحالف مع المستبدين بدل الانحياز إلى مبادئ حقوق الإنسان والعدالة، وعلى الضمير العالمي أن يختار جانب الحقيقة والإنسانية لا جانب المنفعة والسيطرة.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)